«يوميّات مصريّة»: وقائع السّاعات الأخيرة

فـاروق وادي

حلّ مساء الخميس بحلكته الدّاكنة.. تقول الأنباء إن الرئيس، الذي عاش ثمانين حولاً دون أن يصيبه السأم، سوف يُعلن تنحيّه اليوم. الكلّ ينتظر. الملايين تترقّب بقلق. والعيون معلّقة، شاخصة في الشّاشة الصغيرة. بضع التماعات من الألعاب النّاريّة تنطلق في السّماء خجولة، بحذرٍ وتردُّد، قبل موعد تنحي دكتاتور طالما تحدّى الملل! ها هو يطلّ أخيراً. يقف أمام كاميرات التلفزيون متأخراً نحو اربعين دقيقة عن الموعد المُحدّد. بدا مُهدّماً، ناحلاً، هالكاً، ولكنه ظلّ متهالكاً. كلماته تُطنب في مديح الذّات وازدراء شّعب يحبّ الحياة ويتقدّم نحو حتفه ضاحكاً. دكتاتور يُمعن في تهيئة مصر لمزيدٍ من الحرائق. فجورٌ يتحدي الفجور، وإمعان في إهانة المشاعر الوطنيّة والدّوس على دماء الشهداء. لا أدري كم قلب ضعيف في مصر وعلى امتداد المسافة الشّاسعة للأمّة قد سقط على التوّ وكفّ عن الخفقان. ولا كميّة الدماء التي فارت وارتفع فيها السُّكّر والضغط. ولا أملك سوى مقياسي ومن حولي لمدى الكراهية التي تفاقمت في تلك اللحظة تجاه رجلٍ أفقدته غواية السُّلطة صوابه. كنتُ دائماً أقول إنني أتمنى استبعاد الهتافات المهينة لشخص الرّجل: 'هو مبارك عايز إيه.. عايز الشعب يبوس رجليه.. لأ يا مبارك مش حنبوس.. بكره عليك بالجزمة ندوس'. لكن ما أشعله الخطاب في نفسي جعلني أتخلّى، طواعية، عن أخلاقٍ 'حميدة'! وأن أتمنى، من صميم قلبٍ مجروح، أن تواصل الجماهير تريد مثل تلك النداءات.

بعد ساعتين من الخطاب، والسّاعة تقترب من الثانية صباحاً، وصلتني رسالة إلكترونيّة من جريدة 'الأيّام' تفيد بأن مقالتي 'شيخوخة تتحدى الملل'، لن تكون في مكانها غداً!

خطاب آخر زادني غمّاً!
استيقظتُ صبيحة الجمعة، فلم أجد سناء (زوجتي) في سريرها. ولم أعثر عليها في البيت. عندما التقينا قبل الظهيرة، قالت لي إن نشيد 'بلادي.. بلادي' تسرّب إلى أذنيها وأيقظها في وقت مبكِّر، فنزلت تتقصّى مصدر النشيد. ولمّا لم تجده، توجهت إلى محطّة سيدي جابر، باحثة عن النشيد الذي تركناه هناك مساء الثلاثاء. كانت السلطات قد أوقفت حركة القطارات، لكن المحطّة بدت لها وكأنها تتهيّأ لأعراس المساء. عند الظهيرة، كانت الحشود تزحف من كلّ مكان في المدينة وتملأ الأزاريطة. تصبّ في شارع عبد الحميد بدوي الذيّ غصّ بها وبلغ حتّى محطة الرّمل، ثمّ تنحرف قليلاً لتصبّ في كورنيش البحر. الجامع يُيمّم شطر البحر. حديقة الخالدين، التي تفتح صفحة جديدة لخالدين جُدد ممن صنعوا مجد هذا اليوم، لم يكن فيها مكاناً لموطيء قدمّ. يتدفّق منها حشد يستعصي على العدد. أعلام بعدد أنفاس البشر تفيض على البحر. والبحر يفيض..
'
البحر غضبان ما بيضحكش
أصل الحكاية ما تضحكش'..
وخطاب ليلة ألأمس لم يكن مجرّد نكتة سمجة لا تُضحك. لقد فاقم الخطاب من غضبة البحر، فهدرت الأمواج على الكورنيش..
من أيّة زاوية تحفّ بالأزرق، تستطيع أن ترى مليوناً من البشر.. مليونين.. ثلاثة. عائلات بكامل أفرادها جاءت، بأطفالها وشيوخها ونسائها ورجالها، بشبّانها وصباياها، بأعلامها وأحلامها. مشهد لم تره العين من قبل. المتظاهرون ييمِّمون شطر قصر رأس التين، مقرِّرين الاعتصام حتّى رحيل الطاغية مثلما رحل من المكان ذاته آخر ملوك البلاد عام 1952. ترى خطّ الزاحفين بطوله وعرضه ييمِّم باتجاه بحري ويتجاوز جامع المرسي أبو العباس، فتبدو قلعة قايتباي في خلفيّة الصُّورة ملوِّحة بذراعيها. مشهد سيستفرّ في ذاكرة العين إلى الأبد، ولن يبرح.
مكتبة الاسكندريّة من ناحية البحر، يحرسها عشرات الشُّبان، وعلمٌ بعشرات الأمتار، يتمدّد بأبهته واستعادة روحه المتجدِّدة على الدرجات العريضة.. العريضة. مهمّات نبيلة أخرى يخلقها الشباب لأنفسهم.
في المساء، يتسرّب إلى الأذن نشيد 'بلادي.. بلادي' من جديد. يجتذبها الصوت. ثمّة مظاهرة بعشرات الآلاف تملأ شارع الرياض، الواصل بين باكوس وزيزينيا، والموازي لشارع الإذاعة والتلفزيون الذي أغلقته دبابات الجيش عرضياً. تفيض المظاهرة في طريق الحريّة. الميكروفونات تبثّ أغنيات وطنيّة. الشباب يرقصون في حلقات على إيقاع أغنية جديدة.. 'شيلوا حسني'. ونساء امتلكن حريتهن في ميكروفون آخر، يتحدّثن بوعي وإدراك عن معاناتهن، والظلم الذي يلاقينه من سياسات نظام جائر. شابٌ يمسك الميكروفون ليعزي الجماهير برحيل الفريق سعد الدين الشاذلي، البطل الحقيقي لحرب أكتوبر، الذي سُرقت منه البطولة. ملصقات أنيقة لشهداء ثورة يناير، منها واحد للرئيس المعاند يخضع لمحكمةٍ قضاتها الشهداء.
وجوه جديدة نراها هنا لم نكن قد رأيناها من قبل. وجوه أكثر فقراً وبؤساً. يهيّأ لي أنني رأيت بائعة النعناع التي تجلس دائماً على الأرض في الزقاق الواصل بين شارع مصطفى كامل ومحطّة ترام باكوس. قلت لسناء: 'هذه الوجوه تجعلني أقول، بأن الأمور بلغت مستوى الثورة الشعبيّة التي لا تراجع عنها'!
كانت الجماهير تحتشد أمام برج الرياض. وللمرّة الأولى يلفتني اسم المقهى الواقع أسفل البرج: 'آخر ساعة'!

