غضب الثقافة: فلتغسل الصحراء رمالها القذرة

مطاع صفدي

حان الوقت ليرفض العالم العربي نظامه السياسي، يعتبره إهانة متمادية لإنسانيته. فإن حفنة من أشباه الأشخاص، أشباه الأمييّن المتخلفين، أشباه المجرمين البدائيين، قد يُعَدون بأصابع اليدين والقدمين أو أكثر قليلاً، يتحكمون بمئات الملايين. هؤلاء تخصصوا طيلة عقود بإيذاء الذات في أخصّ مشاعرها الطبيعية. تفنّنوا في تحطيم كرامتها، في تبديد أول شروطها الوجودية، بدءاً من احترام المواطن العادي لاسْمه، لمجتمعه، لجنسيته، لكونه الإنسان، في نظر ذاته قبل الآخرين. كاد العربي يرفض انتماءه للأمة الفاشلة، لمجاميع من الكائنات العبيد؛ فقدوا إحساس العبودية، اعتادوا أن يَظلموا أنفسهم بالتعامي المتمادي عن ظلم الطغاة لهم. لم يعد الإذعان قدراً سياسياً أو غيبياً، صار خياراً جماعياً أوحدا، عندما لم يعد القطيع يعترف بخيارات أخرى، ما عدا عصا الراعي الشرس فوق رؤوسهم، وسكّين الجلاد في انتظار أعناقهم المحنية.
الاضطهاد السلطاني لكلية المجتمع، والتدمير الاخلاقي لأفراده، هما الحاكمان بأمرهما في كلِّ عاصمة عربية أمست تنتمي إلى عناوين سجونها وباراتها معاً. ماذا يفعل الطغيان بالمجتمعات المستقلة حديثاً عن الاستعمار الغربي.. إنه يقضي على إنسانيتها المتبقية لها ما بعد عصور الإنحطاط والظلام. يحرم هذه الإنسانية من حق التفتح والإبداع لإمكانياتها الكامنة والمُكتسبة. فقد يفوز المجتمع ككل بحرية الاستقلال، لكن الطغيان الذي يختطف سلطان الاستقلال، سوف يمارس مهمته المركزية في اغتيال حريات أفراده.
فما نفع الاستقلال الوطني لمجتمعٍ تتجدّد فيه عبودية غالبيةِ أبنائه لصالح الفئويات القليلة من المتسلطين على أخصّ مقدراته الحياتية والحضارية. فالاستعمار الداخلي المسيطر على معظم شعوب الأمة، صادر مستقبل هذه الشعوب، بحرمانها المنظم من أبسط حقوقها الطبيعية، في ممارسة إنسانيتها؛ ذلك أن الطغيان لا يسلب الحرية السياسية وحدها، إنه يستلب الفرد حق التصرف بوجوده عينه؛ فالحرية السياسية هي الحدّ الفاصل بين التخلف والتقدم على مستوى الإنسان الفرد، وليس على مستوى المجتمع فقط.

لقد فهم جيل الاستقلال الأول خلال الربع الثالث من القرن الماضي، هذه الحقيقة، وذلك منذ أن ابتدأ الصراع حول: من يحكم دولة الاستقلال. وهو عيْنُ السؤال المطروح حالياً على ثوار تونس ومصر. فمن سوف يحكم عصر التحرر من سراق الاستقلال. هذه السرقة المتمادية منذ خمسة ـ ستة عقود. وقد نجح السرَّاق هؤلاء في معظم الجولات التي خسرها الأحرار وأشباههم. لكن الفارق بين خيبات الماضي القريب والمستمر، وبوادر الثورة الشبابية، هو قانون استحضار الجماهير إلى مقدمة المسارح الثورية والانقلابية، ثم اختفائها سريعاً. هكذا كان يجري مبدأ تداول السلطات العليا، محصوراً بين أيدي الأقل من رجال الثورة والأكثر بين أيدي المغامرين المتسلطين خلال العهد الاستقلالي الأول، والموصوف خاصة بالحراك القومي والتقدمي. إلى أن تمَّ الاستغناء نهائياً عن القواعد الشعبية؛ انسحبت الجماهير في البداية طوعاً عندما فقدت الثقة بأدعيائها الحاكمين، ثم جرى تهميشها وقمعها، ومنعها من أية عودة إلى بعض أدوارها القديمة؛ لقد ولدت دولُ الطواغيت شبه المؤبدة من رحم دولة الاستقلال، المفضوح زيفُه عاجلاً، وبعدها من دولة الثورة الفاشلة أو المحبطة، ومن نقيضتها (الصورية) دولة الوصاية العشائرية والأجنبية؛ هكذا أصبح مفهوم الأمن القومي والقطري خاضعاً لهذه المعادلة: بقاء دولة الطواغيت المؤبّدة مرتهن بانعدام الوجود السياسي لمجتمعاتهم، فهل للثورة الشبابية مصير مختلف؟

