أين يسير الشعر السوري؟!
مر الشعر السوري بتحولات هامة في بنيته وتوجهاته في النصف الأخير من القرن الماضي وصولاً إلى اليوم، جاءت انعكاساً لتغيرات عاصفة في المجتمع تاركةً أثرها في الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي، وأبرز هذه التغيرات ما جرى إثر أحداث الثمانينيات الدامية بين الإخوان المسلمين والسلطة، والتي أدت إلى انحسار الحراك الأدبي مع نكوص مجتمعي وتكريس للقمع، حصلت آنذاك صدمة للشعر وللأحلام الكبيرة التي عاشت في مرحلة الستينيات والسبعينيات التي ترافقت مع تيارات إبداعية واسعة حاملة لخطاب إيديولوجي جاهز ورموز شعرية نمطية (العنقاء وتموز لدى القوميين السوريين مثلاً) وأسماء شعرية مكرسة من تيارات سياسية في معظم الحالات (على سبيل المثال: أدونيس والماغوط قوميان سوريان، وشوقي بغدادي ونزار دعمهما الحزب الشيوعي ومحمد عمران وممدوح عدوان بعثيان)، وفي تلك المرحلة نستطيع تحديد ثلاثة تيارات أساسية كانت سائدة يمثلها كل من محمد الماغوط وأدونيس ونزار قباني باعتبارهم شعراء سوريين ويمكن إضافة مظفر النواب الذي عاش في سورية فترات طويلة، وأثر في الشعر العربي والسوري. بعد الثمانينيات حصلت حالة من الخواء والعقم مع سيطرة للرهابات وتجذرها في اللاوعي، وقتها تخلى الشعراء عن تياراتهم وفقدوا الثقة في آبائهم الشعريين، وتركوا الخارج ليسيروا في دروب أرواحهم، وفقدوا الثقة بالجماعة ليرتدوا إلى الفرد المتألم والعاجز والثائر غير القادر على الصراخ، وتركوا الأفكار الكبرى نحو تفاصيل الحياة الصغيرة، هذا ما أدى تدريجياً إلى انحسار تيار نزار قباني وأدونيس ليبقى الماغوط منارة لهؤلاء الشعراء فسيطرت القصيدة الشفوية أو ما تسمى بالقصيدة اليومية بكل ما فيها من نزق وخوف ورعوية، واستمر ذلك حتى التسعينيات. وفي الألفية الجديدة تشكل جيل من الشعراء مقطوع الجذور والأحلام، فهو لم يعش مرحلة المد السياسي والاجتماعي والثقافي بل على العكس جاء في حالة من القحط وشبه انعدام للحراك مع رهابات هائلة ولم يجرب أي شكل من أشكال العمل الجماعي الحر، وذلك بالترافق مع احتكار المنابر وهي سلطوية أو شبه سطوية، وفساد دور النشر التي أصبحت أقرب لدور النخاسة منها لدور نشر، وسيطرة الشللية بسبب غياب التيارات الإبداعية فعلياً، وسيطرة عدد من الأسماء المكرسة ورفضها لما يختلف عنها وتراجع المجلات المختصة بالأدب، مع سيطرة للنقد السطحي أو الصحفي حيث يمكن تغيير اسم الديوان والشاعر فتصلح المادة لسواهما مع قوالب جاهزة لتقسيمات غريبة كالشعر النسوي والذكوري والمحير والشعر الإيروتيكي والمحافظ، ولكل نوع نقده الجاهز. وللأسف فشلنا في إنتاج مدارسنا النقدية وفشلنا في تعريب المدارس النقدية الأوروبية ونسينا أن النقد يأتي بعد الأدب معيداً إنتاجه بتفاعل حقيقي، ولعل أجمل وأغنى وجهات النظر حول النقد هي اعتباره إبداعاً تحليلياً إن كانت الكتابة إبداعاً تركيبياً، وبالتالي النقد يحتاج لروح مبدعة واثقة متمكنة من أدواتها المعرفية. ما سبق بالإضافة إلى العديد من العوامل الأخرى ساهم في تشكيل جيل مغيب الملامح، ومغيب