حضرة الضابط.. الحمد لله على السلامة!

هويدا طه

عودة للكتابة.. بعد ذهول حميد من الثورة فضلت معه أن أعيشها لحظة بلحظة.. مع تدوين يومي كي أكتبها فيما بعد! ثم حل بعد الذهول الحميد ذهول متوتر من الثورة المضادة إلا أنه ذهول يستلزم اليقظة.. لحظة بلحظة أيضا، وإن كنت استخسر في (الثورة المضادة) استخدام كلمة ثورة.. فالثورة كما عشناها حلما لسنين ثم حقيقة لأيام هي (حالة نبل) تنتاب الشعوب بشكل جمعي شديد الروعة في لحظات فارقة! ربما يجب أن نسميها (البلطجة المضادة) ونحتفظ بكلمة الثورة الجميلة لنا.. ما علينا.

عودة للكتابة بحادثة وقعت لي في شارع جامعة الدول العربية.. كنت وصديقتي نريد شيئا من الصيدلية ولم نجد مكانا لصف السيارة.. لكن صفا طويلا من السيارات الراكنات على جانب طريق رئيسي مثل شارع جامعة الدول العربية أغرانا.. المنظر حقيقة قبيح.. غاية في القبح، ومنذ أيام بل أسابيع ظل هذا الشارع الحيوي على ذلك القبح وتلك اللامبالاة الجماعية بالقانون.. والتعليق الدارج كان دائما: هو فين القانون، في البداية شعرت بالخجل من أن أركن السيارة في مكان غير مشروع لكن ما حدث أننا خالفنا القانون وصففنا السيارة وكنت أشعر فعلا أنني (عاملة عملة) ثم توجهنا إلى الصيدلية ثم إلى محل آخر لشراء حاجيات أخر.. عند عودتنا كان المشهد مذهلا.. نحو عشرة سيارات أو أكثر ضمنهم سيارتنا كانت جميعها (متكلبشة) بعد الصدمة جرت صديقتي لتنادي الضابط باحثة عنه على بُعد عدة أمتار.. بينما وقفت إلى جانب السيارة حائرة وكل ما كنت أفكر فيه هو ذلك الشعور بالحرج من مخالفة القانون بهذا الشكل الفج وقلت لنفسي.. كيف سأواجه الضابط الذي أمر بكلبشة السيارة فهو باختصار على حق، يقوم بعمله، وكنت أحدث نفسي بأنني سأناوله الغرامة دون أن أرفع عيني وأمضي! لكن فرحة غامرة تسللت إلى جانب ذلك الشعور بالخجل.. فرحت (أنهم عادوا) إلى الشارع، صاحب السيارة التالية جاء ليقف بجواري بدوره وكلانا ينتظر الفرج.. علق قائلا إنه ايضا يشعر بالحرج.. ثم أقسم: والله لم افعلها من قبل! بعد دقائق جاء الضابط وطلب الرخص .. نظرة خاطفة إلى وجهه جعلتني ألمح شبح ابتسامة.. بدت كابتسامة زاهدة.. مد يده.. وكنت مستعدة بها.. الرخصة، نظر فيها ثم راح يكتب إيصال الغرامة بينما يقوم العسكري المرافق بفك الكلابش.. قالت صديقتي ضاحكة: الغرامة عندنا في اسكندرية أكبر إنت عامل تخفيض واللا ايه؟ ثم راحت تتبادل معه حديثا وديا بينما أراقبهما.. يزعجني هذا النوع من الابتسام الحزين ويؤلمني عودة الشرطة إلى شوارعنا بهذا النوع من (تجنب التفاعل).. قلت لنفسي هي عموما مرحلة انتقالية بين حالة كانت الشرطة فيها تتفاعل مع الناس بسلطوية وعنجهية وامتهان للكرامة قبل ثورة يناير ثم حالة تعود فيها الشرطة بدرجة لا اريدها لهم أبدا من.. الانكسار، على كل حال كان الضابط شابا وسيما وابتسامته الحزينة جميلة.. لابد أن نطالب الداخلية أن تضع في طريقنا دائما ضباطا (حلوين كده) بعد دفع الغرامة نطقت أخيرا وقلت له: حضرة الضابط.. 'حمدللي ع السلامة' زادت الابتسامة ومع انحناءة برأسه رفع يده محييا.. ومضينا ماذا كان هذا؟ أين نحن؟!