لكن كان لهذه المعادلة سابقاً أن تصمد وتستمر عقوداً، وأن تعطي لبعض رموزها السلاطين صفةَ الأقدمية الزمنية في السلطة المطلقة، من دون حكّام العالم جميعاً، وأن تجعل شعوبها تفوز بأتعس الأرقام القياسية، بين أمم الأرض قاطبة، في معدلات التنميتين البشرية والمادية، وفي ظلّها عاشت الثقافة عصر الالتباس الأكبر في ممارسة صناعة الكذب المزدوج على الواقع والذات معاً. حتى لا تمضي أهم حقبة معاصرة من يقظة الوعي، ومحاولة الانبثاق العربي مجدداً في خارطة عالم مغاير كلياً لما كان عرفه العرب من أنماط العيش والتعامل والتفكير قبل عشرة قرون على الأقل، وامتدادها طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، نقول حتى لا تنقضي هذه الحقبة في مهبّ الريح، ويطويها النسيان أو التناسي كما طوى قروناً عديدة سابقة من غياب الأمة عن ذاتها والإنسانية حولها، فإنه يبدو أن من أخطر المهمات الحضارية وربما من أنبلها هي أن تلتقط النُخبةُ المثقفةُ الجديدة، المبادرةَ برفقة ذلك الجيل الذي عانى ولا يزال، جدليةَ النهضة والظلمة معاً، منخرطاً في تجارب الزمن الضائع، وأن تستقرئ محصولها الغني بما تنطوي عليه مآثر الوقائع الفاصلة، والرموز والدلالات المُلتبسة والخافية.. ثم تُعيد بناءَها وفق أنساق من الوحدة المتكاملة، قد تساعد على استنهاض ذاكرة جماعية، تجعل الماضي القريب حيّاً مشاركاً بوقائعه المظلمة والمنيرة معاً، في إنتاج ماسوف يتجاوزه نحو مستقبلٍ مختلفٍ، لا يكفّ عن أفعال التقييم والمضاهاة بين ما ينبغي عليه أن ينتجه هو ضداً على نواقص الماضي وارتكاباته، وبين ذاكرة الشهادة العادلة على تمارين الحرية الأولى الوليدة، ومحاولاتها الشاقة في إثبات الوجود الكياني الرَخْص لمجتمعات عصرية، هي في طور التنمية والتجريب، وسْط خضم عارم من نماذج الصدمات المتلاحقة على إيقاع الانقلابات والحروب الإقليمية والأهلية والغازية، من جهة، وطفرات التقدم المفتعل أو المؤصَّل، وحصادها من الارتكاسات السلبية والإيجابية في الحِراك الاجتماعي العام، من جهة أخرى.

هذه الصحوة الثقافية المحمولة هذه المرة على القاعدة الشعبية، الأوسع والأعمق في تاريخ الأمة العربية المعاصرة، ينبغي أن تأتي أخيراً بالفكر العربي المختلف؛ لعلّها تطمح إلى بناء المعادل التسجيلي التحليلي، والمفهومي الدلالي لقصة النهضة العربية الثانية، كما كانت بالنسبة لذاتها وواقعها التاريخي الإنساني أولاً؛ ساعيةً ربما، إلى تلمّس الأجوبة الممكنة الموضوعية عن السؤال الوجودي المركزي: لماذا كان ما كان قبل الثورة ولم يكن على غير ما كان عليه؟ ما هي الوعود الواقعية للنهضة الثالثة القادمة؟ وهو خلاصة السؤال الوجودي عن مغزى الماضي القريب، وفيما إذا كان ثمة طاقة حقيقية للانتهاض مجدداً، والأمل في اكتشاف تلك الإمكانيات الأخرى التي عجزت النهضة الثانية عن التعرف إليها وإثارتها واستغلالها، أو أنها أساءت التعاطي معها والاستفادة منها، هذا مع الاعتراف بأن العقبات الخارجية التي تعرضت لها مسيرة النهضة الثانية قد تكون فوق طاقة المجتمعات المتخلفة إجمالاً، وهي تتصدى لها من موقع التقدم شبه المطلق بكل ما تملّك من أرقى أنظمة المعرفة والعمل والتنظيم. لكن المجتمعات العربية لم تولد ولادتها الحضارية الخاصة بها بعد. لن تقبل بعد اليوم، أن تختصر أنظمتُها الحاكمة الآتية، مهما جاءت حداثيةً عادلة، ماهيتها أو تحتكر مستقبلها، مثلما كانت ترفض أن توحّد سيرتها الذاتية مع مشهديات تلك الأنظمة البائدة. فهي بانتظار أن تفوز بدورها الممنوع حتى اليوم. وذلك في مقدمة المسرح من العمل العام، بعد أن ظلّ محجوباً وراء كواليس الحدث الطغياني وفي هوامشه المعتمة، طيلة الحقبة النهضوية الثانية المتعثرة.

مع ذلك، لا نقول ان الطغيان السياسي والأمني استطاع أن يطفئ شعلة الثقافة، لكنه استرق منها أدوارها الرئيسية. بدلاً من ان تكون هي القائدة أمست مقودة، متعلقة بأذيال الإعلام المخطوف كلياً تقريباً لحقبة المال النفطوي، هذا المال حرم الثقافة من قراءة الحقيقة، ومن ثم كتابتها. فأسقطها الجمهور من مفردات حياته اليومية. فضَّل عليها أُميَّة المعرفة. فالفساد لا يعمّ الأخلاق وحدها، إنه يكسر كرامة القلم في يد صاحبه، قبل أن يخط علامات الروح والوجدان والعدالة. جفاف المعرفة، وعقم الإبداع، وموت الحرية، ثلاثة توابيت مشؤومة عملت طيلة عشرات السنين على شحن ونقل الرمال من صحارى العرب إلى صميم بيوتهم وجامعاتهم ومكاتبهم، لتستقر أخيراً في قلوب وعقول بعض أجيالهم.. إلى حين ما. فما تفعله وحدة الغضب العربي الساطع أخيراً هو الرهان على غسيل كلّ هذا، من الرمل الأسود، وردّه إلى أمه الصحراء، لعلّها تعيد نقاءه، فتُبقيه حيثما كان دائماً.
عودة الثقافة لها شعار واحد: فلْتغسل الصحراءُ رمالَها القذرة!

 

مفكر عربي مقيم في باريس