انتفاضات الشباب: فيض عفوي أم رؤية؟

ديمقرطية القول أم تحرير الوعي والجهد والجسد

عادل سمارة

ليس اسهل ولا اقل كلفة ولا أربح من التصفيق للانتفاضات الشبابية ليبدو، من ليس شاباً أو يعتقد أنه ليس شاباً، كأنه ساهم في ذلك فيشعر بارتياح الضمير، أو ليصبح موجهاً للشباب فيقدم لهم ما يُرضيهم، وربما ما لا ينفع! وهذا يفرز فئة من الناس انتقلت عملياً من مديح الأنظمة أو خدمتها إلى مديح الشباب، فئة من متخصصي التظلل في ظلال الأقوياء، سواء الاقوياء بالسلطة أو الأقوياء بالجماهير. من بين هذه الفئة في الأرض المحتلة من كان ماركسياً ساخن النبرة حينما كان الاتحاد السوفييتي على قدميه، ليعود ليرتد إلى الولاء اللبرالي أي جوهرياً الأميركي، فيصبح من المنظِّرين لأوسلو والمشاركين فيها والمستفيدين منها، ليصبح من ممارسي التطبيع ولكن بغلاف ثقافي وينتهي ضد اي عمل اجتماعي منظم، ضد الأحزاب لأن غياب الأحزاب يخدم فرديته فيبدو العالم العارف الوحيد، والأخطر أنه برفض الأحزاب إنما يؤكد خدمته للأنظمة رغم زعيقه العلني ضدها. من هذه الفئة من كانوا قوميين غيارى في الحقبة الناصرية، وارتدوا إلى قطريين يكادون يرون في القرية أمة مكتملة. من هذه الفئة من يتنقلون بين النظريات عالياً في الهواء فلا يحطون على الأرض ليروا ما عليها، تفاجئهم اية ظاهرة فيروجوا لها. ليس هذا ما يفيد البلد والشباب. العقل النقدي/المشتبك لا يمدح، بل يقرأ بعناية ويستخلص النتائج ويركز على الإبداع وينقد الخلل أو التقصير. العقل النقدي ليس عقلا خطابياً او ناظم قصيد وأناشيد. العقل النقدي ليس انتهازياً ولا يبغي مرتبة أو قداسة.

اوروبا...مآل انتفاضة الشباب
يُعلمنا العقل النقدي أن نقرأ تجارب شباب العالم. أليسوا بشراً مثلنا؟ انتفض الشباب وتمرد عام 1968 في العديد من بلدان العالم وخاصة في أوروبا الغربية وبعض الشرقية. كانت فرنسا بؤرة الحراك. وفي خضم الابتهاج بحراك الشباب قفز مفكرون كبار عن التاريخ ودرسه القاسي. تصدَّر التنظير هربرت ماركوزة لينقضَّ على التحليل المادي التاريخي باسم اليسار، وكان مرتكز طرحه أن لواء الثورة انتقل إلى المحرومين والمضيَّعين والبروليتاريا الرثَّة...الخ. وكان تصويب مدافعه الفكرية ضد الطبقة العاملة ودورها في الثورة. ونمت على هامش كل هذا أو برزت أطروحات مفكرين حاولوا انتزاع موافقة من التاريخ على شطب التحليل المادي التاريخي، وشطب الطبقة العاملة، وبالتالي أن لا مناخ للثورة ولا فرصة ولا جدوى (ميشيل فوكو وديريدا وغيرهما) والذين انتهوا إلى أن الحل بين الأمم والطبقات هو في التسامح. لقد ابدع هؤلاء في الدخول إلى عمق القضايا وتقديم أدوات حادة في التحليل والنقد ليخرجوا بنتائج تدعو لليأس، تدعو إلى أن لا شيىء يتغير بل إلى موت السياسة!

وبقيت الطبقة العاملة صامتة على غيظ كالتاريخ، ناهيك عن حزن الأمم المغلوبة والمنهوبة ومنها نحن، وهي تتعرض للنهب والقتل، وظلت أوروبا الغربية والولايات المتحدة كما هي، عجوز تضع في عنقها واذنيها أقراط الديمقراطية والمجتمع المدني مخفية جوهراً امبريالياً يفهم تماماً أن رفاهه الداخلي هو في استعمار الأمم الأخرى بأشكال عدة. لم تفقد شهيتها لابتلاع أطفال الأمم الفقيرة، وكلما لاح أفق تحول في اي بلد تتقدم بجيوشها لسحقه سواء مباشرة كما يحصل في إفريقيا أو في ظل الوحش الضخم الولايات المتحدة. باختصار، للولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والغرب بأجمعه قواعد[1] ووحدات عسكرية في العديد من دول المحيط لا تعمل هناك على نشر الديمقراطية بل تثبيت أنظمة الفقر والتجويع وتصدير الثروة إلى المركز. مثلا، تنتشر قوات فرنسية في عاصمة ساحل العاج اليوم ... لماذا!

