يَدمى قلبُ المرء لكثيرين لم تسعفهم سعة الأعمار ولا مقادير الميلاد أن يعيشوا أياماً كهذه. وتصعد غصّة في حلقي وأنا أتذكر أسماء ممتدة ممن فاتتهم قيامة الميت في ميدان التحرير، ومعجزةُ الله الكبرى في شارع الحبيب بورقيبة. كم كانت الأقدار قاسية عندما سلبت الفريق سعد الدين الشاذلي لحظة مصر التاريخية، ساعةَ انشقت شوارعُها فكانت وردة كالدهان، وبخلت عليه بيوم إضافي واحد، أحسب أنه أعظم حتى من ساعة الصفر في رمضان العبور. هاهو البارليف الوطني الحاكم ينهار برشاش دافق من الدم، وليس من الماء، لتعبر من خلاله الدولة بأسرها، وهاهو الجيل المتنبّه والمشبع بدروس الماضي يرابض منعاً لدفرسوار دستورية تفتك بعبوره المجيد.
مقابل تلك القائمة الكريمة من شخصيات قريبة من قلب المرء، هناك قائمة أخرى ممن تمنّى الإنسان حضورها للحدث لا لشيء إلا لفقء عينيها بجلال المشهد. من هؤلاء، وعلى رأس القائمة عندي، غوستاف لو بون، صاحب دليل الديماغوجيين الشهير (سيكولوجيا الجماهير)، والذي كان موسوليني يضعه بجانب سريره كلما خلد للنوم، وكأنه إنجيل أو مصحف. هذا الكتاب، المثير للإعجاب بغير شك، والشاهد لألمعية صاحبه، تعرض لعملية إحراق مجازية في ميدان التحرير، لا تقل ضراوة عن تلك التي تعرضت لها مقرات الحزب الحاكم وأقسام شرطته في القاهرة. كان غوستاف يشبّه الجماهير بالمرأة، لناحية نزقها وحماقتها وتهورها وانعدام تبصرها بعواقب الأمور، والكلام للخواجا الفرنسي. يشبّه غوستاف الجماهير بالمرأة حيناً، ويشبهها بالطفل حيناً آخر، ثم يشبهها بمجنون خارج عن العقال تارة أخرى، وهؤلاء الأربعة بالنسبة له، الجماهير والنساء والأطفال والمجانين، يتمتعون بقاسم مشترك بائس وحيد: الاستسلام للعواطف والخضوع للدفقات الوجدانية، مقابل فقدانٍ تام لزمام العقل والمحاكمة الواعية للأحداث. إن هذا الاحتقار العام لجموع البشر موجود في ثقافتنا بطبيعة الحال، وهو مختزن على نحو بالغ التكثيف في كلمة 'الدهماء'، والتي تتشارك في تفريعات أصلها اللغوي بطائفة واسعة من المعاني المريعة.
لكننا، ومن أوائل المرات ربما، نشهد جمهوراً قادراً في جماعيته التي تذوب فيها الفرديات العاقلة، أن ينتج عقلاً راجحاً، ويقود بحس جماهيري واعٍ معركة بالغة التعقيد ومترعة بالمخاطر. وإذا كان البعض يكتبون عن حاسة سادسة تستشرف المستقبل، وأخرى سابعة تدل على الأخلاق، فإن حاسة ثامنة للجماهير أصبحت أهلاً للتوثيق. إن الآليات التي حركت الإرادة المشتركة لتلك الجموع الحاشدة على امتداد الخارطتين التونسية والمصرية حَرية بتأمل طويل، لكن المؤكد اليوم بأن سيكولوجيا الجماعة، بوصفها قائمة على تخدير الوعي وتعطيل الإدراك الفردي، قد أصبحت بحاجة لمراجعة جادة. ليس نجاحُ الثورة وحدَه ما يؤهل من قاموا بها للتحرر من التشبيهات التي أطلقها عليهم غوستاف ومنظرو فلسفة الغوغاء السارحة في بلادنا. لقد نجحت ثورات كثيرة حتى من قبل أن يبني الخديوي إسماعيل ميدان التحرير، لكن طبيعة هذه الثورة، وتعقيد الماكينة الأمنية والإعلامية التي واجهتها، بالإضافة لتحركها الهلامي المدهش وهي منزوعة الرأس، مليونية الأيدي، يجعلها جديرة بمقاربة خاصة. لم يكن هناك من غاندي وطني يحرك الجماهير ويكف إرادتها عن الانسياق وراء نفسية جماعية نزقة، ولا كان الحراك معتمداً على كباش دموي بحتٍ مع السلطة، يخرج فيه الأكثر فتكاً وقتلاً واقتحاماً بقصب السبق في معركة التحرر أو البقاء. لقد كان جزء مهم من هاتين الثورتين العربيتين قائماً على استجابات عاقلة ـ وجريئة بنفس القدر- لتطور الأحداث، وهو ما يفسر إلى حد ما سرعة إنجازها، على خلاف ثورات عالمية أخرى استغرق إنضاجها سنوات من المواجهة الدامية.