دعوني أحكي لكم إنني بينما كنت أنتظر بجوار السيارة .. في هذا الشارع المزدحم بالسيارات والبشر كنت أمسك بالمحفظة والرخصة انتظارا لدفع الغرامة.. مر بجواري فجأة شابان يركبان موتوسيكلا وقام أحدهما بنهش رقبتي بسرعة في محاولة لخطف المحفظة.. وقبل أن أدرك ما حدث كان جرى بعيدا دون أن يفلح في قنص محفظتي، إلا أن الإيشارب الذي كنت ألفه حول رقبتي تمزق وبالطبع استمر ذهولي لبضع ثوان قبل أن أشعر بنشوة انتصاري.. كانت قبضة يدي على المحفظة قوية بما يكفي لإفشال مهمة ذلك اللص المباغت.
في طريق العودة قلت لصديقتي إنني لم أكن اتصور يوما أنني سأفرح عندما أرى الكلابشات في سيارتي، فقالت ضاحكة: يا أهلا بالكلابش،
إنها الحاجة إلى الأمن.. الحاجة إلى القانون.

غياب الأمن ورموزه يحتاج إلى وقفة مجتمعية من قبل كل الأطراف: الناس والشرطة والإعلام وكل قوى المجتمع.. أكثر ما يزعجني هو تلك اللاعقلانية الشعبية وحتى الإعلامية في التعامل مع الشرطة في مرحلة ما بعد الثورة، الإعلام ينافق المشاعر الشعبية الغريزية الممتلئة برغبة في الثأر.. والشعب انتشى لفترة بسقوط الشرطة الذي يعني (سقوط الحكومة) في الثقافة المصرية.. ثم عاد ليصب نقمته على الشرطة من جديد بسبب غيابها وتركها الشارع غنيمة للصوص والبلطجية والقتلة، والشرطة الجريحة تتباطأ في العودة إما لانكسارها فعلا وإما لابتزاز الناس كي يعرفوا قيمتها وربما لمساومة الشعب كي (يتغاضى) عما فات مقابل العودة.. أشعر باللاعقلانية في كل الاتجاهات. لقد كنا جميعا تقريبا.. كل فئات المجتمع.. يملأنا الغضب قبل الثورة من هذا الجهاز بأكمله.. جهاز الشرطة.. كان هو التمثال الشيطاني المجسد لنظام مجرم يحتقر شعبه، في الاسكندرية منذ بضع سنوات.. كنت أقود السيارة في صف طويل من السيارات وكان هناك ما اصطلحنا على تسميته (الكمين)، كم هو وصف معبر.. كانت الشرطة (زمان) تفخخ للشعب وتصنع له الكمائن عمال على بطال!.. لا عجب إذن أننا كرهناها، وقفت وكنت أراقب الضابط الذي يتعامل مع سائق السيارة التي تسبقني وانتظر دوري مستعدة بالرخصة، لفت انتباهي حدة الضابط في