أخيرا استعدنا حقنا في الحلم ... بدأ عصر المستحيل

يحيى مصطفى كامل

أترى بريق العيون؟ طُرح علي هذا السؤال بإعجابٍ شديد أمام مظهر الثوار المنتصرين، وحقاً فأنا لم أرَ هذه الملايين من أبناء شعبي أبداً على هذا القدر من النشوة والسعادة... لطالما عهدتهم متجهمي الطلعة، عابسين قانطين مهزومين....لكن كل هذا تغير في لحظتين حاسمتين...
سقطت المستحيلات...
سقط رموز النظام المصري ومقدرته اللامتنازعة على البطش وقواعد اللعبة التي كان يضعها...
سقط الخوف..
سقطت حالة الهزيمة وثقافتها ...
سقطت الطائفية وتعرت مسؤولية النظام عنها...
اهتزت كل ترتيبات القوة في المنطقة وارتبكت القوى ذات النفوذ التقليدي في المنطقة كأمريكا وإسرائيل ومصالح النفط...
انهزمت ثقافة الانحطاط...
وحده الشعب المصري ظل واقفاً شامخاً صامدا وانتصر

لقد آليت على نفسي دائماً ألا أنساق وراء عواطفي، غير أني اليوم أجد لها الحق في الكتاية بحماس وحرارة، وكم هي فقيرةٌ الكلمات التي تستطيع التعبير عما يجيش في صدري فلا تظلم العاطفة ولا تجور على الدقة.
كم هي فقيرة الكلمات إزاء فرحة العمر وآخرة الصبر. كم هي فقيرة الكلمات أمام ذلك المشهد المهيب لشعبي الذي بُعث من جديد، وقد تحركت أمواجه متدفقةً هادرةً تجرف كل ما يقف في طريقها، تجرف الهزيمة واليأس وجدران المستحيل والمسلمات فوق أشلاء رموز النظام القديم... تدفق أبناء وطني بسجلات فقرهم، بسجلات آلامهم، بدواوين آهاتهم، بفوائض إهاناتهم وغيروا دفة التاريخ ... لحظتان حاسمتان في تاريخ هذه الثورة الأكبر والأعظم في تاريخ مصر، والفارقة في تاريخ العالم، والمحورية في كل ترتيبات وعلاقات القوة الحالية على مستوى المنطقة الأضيق وعلى مستوى العالم الأوسع.

اللحظة الأولى هي حين امتلك هذا الشعب الجرأة على النجاح والتحرر..
ثلاثون عاماً ونحن أسرى عقائد الهزيمة وحتمية الفشل حتى وصل على الساحة جيلٌ قام بخطوةٍ نوعيةٍ فارقة، أججت حطب ثورةٍ طال انتظارها، رغم حتمية حدوثها ويقين كل المهتمين بنضجها. لقد فاجأ الجيل الجديد أجهزة أمن النظام التي أبطأتها ضخامتها المترهلة كالفيل بأسلوب للتنظيم قد يتيسر رصده، ولكن تصعب السيطرة عليه؛ فتلك الأجهزة اعتادت على التنظيمات الحزبية والسرية بشتى أشكالها واحترفت اختراقها وتأجيج الصراعات الداخلية فيها ومن ثم إضعافها وضربها ضرباتٍ مشلة مكسحة... إلا أن دور الشباب في إضرام الثورة، وهو دورٌ رائعٌ بكل تأكيد، يجب ألا يعمينا عن الحقيقة المحورية المتمثلة في دور القطاعات العريضة من الشعب المصري... لقد كثر الحديث عن ثورة الشباب حتى نسينا أن سر نجاح هذه الثورة لا يكمن في نجاح شرارتها الساخنة المتجسدة في الشباب فقط، وإنما في الزخم الدافق للجموع الهائلة من المصريين على اختلاف أعمارهم وخلفياتهم الاجتماعية، التي جرتها الأحداث من هوامش السكون والنسيان واللامبالاة إلى الصدارة حيث أسهمت بقلبها ودمائها.