وكانت السّاعة الأخيرة بكلّ معنى الكلمة. خطاب قصير، بالإنابة، يُعلن عن تنحّي الرئيس وتسليم المسؤوليّة للجيش. لم تكد كلمة 'التنحي' تبلغ الآذان، حتّى كانت البهجة تشعل أرض مصر والفضاء. رصاص وسهام ناريّة وهتافات بُحّت فيها الحناجر.. واللحن/ الندّاهة الكامن في الضمير المصري.. اللحن الذي أيقظ سناء في السّاعات الأولى من هذا الصّباح، يبلغ أقاصي السّماء.. 'بلادي.. بلادي.. بلادي.. لكِ حبّي وفؤادي'. الشوارع تستيقظ. الناس يتحاضنون وكأنهم كانوا غائبين بعضهم عن الآخر منذ ثلاثين عاماً. البيوت تنفض عنها غبار أعوام طويلة من الذلّ والمسكنة. الشُّرفات تنزح لتملأ طريق الحريّة الذي ازداد طولاً واتسع عرضاً. النوافذ تُردِّد الزغاريد. سناء تُطلق الزغاريد، فأكتشف أنها ظلّت تكنز مهارة خفيّة.. مخبأة لمثل هذا اليوم!
سرنا مع السّائرين في العرس الكبير المتجه إلى سيدي جابر. اتصلنا بمن استطعنا من أحبابنا خارج مصر، من شارع يمور بالفرح. لم نكن نسمعهم أو يسمعوننا، لكنهم كانوا يصغون إلى النشيد وهتافات النّصر وأغنيات شعبٍ أراد الحياة.

ساحة محطّة القطار في سيدي جابر عجزت عن استيعاب المشاركين في العرس العظيم.. فانطلقت قطارات ملايين البشر على عرض الشّارع الممتد نحو البحر. رجلٍ سبعينيّ يحمل العلم عرضياً بذراعيه المرفوعتين خلفه ليركض متحرراً من شيخوخته، فيكاد الهواء القادم من البحر أن يرفعه بأجنحة ملوّنة إلى آفاق السّماء. كان البرد شديداً على الكورنيش، لكن دفئاً غريباً ظلّ يسري في العروق ليُبدِّد صقيع سنوات طويلة من القهر والجوع والحرمان، فيصل الأرض بالسّماء.. والليل بفجرٍ لا يشبهه فجر.

قبل أيّام، كتبت لنا صديقتنا 'حنان'، تغبطنا على وجودنا هنا والآن، في هذا المكان والزّمان، طالبة إليّ مواصلة كتابة يوميّاتي، حتّى أبلغ القول: 'أقف الآن على شرفتي في المحروسة أرقب شروق شمس اليوم الأوّل من أيّام الحريّة'..
وها أنا أقف. الحلم أصبح حقيقة، والإرادة صنعت المُعجزة..
أرى الشّمس تبزغ في وجوه بشرٍ يردِّد الواحد منهم للآخر: 'صباحيّة مباركة'. أراهم يتهافتون على شراء صُّحف الصّباح، فيما البائع يُقول: 'خلصت الجرايد يا جدعان. أوّل مرّة أشوف الناس تشتري الجرانين علشان يشيلوها تذكار لليوم الأبيض ده'! أغمض عينيّ على مشهدٍ تاريخيّ تواصل على مدى ثمانية عشر يوماً دون كلل. ولسوف يسكن القلب والروح.. وذاكرة الأيّام. أشرع في تهيئة حقائب السّفر، مردِّداً مع قسطنطين كافافيس: 'وداعاً للاسكندريّة التي أحبَبت'

 

كاتب من فلسطين

wadi49@hotmail.com