انتفاضة مصر وسؤال الجيش: هل يقود الثورة المضادة؟

صبحي حديدي

الأسئلة التي تخصّ انتفاضة الشعب المصري العظيمة لا تتضاءل بسبب اتضاح الإجابات عليها، بقدر ما تتضاعف للسبب النظير تماماً: استيلاد أسئلة فرعية من باطن معظم الإجابات التي قد تبدو ملموسة ومنطقية، من جهة أولى؛ وشيوع المزيد، فالمزيد، من الغموض حول تلك الأسئلة التي لا يلوح أنّ أية إجابة عنها توفّر تفسيراً صائباً، واقعي العناصر، وعقلانياً، من جهة ثانية. صحيح أنّ من طبيعة البرهات التاريخية الفاصلة، التي تنذر بالثورات الكبرى، أو تشهد اشتعال شراراتها الأولى، أو تكون مهاداً لسياقاتها المختلفة، أن تطلق سلسلة من الأسئلة الشاقة، العصيّة على إجابات فورية أو سهلة أو سلسة. لكنّ من الصحيح أيضاً، بالمقدار ذاته، أنّ مشهد انتفاضة الشعب المصري لا يفرز معطيات كافية، متجانسة أو متنافرة أو متضافرة، تتيح استخلاص معادلة متكافئة بين السؤال الشائك والإجابة الشافية.

بين تلك الأسئلة، على سبيل المثال، ذاك الذي يخصّ محتوى التحالفات السوسيو ـ سياسية، لكي لا يذهب المرء أبعد في التنقيب عن حدود شرائحها الطبقية والعقائدية والثقافية، كما تكوّنت سريعاً في ساحة التحرير، ومواقع أخرى من أرض مصر، يوم الجمعة 28 كانون الثاني (يناير) الماضي،  ذلك النهار المليوني بامتياز. والأمر، في هذا، لا يقتصر على المحتوى والحدود، لأنه أيضاً يشمل الهيكلية الفعلية التي أتاحت مستويات عالية في التنظيم على الأرض، وتناسقاً بنيوياً في التنشيط والتحريك، وتوحيداً في الشعارات (حتى إذا كانت قد تبدّلت بعدئذ، لاعتبارات يسهل إدراكها).

سؤال آخر تفرضه حقائق قوى البطش الأخرى التي تنامت وتفاقمت، عدداً وعدّة كما يتوجب القول، من حول كبار حيتان الفساد في مصر، ابتداء من جمال وعلاء مبارك، نجلَيْ الرئيس المصري؛ ومروراً بأمثال محمد ثابت (شقيق سوزان مبارك) وحسين سالم (الذي يجمع النهب إلى التطبيع مع إسرائيل)؛ وانتهاء بالأصغر حجماً، وليسوا البتة أقلّ شراسة، من أمثال محمد أبو العينين، أحمد عز، محمد شفيق جبر، أحمد المغربي، محمد لطفي منصور، جلال الزوربا، وسواهم. أين أزلام هؤلاء، وأنصارهم، والمتكسبون من أعمالهم، وحراساتهم، واستطالاتهم هنا وهناك في مختلف أجهزة القمع المصرية؟ وهل يعقل أنّ أفعال "البلطجية"، على بشاعتها، هي ذروة دفاعات هؤلاء عن مكاسبهم الخرافية، طيلة العقود الثلاثة من حكم مبارك؟ وهل يصحّ التفكير بأنّ تلك الصورة المبتذلة لقيام نفر محدود من راكبي الخيول والجمال باقتحام ساحة التحرير، هي أقصى ردود فعل الحيتان؟

سؤال ثالث ينبثق من الغياب الملحوظ لجماعة الإخوان المسلمين خلال الساعات، والأيام، الأبكر من اندلاع الإنتفاضة؛ وما إذا كان تكتيكاً، قبيل العودة بقوّة إلى قلب المشهد، أو تسليماً مؤقتاً بأنّ الرياح لا تجري الآن في صالح الجماعة، ومن الخير الانتظار، قبيل الإلتحام في التوقيت الملائم. صحيح، هنا أيضاً، أنّ التيارات الشبابية المستقلة، كوادر وأنصار "حركة شباب 6 أبريل" و"كلّنا خالد سعيد" بصفة خاصة، لعبت الدور الأبرز في الدعوة إلى التجمّع الشعبي الكبير يوم 25 كانون الثاني (يناير) الماضي؛ وأنّ تطوّرات الإنتفاضة دحرت تلك "الحكمة الشائعة" في الغرب، حول حتمية سيطرة الإسلاميين على حركات الإحتجاج الشعبية العربية، وتصدّرها وقيادتها. لكنّ الصحيح، في المقابل، هو أنّ الجماعة هي الكتلة السياسية الأعلى تنظيماً وتماسكاً وتمويلاً في مصر، ومن المنطقي أن ينتظر المرء منها انخراطاً أوسع في التحرّك، وربما امتطاء الانتفاضة بأسرها.