إن سبباً رئيسياً وراء نمو هذا العقل الجماهيري الراجح يتعلق بفك شيفرة العمل الوطني المحتكر بين السلطة والأحزاب، بحل طلاسم النشاط المنظم الجماعي: باختراق تقني جعل من بناء الوعي العام سلوكاً تشاركياً شعبياً لا حكراً على أجهزة الأعلام الموجّه. هناك مثالان تاريخيان لافتان على هذه الظاهرة، حيث يتيح اختراق تقني دمقرطةً لعملية كانت محتكرة من قبل أقلية، وكلاهما يشير إلى النحو الذي يصبح فيه الانخراط الجماهيري الواسع ثورة فورية في المجال المعني. المثال الأول يأتي من تاريخ الإنجيل، وتلك المحاولات التي مارسها البعض لدمقرطة النص المقدس عبر ترجمته إلى الإنكليزية، وكسر احتكار القساوسة الراطنين باللاتينية لمعناه. لقد كان لتلك الترجمة التي قوبلت بعقوبات وصلت حد نبش قبور المترجمين وحرق جثثهم، كان لها أثر مفصلي في تغيير دور الكنيسة، عبر إخراج كلام الله من وصاية النخبة الدينية، وصبغ اللاهوت بشيء من الاشتراكية. ولغاية اليوم، فإن جذور الثورة البروتستانتية ضد روما تنسب إلى جون وايكليف، أول مترجم للنص المقدس إلى الإنكليزية، والذي يلقبه كثيرون بنجم الثورة الباكر.
المثال الثاني، وقد يكون على شيء من الغرابة، يأتي من عالم الحساب، ودخول الرقم العربي (1،2،3،4) إلى أوروبا ليزاحم منظومة الترقيم الرومانية (I, II, III, IV) عبر ترجمة أطروحة الخوارزمي (كتاب الجمع والطرح وفقاً للحساب الهندي) في القرن الثالث عشر للميلاد. كان النظام الروماني العددي معقداً ـ ولا يزال بطبيعة الحال- وكان إنجاز العمليات الحسابية، حتى ما تعلق منها بالجمع والطرح، يستلزم استخدام العداد الصيني الشهير (Abacus، وهو بذلك كان يجعل من الرياضيات، وحتى الحسابات التجارية الأساسية، حكراً على جماعاتٍ دون غيرها. وكما في ترجمة الإنجيل، فإن الأرقام العربية واجهت مقاومة هي الأخرى، وكم هو لافت أننا ـ ولليوم - نجد الكتب الغربية تدخر الأرقام الرومانية لترقيم الصفحات الطليعية من أي كتاب، لتتحول بعدها إلى الأرقام العربية 'الشعبية'، وكأن الرقم الروماني لم تسقط عنه أبهته البرجوازية حتى اليوم. لكن دخول النظام العربي/ الهندي أتاح لعلوم كالرياضيات، ولتطبيقاتها في التجارة والمحاسبة، أن تكتسب جماهيرية أوسع، وزخماً هائلاً معها.
خلف ملايين تلك الشاشات ولوحات المفاتيح المنزلية المربوطة ببعض عبر آلاف الكيلومترات من كوابل النحاس وألياف الضوء، أتاحت معجزة الإنترنت لكثير من الناس أن تتدرب على نحو يومي على فكرة التجمهر، ووفرت لها وسيطاً شعبياً لتعيد صياغة وعيها العام، وهي أمور بدا أنها انعكست مباشرة عندما تحول التجمهر الافتراضي إلى تجمهر على الإسفلت، واتضح بأن طائفة أساسية من الناس تسلحت من كنانة الوعي بما يكفيها لعبور الهوة الفاصلة بين وهم الضوء النابع من شاشة زجاجية، وثقل الواقع الموجود على الأرض.
في جوهر الأمر، لم يكن نبش قبر جون وايكليف لردع غيره عن ترجمة الإنجيل إلى الإنكليزية مختلفاً كثيراً عن حجب الإنترنت وخدمات الاتصال في مطلع الثورة المصرية، فكلاهما قراران متأخران لردع مستقبلٍ، يحمل هو الآخر شهادة دكتوراه في العناد، وحسم أمره ـ أخيراً- بالقدوم.
كاتب عربي