التوجهات، والكارثة تكرست مع احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، التي كان من المفترض أن تكون باباً لنقل الثقافة من طقس نخبوي إلى فعلٍ حياتي يمس المجتمع بكل فئاته، وهذا يحتاج لحرية لا تقدر السلطة على منحها، وبسبب افتقار مؤسسات السلطة للمثقفين أدخلت عددا من المثقفين وأنصاف المثقفين من مشارب مختلفة بعضهم كان معارضاً، لكنهم تخلوا عن أفكارهم ودخلوا لعبة الانتهازية وتسلموا مناصب سلطوية، وأخطر ما في الأمر أنهم حولوا المجانية التي يكتب فيها العديد من الشعراء الشباب إلى مشروعٍ للشعر السوري الجديد، حيث أصبحت الكتابة أقرب إلى سرد نثري عام، مشتت يشبه الخواطر الصحفية في أحسن الأحوال، بعيداً عن التكثيف والانزياح بدون أي توظيف لذلك في النص، مع تكريس لعدد من الأساليب اللغوية الركيكة كاستخدام الاسم الموصول وأدوات التشبيه في غير مواضعها، وعدم توظيف توازن الأبيض والأسود في النص واستسهال للقصيدة اليومية حيث تتحول المعالجة السطحية للفكرة والقفشات إلى الطريق الأسهل للكتابة، ومن ذلك مقطع يأخذ صفحة كاملة في ديوان "أبحث عنك على google" لقيس مصطفى الذي فاز بالمركز الأول في مسابقة الشعر الصفحة 51: "إذا كنت ستأتين/ عندما أكون جالساً في نفسي/ ثم تطلبين أن أحضّر لك قهوة/ فلا تجيئي"، وجاء ذلك على حساب التجارب الأخرى الحداثية التي تملك غنى وبحثاً عميقين، وبالتالي تمت محاولة تشويه الحداثة في الشعر السوري عبر تكريس مجموعة من الأسماء تكتب بنفس التوجه، وكأنها نسخة واحدة مع تعديلات بسيطة مع محاولة تقديمها إلى العالم على أنها المعبرة عن الشعر السوري، وعن جيل الشباب مع تسميتها ب "الحداثة الجديدة"، وذلك عبر مسابقة للشعر الشاب أنتجت اثني عشر ديواناً يغرق معظمها في المجانية الشعرية، لتكون الثورة هذه المرة على مضمون الشعر باعتبار أن شعر النثر ثورة على شكل الشعر، وأمسى تعريف الشعر في العديد من الدراسات النقدية بـ "كتابة اللاشعر"، والأسوأ أن محكّمي هذه المسابقة لا يحوزون اعترافاً شعرياً بل بعضهم يرتكب أخطاءً نحوية وإملائية في كتابته، وبعضهم يكتب بركاكة لغوية مدهشة، أشبه ما تكون بالشعر المترجم، ومن ذلك المقطع التالي من نص لحازم العظمة: "عاد يشبه أن تطأ بقدمك في حافةٍ طريةٍ من ليلٍ كهذا/ أن ليلاً غيرهُ باتساعِ رصيفٍ وبرارٍ أمامه.../ إلا أن تسهى/ و تتذمر/ وتشتكي". كل ما سبق أدى إلى تبني مؤسسة لمشروع المجانية في الشعر السوري وهذا ما نعترض عليه لا على الأفراد، فمن حق أي شخص أن يكتب كما يشاء، لكن أن تتبنى مؤسسة مشروعاً خطيراً فهذا أمر يحتاج للفضح والتعرية. وللأسف استمرت المؤسسة التي أنجبتها احتفالية دمشق بالوجود بعد انتهاء الاحتفالية مع صراع مع مؤسسة سلطوية ثانية هي اتحاد الكتاب العرب التي أساءت للشعر أيضاً عبر عقود، وبالتالي أمسى طريق الشعر السوري أكثر ظلمة لولا منافذ خارج هذا الحصار الذي يحولنا لمنفيين في أوطاننا، وأقصد مواقع الإنترنت التي استطاعت أن تشكّل مخرجاً هاماً للعديد منا، شكلت فضاءً حراً ومتجدداً واستطاعت أن تحدد ملامح الشعر العربي الحديث وساهمت في بلورته وتحديد مشاريعه الأكثر غنىً، ولعلها ستبقى لوقتٍ طويل المنابر الأكثر أهمية في الثقافة العربية. شاعر وطبيب سوري