الحديث إلى السائق خاصة عندما فتح الباب بعنف ليجذبه خارج السيارة.. فوجئت بأن هذا السائق كان أستاذي في كلية الهندسة جامعة الاسكندرية وقال للضابط وهو يحاول التملص من قبضة يده: يا ابني عيب أنا أستاذ جامعي.. فما كان من الضابط إلا أن سبه بأمه.. واضطررت لاخفاء جانب وجهي حتى لا يلمحني الأستاذ فيتعرف علي ومن ثم يشعر بالخجل، فكثير علي أن يخجل مني أستاذي.. حاشا للهن يومها رحت أسب بغضب ونقمة كبيرة حال مصر الذي يجعل مثل هذا الجاهل يتعامل بتلك الطريقة مع أستاذ الجامعة، كانت النقمة تملأني كلما صادفت أحدا يروي كيف صفعه ضابط وكيف عذبه ضابط وكيف عنفه ضابط بل وكيف سرقه ضابط.. فقد كان أحد عمال توصيل الخدمات إلى المنازل يروي لي قبل الثورة بنحو شهر- كيف أن ضابطا في كمين أمسك به وصادر منه الموتوسيكل دون اعطائه إيصالا.. وحفيت قدما الفتى بعدها محاولا دون جدوى إقناع قسم الشرطة بكامله أن الضابط أخذ الموتوسيكل ولم يستطع إثبات ذلك.. وعندما روى لي ساعدته بكتابة شكوى لجهات أعلى في الشرطة وبسببها أخذه الضابط إلى القسم.. وتعاون معه ضابط القسم مجاملة لصديقه فأعطى الفتى نصيبه من التنكيل.. نعم كان يجب أن يكره الشعب ذلك الجهاز.. نعم نحن امتلأت أنفسنا وتشبعت أرواحنا بكراهية للشرطة جعلت بيت الشعر (لابد من يوم تترد فيه المظالم) حقيقة.. لكننا ومنذ 28 يناير يوم جمعة الغضب ونحن (نرد المظالم) بشكل جمعي.. كل فئات الشعب صالحة وطالحة تعاقب الشرطة بأكملها وظيفة وضباطا بمختلف رتبهم من أصغرهم إلى أكبرهم نعاقبهم إعلاميا وجسديا وفي الشوارع المفتوحة والمناطق المغلقة.. نعاقبهم جميعا.. الكتاب والإعلاميون أو البلطجية واللصوص ومن بينهما من فئات الشعب.. منذ انهيارها التام الذي كان لا بد أن يحدث نفعل معهم كل ما يقدرنا الله عليه من إهانة وعقاب جسدي ولفظي وأيضا صدق أو لا تصدق.. نظلمهم جماعة.. دون تفريق، تماما كما كانوا يفعلون وسلطة نظام جائر في يدهم.. واعترف أنني في الأيام الأولى بعد انهيارهم شعرت أن (الحياة أحلى بدونهم).. لكن هذا الشعور لم يدم طويلا عندي وأظن كذلك عندكم جميعا.