غير أنّ السؤال الأكبر يظلّ، في يقيني الشخصي، هو ذاك الذي يجيب عن جملة تساؤلات اكتنفت سلوك الجيش المصري، منذ انطلاق الإنتفاضة وحتى ساعة كتابة هذه السطور. هل المؤسسة العسكرية مع الإنتفاضة، أم ضدّها، أم في منزلة بين منزلتين، أم تقف على الحياد التامّ؟ وحتام يبقى سلوكها محيّراً، لكي لا يقول المرء: حائراً، قبيل كسر الجمود والإنخراط في واحد من المعسكرين؟ وهل مبادرة مبارك إلى تعيين رئيس المخابرات العامة، عمر سليمان، في منصب نائب الرئيس (للمرّة الأولى في تاريخ ولايات مبارك)؛ وتكليف أحمد شفيق (القادم، قبلئذ، إلى وزارة الطيران المدني من رئاسة أركان، ثمّ قيادة، القوّات الجوية للفترة الأطول في تاريخ مصر)، برئاسة الحكومة الجديدة بعد إقالة أحمد نظيف؛ هو حصة الجيش القصوى من كعكة التغيير؟

وأجدني أسارع إلى تثبيت إيماني العميق بقدرة الشعب المصري، في مشهديته التعددية العبقرية التي تشهدها ساحة التحرير في القاهرة، وعشرات الساحات الأخرى في هذا البلد العظيم، على الصمود والمقاومة وتشديد العزائم حتى بلوغ الهدف النبيل؛ ويقيني الراسخ بأنّ الشهداء والجرحى والتضحيات كافة، لن تذهب هدراً، ولن يفلح أيّ استبداد في قهر هذه الثقافة السياسية الوطنية المصرية التي تستأنف تراثاً عريقاً في مقارعة الظلم وطلب الحرّية. لكنني، من جانب آخر، لا أملك إلا التشديد على حقّ التشكيك المبدئي في النوايا الإصلاحية، فكيف بتلك الديمقراطية والثورية، للمؤسسات العسكرية التي قادت، واعتاشت طويلاً، وأدامت، أنظمة الإستبداد والفساد عموماً، وأنظمة التوريث والحكم العائلي العربية بصفة خاصة. وأخشى، استطراداً (ليس دون أن أتمنى نسبة خطأ عالية في تقديراتي الشخصية) أن يكون الخيار الختامي للجيش المصري هو قيادة ثورة مضادة تجهض انتفاضة الشعب المصري، وتعيد إنتاج النظام ذاته، بعد تبديلات هنا وهناك في الوجوه، وتجميل هذه الصورة القبيحة أو تلك.

الاعتبار الأوّل، الذي يدفعني إلى يقين كهذا، هو أنّ المؤسسة العسكرية المصرية احتفظت على الدوام بموقع الرئاسة، منذ محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وحتى أنور السادات وحسني مبارك؛ وكان برنامج توريث الرئاسة الذي اعتمده آل مبارك (ليس الرئيس وحده، بل الأمّ سوزان، إسوة بالابنين علاء وجمال، والأخوال حيتان النهب والفساد...) كفيلاً بقطع ذلك الإرث، وتكبيد المؤسسة العسكرية المزيد من الخسائر، وربما التهميش والإضعاف، أو حتى المهانة في الموقع والمكانة. ولعلّ هذه المؤسسة، التي تشرف أيضاً على جهاز المخابرات العامة، قد تنبهت ـ تحرّكها، ربما، تلك القاعدة العسكرية التي ترى في الدفاع خير وسائل الهجوم ـ إلى إمكانية استغلال حركة الشارع المصري في "يوم الغضب"، وإعادة فرض الجيش كرقم صعب (صار اليوم الأصعب عند مبارك، أغلب الظنّ) في المعادلة السياسية الداخلية.

الاعتبار الثاني هو أنّ الانهيار الدراماتيكي الذي أصاب قوى القمع التابعة لوزارة الداخلية (الأمن المركزي، ومباحث أمن الدولة، وجهاز الشرطة) يصعب أن يكون مصادفة محضة، أو نتيجة وحيدة لخطأ جسيم في حسابات وزير الداخلية السابق حبيب العادلي، بافتراض أنه كان صاحب القرار الأوحد في كلّ حال. وإذا تذكّر المرء أنّ أعداد أفراد هذه القوى تتجاوز المليون، مقابل 450 ألف جندي هي عديد الجيش المصري، فإنّ معادلة نقل أمن النظام من وزارة الداخلية إلى المؤسسة العسكرية لا تبدو بريئة تماماً. والحال أنه لم يسبق للجيش أن دخل القاهرة، أو انتشر في أحياء العاصمة على هذا النطاق، عدداً وتسليحاً، منذ توقيع اتفاقية كامب دافيد، في عهد أنور السادات. ومن المعروف أنّ الوحدات العسكرية لم تُبعد عن القاهرة ومحيطها القريب، فحسب، بل جرى عن سابق عمد نشر معسكراتها في مواقع نائية تماماً بالقياس إلى محيط القاهرة.