مر الشعر السوري بتحولات هامة في بنيته وتوجهاته في النصف الأخير من القرن الماضي وصولاً إلى اليوم، جاءت انعكاساً لتغيرات عاصفة في المجتمع تاركةً أثرها في الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي، وأبرز هذه التغيرات ما جرى إثر أحداث الثمانينيات الدامية بين الإخوان المسلمين والسلطة، والتي أدت إلى انحسار الحراك الأدبي مع نكوص مجتمعي وتكريس للقمع، حصلت آنذاك صدمة للشعر وللأحلام الكبيرة التي عاشت في مرحلة الستينيات والسبعينيات التي ترافقت مع تيارات إبداعية واسعة حاملة لخطاب إيديولوجي جاهز ورموز شعرية نمطية (العنقاء وتموز لدى القوميين السوريين مثلاً) وأسماء شعرية مكرسة من تيارات سياسية في معظم الحالات (على سبيل المثال: أدونيس والماغوط قوميان سوريان، وشوقي بغدادي ونزار دعمهما الحزب الشيوعي ومحمد عمران وممدوح عدوان بعثيان)، وفي تلك المرحلة نستطيع تحديد ثلاثة تيارات أساسية كانت سائدة يمثلها كل من محمد الماغوط وأدونيس ونزار قباني باعتبارهم شعراء سوريين ويمكن إضافة مظفر النواب الذي عاش في سورية فترات طويلة، وأثر في الشعر العربي والسوري.
بعد الثمانينيات حصلت حالة من الخواء والعقم مع سيطرة للرهابات وتجذرها في اللاوعي، وقتها تخلى الشعراء عن تياراتهم وفقدوا الثقة في آبائهم الشعريين، وتركوا الخارج ليسيروا في دروب أرواحهم، وفقدوا الثقة بالجماعة ليرتدوا إلى الفرد المتألم والعاجز والثائر غير القادر على الصراخ، وتركوا الأفكار الكبرى نحو تفاصيل الحياة الصغيرة، هذا ما أدى تدريجياً إلى انحسار تيار نزار قباني وأدونيس ليبقى الماغوط منارة لهؤلاء الشعراء فسيطرت القصيدة الشفوية أو ما تسمى بالقصيدة اليومية بكل ما فيها من نزق وخوف ورعوية، واستمر ذلك حتى التسعينيات. وفي الألفية الجديدة تشكل جيل من الشعراء مقطوع الجذور والأحلام، فهو لم يعش مرحلة المد السياسي والاجتماعي والثقافي بل على العكس جاء في حالة من القحط وشبه انعدام للحراك مع رهابات هائلة ولم يجرب أي شكل من أشكال العمل الجماعي الحر، وذلك بالترافق مع احتكار المنابر وهي سلطوية أو شبه سطوية، وفساد دور النشر التي أصبحت أقرب لدور النخاسة منها لدور نشر، وسيطرة الشللية بسبب غياب التيارات الإبداعية فعلياً، وسيطرة عدد من الأسماء المكرسة ورفضها لما يختلف عنها وتراجع المجلات المختصة بالأدب، مع سيطرة للنقد السطحي أو الصحفي حيث يمكن تغيير اسم الديوان والشاعر فتصلح المادة لسواهما مع قوالب جاهزة لتقسيمات غريبة كالشعر النسوي والذكوري والمحير والشعر الإيروتيكي والمحافظ، ولكل نوع نقده الجاهز. وللأسف فشلنا في إنتاج مدارسنا النقدية وفشلنا في تعريب المدارس النقدية الأوروبية ونسينا أن النقد يأتي بعد الأدب معيداً إنتاجه بتفاعل حقيقي، ولعل أجمل وأغنى وجهات النظر حول النقد هي اعتباره إبداعاً تحليلياً إن كانت الكتابة إبداعاً تركيبياً، وبالتالي النقد يحتاج لروح مبدعة واثقة متمكنة من أدواتها المعرفية.