هذا الغرب الراسمالي نفسه الذي يحتل العالم يثرثر لنا كل يوم متفاخراً بالمجتمع المدني وحقوق الإنسان. وهذا/ه المجتمعات المدنية هي التي تقيم احتفالات الدم، فقد دمرت يوغسلافيا والعراق وأفغانستان والصومال وهاييتي واليوم ليبيا، ناهيك عن مديحها، وهو أخطر، لنظام الأسرة السعودية.

لماذا نذكر هذا؟
نذكر هذا من أجل وقفة نقدية تقييمية للصراخ العالي عن الديمقراطية، لتحديد اية ديمقراطية هي المطلوبة، ولفحص من هي القوة الاجتماعية التي لا بد منها للحصول على الديمقراطية، القوة الاجتماعية التي لا تتوقف عند ديمقراطية الحديث والكتابة، اي التي تناضل من أجل ديمقراطية الحق في العمل ومنتوج العمل. فبين ديمقراطية تبيح لك القول وتسلب منك الشغل، وبين أخرى تؤكد لك حقك في عملك وشغلك، بينهما مسافة هي بقدر المسافة بين الجهل والوعي، بين الترنُّح الثمِل والتماسك المتيقظ. بقدر المسافة بين الصراخ والوعي والرؤية.ولكي لا يؤول الأمر هنا كما آل في الولايات المتحدة وأوروبا: أي إلى شباب يائس (صار اليوم كهولاً)[2]. لكي يرى الشباب أنه لا بد من التنبه لوجود أولاد هيلاري كلينتون فيما بينهم، وليدركوا أن انتفاضتهم لن تكون بمعنى إذا لم يقوموا بالتشبيك مع القطاعات المجتمعية الحقيقية كلها، العمال والمرأة والفلاحين والنقابات المهنية والأحزاب...الخ. فبوسع الشباب البقاء لوحدهم مندفعين إلى الأمام، ولكن اندفاعاً بدون القطاعات الأخرى سوف يُخرجهم عن مدارهم، أي عن تحقيق مطالب عينية على الأرض. أليس هذا الضياع هو ما يُقلق شباب الثورة في مصر اليوم حيث شعروا بأنها على شفير الاختطاف؟. فلا بد من النجاح في التجذر الاجتماعي. مثلا في الحالة الفلسطينية:

هل هناك معنى حقيقي للمطالبة بالديمقراطية في ظل استعمار استيطاني ؟

هل أخذنا عبرة من انتخابات في ظل الاحتلال وكانت النتيجة الانقسام؟

هل شعار إنهاء الانقسام عملي وممكن؟

أم أن المطلوب حزمتين من المطالب أو الشعارات:

الأولى: الوحدة الوطنية عبر مشروع المقاومة للتحرير

والثانية: إعادة بناء البلد بمعنيين:

بمطالب يمكن الشروع بها مباشرة

ومطالب تُرفع كي تنفذ لاحقاً.

من المطالب التي يمكن التمترس خلفها، وضع حد للسطوة الأمنية، وقف الاعتقال السياسي لينحصر بيد الاحتلال، طرد المندوب السامي العسكري الأميركي، وقف التنسيق الأمني، ملاحقة الفاسدين وسارقي المال العام، مناهضة التطبيع عينيا ومكانياً، بدء التعاونيات الزراعية المنزلية، مقاطعة منتجات الأعداء، مقاطعة المؤسسات الثقافية الغربية بما هي قواعد عدوان ثقافي وفكري، العمل على تحرر المرأة، مواجهة الخطاب النسوي الغربي الداعي لوقف النضال القومي، دعوة القطاعات الفلاحية والعمالية لإقامة التعاونيات والمشاركة في ذلك، التثقيف ضد الاستهلاكية. نقد ورفض قيادات اليسار التي انخرطت في التسوية وفي سلطة أوسلو مباشرة أو لا مباشرة، العمل على إحياء اتحاد الطلاب واتحاد العمال، نقد وإعادة فرز أدوار منظمات الأنجزة، مقاطعة أية انتخابات سياسية طالما ليس هناك استقلالاً، رفض مختلف اشكال المفاوضات، انتخابات مجلس وطني من القطاعات والطبقات والقوى شريطة أن لا يدخل أعضائه إلى الأرض المحتلة تحت سلطة أوسلو والكيان، تحويل منظمة التحرير بعد هذا المجلس إلى منظمة مقاومة لا مفاوضات، إعادة القضية إلى عمقها القومي بوضوح...الخ.