نحن بحاجة إلى الموضوعية في تناول مسألة الشرطة.. أولا محاكمة كل رجال الشرطة بمختلف رتبهم ممن يثبت عليهم بتحقيقات قضائية وشفافة أنهم أهانوا الشعب أو قتلوا المتظاهرين العزل.. حتى لو كانوا آلاف الضباط.. فليس أسهل من خلق فرص عمل لغيرهم ممن لم يرتكبوا الجرائم ضد الشعب.. نحن أيضا بحاجة إلى التفرقة الإعلامية بين ضابط امتدت يده بالسلاح ضد متظاهر يطالب بدستور جديد وهذا لا بد من محاكمته هو وقيادته التي أمرته بهذا الفعل المشين.. وبين ضابط استبسل في الدفاع عن قسم الشرطة ضد بلطجية من عتاة المجرمين والخارجين عن القانون.. إذ يملؤني السؤال لماذا ننتشي بظلم الضابط الشريف وكنا قبل قليل نئن من ظلم الضباط غير الأسوياء لنا.. الظلم ظلم على كل المستويات، ثانيا لابد أن تعلن التحقيقات حتى تحكم الموضوعية غرائز الانتقام السائبة في الشارع المصري.. وقد أثار تحفظي أن قرارا قضائيا صدر بإخلاء سبيل عدد من الضباط في الاسكندرية على ذمة التحقيقات ثم تراجع (القضاء) عن قراره بعد مظاهرة لا نعرف من نظمها للاهالي ضد قرار الإفراج عنهم.. منذ متى والقضاء يخضع للمظاهرات؟ المظاهرات تسير من أجل الضغط على القرار السياسي وليس القضائي.. تلك مصيبة تحتاج إلى درجة من الموضوعية غائبة تماما عن الشارع المصري وإعلامه، هل يفرحكم خضوع القضاء للشارع؟ ثالثا لا بد من تغيير كل القيادات الفاسدة في الشرطة التي ثبت تورطها فالسمكة تفسد من رأسها.. وتلك القيادات كانت ذراع النظام الفاسد الذي لطم به وظلم به كليهما معا: الشعب ورجال الشرطة الصغار، لا بد كذلك من انصاف رجال الشرطة الذين لم نكن نعرف أن مرتباتهم إلى هذا الحد متدنية وأنهم يظلمون في عدد ساعات العمل.. تضاعف ساعات العمل هو شكوى عامة بين رجال الشرطة ولا بد من تصديقهم إذا كان أنينهم جماعيا إلى هذا الحد في تلك النقطة.. ثم لا بد أن تقدم (الشرطة المصرية الجديدة) دليلا على أنها لم تعد ذراعا لنظام جائر خسيس.. وأول الأدلة المطلوبة منها هو تحجيم دور البلطجية المنتشرين في الأحياء المصرية والذين يعرفون أماكنهم جيدا بل ويعرفونهم بالاسم.. ولن تضحكوا علينا ثانية يا رجال الداخلية.. فأنتم من سمحتم لهم بهذا النمو المتوحش كطابور خامس زرعتموه بين أضلع الشعب المصري.. هذه غلطتكم وعليكم إصلاحها الآن وأكاد أكون على يقين أنكم تعرفونهم ربما حتى بالاسم وتعرفون أماكنهم وأنكم كذلك لم تعودوا بحاجة إليهم فلن يطلب منكم تزوير الانتخابات ثانية! اجمعوهم في حملات موسعة وتعاملوا معهم بالقانون وارحمونا! إلى أن يتوافق المجتمع على مشروع قومي جامع لتشغيلهم أو إصلاحهم أو إنصافهم إن أجرموا بسبب انسداد شرايين مصر في العهد البائد.. فما البلطجية إلا حشود من الفقراء الذين لا يملكون أي مهارة في أي حرفة سوى جسارة المجرمين.. ويبيعون ذراعهم ببضعة جنيهات.. هؤلاء الفقراء يمكن إعادة تعليمهم وتدريبهم وتشغيلهم فهم في النهاية مصريون ظلموا فظلموا. وهناك تجارب في دول عديدة نجحت في تحويلهم من مجرمين إلى منتجين .. نحن لن نخترع، ثم لا بد كذلك من استخدام الإعلام للتثقيف الجماهيري بمهمات الشرطة وبالقانون.. الكثير من المصريين لا يعرف عن الشرطة إلا ذلك الضابط الذي يرتدي تلك البذلة التي كرهناها.. أنا لم أكن أعرف وأنا الجامعية المتعلمة كل تلك المسميات والأفرع والقطاعات والأقسام في وزارة الداخلية.. ولم أعرف الفرق بين الأمن العام وأمن الدولة والمباحث الجنائية إلا عندما اهتممت بالشرطة منذ بضع سنوات وبدأت بحثا كبيرا في الأمر حتى أفهم. وليس مطلوبا من الشعب في مرحلته الحالية أن يبحث في الكتب والإنترنت عن هيكلية الشرطة والفرق بين مهمة الضابط في هذا القسم والضابط في ذاك الآخر. لدينا فضائيات يرابط أمامها المصريون فلنطلق فيها برامج مدروسة عن القانون والأمن وما إلى ذلك. فالكثيرون لا يعرفون عن الشرطة إلا وجهها القبيح الذي كان.. والذي نأمل ألا يعود..وبسبب اختزان ذاكرتنا لهذا الوجه القبيح للشرطة الذي كان نقول لرجال الشرطة نحن في حاجة إليكم لكن.. إن عُدتم.. عُدنا!

 

كاتبة واعلامية مصرية