ما سبق بالإضافة إلى العديد من العوامل الأخرى ساهم في تشكيل جيل مغيب الملامح، ومغيب التوجهات، والكارثة تكرست مع احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، التي كان من المفترض أن تكون باباً لنقل الثقافة من طقس نخبوي إلى فعلٍ حياتي يمس المجتمع بكل فئاته، وهذا يحتاج لحرية لا تقدر السلطة على منحها، وبسبب افتقار مؤسسات السلطة للمثقفين أدخلت عددا من المثقفين وأنصاف المثقفين من مشارب مختلفة بعضهم كان معارضاً، لكنهم تخلوا عن أفكارهم ودخلوا لعبة الانتهازية وتسلموا مناصب سلطوية، وأخطر ما في الأمر أنهم حولوا المجانية التي يكتب فيها العديد من الشعراء الشباب إلى مشروعٍ للشعر السوري الجديد، حيث أصبحت الكتابة أقرب إلى سرد نثري عام، مشتت يشبه الخواطر الصحفية في أحسن الأحوال، بعيداً عن التكثيف والانزياح بدون أي توظيف لذلك في النص، مع تكريس لعدد من الأساليب اللغوية الركيكة كاستخدام الاسم الموصول وأدوات التشبيه في غير مواضعها، وعدم توظيف توازن الأبيض والأسود في النص واستسهال للقصيدة اليومية حيث تتحول المعالجة السطحية للفكرة والقفشات إلى الطريق الأسهل للكتابة، ومن ذلك مقطع يأخذ صفحة كاملة في ديوان "أبحث عنك على google" لقيس مصطفى الذي فاز بالمركز الأول في مسابقة الشعر الصفحة 51: "إذا كنت ستأتين/ عندما أكون جالساً في نفسي/ ثم تطلبين أن أحضّر لك قهوة/ فلا تجيئي"، وجاء ذلك على حساب التجارب الأخرى الحداثية التي تملك غنى وبحثاً عميقين، وبالتالي تمت محاولة تشويه الحداثة في الشعر السوري عبر تكريس مجموعة من الأسماء تكتب بنفس التوجه، وكأنها نسخة واحدة مع تعديلات بسيطة مع محاولة تقديمها إلى العالم على أنها المعبرة عن الشعر السوري، وعن جيل الشباب مع تسميتها ب "الحداثة الجديدة"، وذلك عبر مسابقة للشعر الشاب أنتجت اثني عشر ديواناً يغرق معظمها في المجانية الشعرية، لتكون الثورة هذه المرة على مضمون الشعر باعتبار أن شعر النثر ثورة على شكل الشعر، وأمسى تعريف الشعر في العديد من الدراسات النقدية بـ "كتابة اللاشعر"، والأسوأ أن محكّمي هذه المسابقة لا يحوزون اعترافاً شعرياً بل بعضهم يرتكب أخطاءً نحوية وإملائية في كتابته، وبعضهم يكتب بركاكة لغوية مدهشة، أشبه ما تكون بالشعر المترجم، ومن ذلك المقطع التالي من نص لحازم العظمة: "عاد يشبه أن تطأ بقدمك في حافةٍ طريةٍ من ليلٍ كهذا/ أن ليلاً غيرهُ باتساعِ رصيفٍ وبرارٍ أمامه.../ إلا أن تسهى/ و تتذمر/ وتشتكي".
كل ما سبق أدى إلى تبني مؤسسة لمشروع المجانية في الشعر السوري وهذا ما نعترض عليه لا على الأفراد، فمن حق أي شخص أن يكتب كما يشاء، لكن أن تتبنى مؤسسة مشروعاً خطيراً فهذا أمر يحتاج للفضح والتعرية. وللأسف استمرت المؤسسة التي أنجبتها احتفالية دمشق بالوجود بعد انتهاء الاحتفالية مع صراع مع مؤسسة سلطوية ثانية هي اتحاد الكتاب العرب التي أساءت للشعر أيضاً عبر عقود، وبالتالي أمسى طريق الشعر السوري أكثر ظلمة لولا منافذ خارج هذا الحصار الذي يحولنا لمنفيين في أوطاننا، وأقصد مواقع الإنترنت التي استطاعت أن تشكّل مخرجاً هاماً للعديد منا، شكلت فضاءً حراً ومتجدداً واستطاعت أن تحدد ملامح الشعر العربي الحديث وساهمت في بلورته وتحديد مشاريعه الأكثر غنىً، ولعلها ستبقى لوقتٍ طويل المنابر الأكثر أهمية في الثقافة العربية.
شاعر وطبيب سوري