هذه المطالب والشعارات والأهداف هي التي تتجاوز "صناعة" انتفاضات الشباب لتحويلها إلى الأصالة ومن ثم التأصيل في بنية المجتمع ونسيجه.

على الشباب ان يقلقوا كثيراً بل ان يخشوا أولئك الذين اندفعوا لكيل المديح لهم دونما قراءة وتوفير رؤية والمطالبة بخطة ومشروع واهداف ورؤية للمجتمع للطبقات للمصالح وللارتباطات.

في الأرض المحتلة وفي مجمل الوطن الكبير برزت كثرة من المحللين الذين يمتدحون انعدام الحزبية بين الشباب، إن صح هذا الانعدام ويمتدحون عدم انتماء الشباب إلى طبقات، ويزعمون انه حتى في مصر غاب العمال عن الحراك.

عجز هؤلاء عن رؤية أن النظام القائم هو حزب وله حزبه المسلح اي الجيش! بل وعجزوا عن رؤية حزب هيلاري من الشباب الذين جرى تنظيمهم أميركياً! هل يُعقل أن هؤلاء المثقفين لا يعرفون أن الحزبية ظاهرة عالمية ضرورية لأي مجتمع حي؟ أم أن هؤلاء عملاء للأنظمة وللإمبرالية ذات الجيوش والأحزاب. هذا التكفير بالحزبية، بدل أن يكون ضد قيادات في الأحزاب، هذا التكفير هو حديث المثقفين والساسة المهزومين تاريخياً، الذين يجلدون انفسهم وغيرهم، هذا حديث المرتدين الذين لم يبق لديهم من سلاح سوى شتم ماضيهم وتجاربهم. هذا حديث من غرقوا في التطبيع ممارسة وتقاضي رواتب ورشى. لذا من مصلحتهم تغييب الأبعاد الوطنية والسياسية والطبقية وحصر الاحتفال في: الديمقراطية. وهذا تماماً ما تردده السيدة هيلاري والغرب الراسمالي بمجموعه.

في الوقت الذي يردد هذا الغرب ويتبعه المرتدون والمطبعون الفلسطينيون والعرب، يرددون ما يفتك بوعي الشباب ويُبقي على حراكهم في نطاق الصراخ. ولكن، في ذات الوقت تمارس جيوش أنظمة الغرب المذابح في أفغانستان وفي فلسطين، والعراق والصومال، وليبيا، ومعها حتى جيوش الدول النائمة/السائمة او الحكومات غير الحكومية كالدنمارك والنرويج حيث أرسلتا طائراتها لقصف ليبيا. لا باس ايها المثقفون ذوو الوعي الشديد والباس الأشد، أليست هذه الجيوش "أحزاباً" من طراز للقتل فقط!

هو القتل إذن مغطى بالصراخ الديمقراطي! ألا يجدر بالشباب ملاحظة هذا؟ لا يمكن للغرب الراسمالي ممارسة العملين النقيضين لو كنا نقف له بالمرصاد الواعي والنقدي والمشتبك. والوقوف له يتاتى بالتصدي لحوامل سياساته في وطننا: الوقوف ضد النخب السياسية المستفيدة من الغرب والنخب الأكاديمية التي باعت وطنيتها سراً في صفقات ومنح، والنخب الثقافية التي تتعيش بما يُدفع لها فتكتب، والنخب الراسمالية التابعة التي تسوِّق منتجات أعداء الشعوب.

ولكن كل ما ذكرناه عن الغرب باحزابه التي لا يراها البعض، هو من أجل ما ورائه. وماذا وراء هذا؟

وراء كل هذا تمهيد الطريق واستتباب الأمن وتجليس الظروف كي يتم لراس المال النهب والربح والقبض والصرف بهدوء واستقرار.

من يقم بالثورة عليه ان يقرأ غَدِها قبل يومها كي يحميها، ولا تُحمى الثورات بالفيض إلى الشوارع والأرصفة فقط، بل برؤية وبرنامج واضحين، يتطوران مع التحرك في الشارع والرصيف ولكن كذلك في الحقل والمشغل والنقابة والحزب واتحاد المرأة واتحاد الطلاب...الخ


[1] بمناسبة جلوسه على عرش الإمارات قدم حاكم الإمارات لفرنسا موقعاً لتقيم عليه قاعدة عسكرية فرنسية. فاي جلوس! واليوم تقوم طائرات الإمارات الحربية بقصف ليبيا؟

[2] بانديت كوهين احد قياديي ثورة الشباب في فرنسا هو اليوم عضو "عاقل وهادىء" في البرلمان الأوروبي!