الاعتبار الثالث هو أنّ ترقية سليمان وشفيق كان قد اقترن بترقية صورة الجيش في أنظار الشارع العريض، والشارع الشعبي بصفة خاصة، وتحويله تدريجياً إلى قوّة ضامنة للتغيير، وحافظة للشعب ضدّ قوى البطش، الأمر الذي لم يثبت عملياً عندما تحرّك "البلطجية" وزعران "الحزب الوطني" فمارسوا ترويع الناس، أو سعوا إلى اقتحام ساحة التحرير. وهكذا، لم يعد من مصلحة المؤسسة العسكرية أن تدافع عن حسني مبارك، أو عن عائلته، أو عن الحزب الوطني (كان مشهد احتراق مبنى الحزب على مرأى من الجيش، دون تدخّل حتى من سيارات الإطفاء، بالغ الدلالة)، أو عن حيتان الفساد (الذين خرج بعضهم من صفوف الجيش في الماضي، بالفعل، لكنّ المؤسسة العسكرية لم تعد تحصل من جمل الفساد إلا على أذنه، بالمقارنة مع أجهزة وزارة الداخلية).

الاعتبار الرابع هو استقرار السياسة الأمريكية، وبعد حماقة وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون في امتداح "نظام مستقر" في مصر، على المطالبة بتغيير فوري يبدأ الآن، وليس في موعد الإنتخابات الرئاسية المصرية القادمة؛ الأمر الذي يعني اعتراف البيت الأبيض بأنّ تسليم الصلاحيات الرئاسية إلى نائب الرئيس هو جوهر التغيير المطلوب. وفي هذا الخيار تناقض فاضح، لأنّ الدستور المصري الراهن لا يعطي رئيس الجمهورية الحقّ في تخويل الصلاحيات الرئاسية لأي شخص آخر، وأنّ شغور منصب الرئيس يقتضي إجراءات دستورية أخرى مختلفة، ليس في عدادها تخويل نائبه... الذي لم ينتخبه الشعب أصلاً.

ولقد لوحظ أنّ واشنطن أسقطت ورقة الحياء الدبلوماسية الأخيرة، حين توقفت عن التعاطي مع مبارك نفسه، فاستمعنا إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما ينخرط في امتداح الجيش بدل الرئاسة المصرية. كما رأينا كلنتون (وليس جو بايدن، مثلاً) تتصل بالنائب سليمان، لتخبره بأنّ أعمال العنف التي دارت في ميدان التحرير، ليل الأربعاء، هي "تطوّر مروّع"، مطالبة بـ"محاسبة المسؤولين عن أعمال العنف"، وكأنّ النائب بريء من أفعال سيّده. أخيراً، بادر رئيس الأركان الأمريكي، الأدميرال مايك مولن، إلى الاتصال بنظيره المصري الفريق سامي عنان، ودعاه إلى "استعادة الهدوء"، معرباً عن "ثقته في قدرة الجيش المصري على توفير الأمن للبلاد"... وكأنّ العسكر، وليس القيادة السياسية المدنية، هم أصحاب القرار!

فإذا صحّ بعض أو جميع هذه الاعتبارات، فإنّ معضلة المؤسسة العسكرية سوف تتمثل في الخطوة الحاسمة اللاحقة، والتي يمكن اختصارها في السؤالين التاليين: الآن وقد أفلح الجيش في استغلال الانتفاضة الشعبية، فنجح في قطع أجندة توريث جمال مبارك، وأبقى الرئاسة في عهدة المؤسسة العسكرية، من خلال سليمان وشفيق حتى إشعار آخر؛ كيف يمكن إخلاء الشوارع وإعادة الشعب إلى البيوت، دون إراقة الدماء، ودون تلطيخ سمعة الجيش؟ بل كيف يمكن الخروج بمكاسب إضافية، بينها تلميع صورة العسكر، أكثر فأكثر؟ وكيف يمكن إزاحة مبارك، الذي صار أسير المؤسسة في كلّ حال، دون إهانته كرجل عسكري سابق في كلّ حال، وإذلاله ينطوي على إذلال رفاقه الضباط في نهاية المطاف؟

هنا الوجه الآخر من الخشية، أي تورّط الجيش، سواء عن طريق السكوت أو التواطؤ أو المشاركة الفعلية، في مزيد من أعمال الترويع الأمني ضدّ الأهالي، وضدّ المعتصمين والمشاركين في الانتفاضة بصفة خاصة؛ ثمّ تشغيل "البعبع" الذي يخشاه الغرب أكثر، أي التلويح بأخطار انقضاض الإخوان المسلمين، وتدفق أفواج المتطوعين من الصومال وإثيوبيا؛ بحيث يصبح الحلّ الأمني المناط بالجيش أبعد ما يكون عن انقلاب العسكر على المجتمع المدني، وأقرب إلى خشبة الخلاص.

وإذا لم تكن هذه هي الثورة المضادة الكلاسيكية، فإنها واحدة من تنويعاتها الأحدث، والأخبث!