لقد كان الشباب بمثابة المحفز، وأن جسد الثورة تفاعل مع ملايين الشعب بشتى أطيافه وطبقاته. كثيرون يتغزلون بدور القوات المسلحة حتى بدأوا يدبجون المقالات وينظمون القصائد في مدحها؛ ومع اعترافي بمفصلية دورها، إلا أنني أذكر بأن القوات المسلحة حسمت الموقف بعد ثمانية عشر يوماً من الدعم السلبي للنظام، وأنها لم تكن لديها بدائل أخرى ... أجل، أود أن أؤكد أن القوات المسلحة لم تضرب الثوار بسبب موقف وطني لقياداتها فقط وإنما لأنها عملياً لم تكن تستطيع الضرب... كلنا يعلم أن الجيش المصري في تكوينه جيشٌ وطني مكونٌ من عامة الشعب وليس جيشاً من المتطوعين كبعض دول أمريكا اللاتينية، وبالتالي، وفي حالة الفوران الثوري المزلزل، فإنني على يقين بأن جنوده لم يكونوا ليمتثلوا لأي أمرٍ بإطلاق النار، وليس أدل على ذلك من انضواء بعض أفراده في صفوف الثوار ملقين سلاحهم.
لقد تصرف الجيش بواقعية...
أما البطل الحقيقي والمنتصر بلا منازع فهو الشعب المصري ..هو وحده الأروع والأبهى..هو الذي حطم القيود.

اللحظة الحاسمة الثانية في رأيي تتمثل في انضمام عمال المصانع بآلافهم المنتظمة إلى صفوف الثوار في شتى الميادين ومنها التحرير. لقد تزامن ذلك مع تخييب الرئيس المخلوع (لاحقاً) لآمال المصريين بالتنحي، وإني لعلى يقين بأن تدفق العمال إلى جانب استمرار الثورة إبان صلاة الجمعة وما تلاها، هو الذي حدا بالقوات المسلحة للتدخل. لقد ايقن عقلاء هذه القوات مع الفلول المتبقية للنظام بأن الجيش بات الشكل التنظيمي والهيئة الوحيدة المتبقية للدولة، وأنه ليس أمامه من خيار سوى الاستجابة بإزاحة الرئيس ورموز عهده للأسباب السابقة. الأهم من ذلك هو إدراكهم (وهم ليسوا حمقى أو مغفلين تماماً) من أن انضمام العمال إلى جموع المتظاهرين جديرٌ بأن يكسب هذه الثورة بعدأ اجتماعياً واقتصادياً رهيباً، يشكل في حد ذاته ثورةً فوق الثورة، كما أنه يؤذن بشحن العمال القريبين من التسييس بفضل التاريخ والعوامل الاقتصادية بشحنةٍ مشتعلة من الوعي السياسي الوهاج المتزايد باطراد، الذي أفرزته مجريات الثورة. حينها تحركت القوات المسلحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

عن نفسي، أعترف بأنني كنت أخشى أن يموت الرئيس قبل أن يطاح به، وكنت أدعو الله صادقاً أن يرى هزيمته وخزيه بعينيه.. كنت مشفقاً من مجرد احتمال أن يشار إليه كنموذجٍ لطاغية قتل وأذل ونهب ثم مات حتف أنفه وقد افلت من المساءلة الدنيوية ... ولم يخيب الله رجائي وانصفني هذا الشعب العظيم حين راهنت عليه وآمنت به. هذه الثورة لم تنته بعد، فما زال أمامنا الكثير لكي تترجم طاقة الخلق هذه إلى تغيرٍ حقيقي ملموس على الأرض؛ لكنها بنظرةٍ أوسع وأشمل للأمور جذوةٌ سوف تتلقفها قطعاً بقية شعوب المنطقة المتعطشة للحرية، فإذا كان هناك ما أنجزته بجدارة حتى الآن فهو تحطيمها للمسلمات وكل المستحيلات، التي سعت أنظمة الطغيان، ومن ورائها السيدان الأمريكي والإسرائيلي، على ترسيخها في الوعي العربي الجماعي. كم كان كتبة هذه الأنظمة وسائر أبواقهم الإعلامية يطنطنون عن الشعوب التي لا قوة لها وعلى أمريكا التي تملك تسعاً وتسعين بالمائة من أوراق اللعبة، وعن الأنظمة التي تعرف دبيب النملة وعن استحالة التغيير وعن قدرنا الفقير والذليل..

لقد بدأ عصر المستحيل كما تحطم وتهشم تماما حاجز الخوف وكافة الأساطير عن القوة اللامحدودة للدول والأنظمة التي لا تهتز ولا تقهر. أما على المستوى الفردي لأبناء الشعب، فما تحقق تعجز الكلمات عن رصده وحصره.
ليس فقط استعادة الشعب لكرامته وإرادته وقهره الخوف، وإنما، وهو الأهم في نظري، استعاد الشعب والأشخاص الحق في الحلم بغدٍ أفضل.
حينما كنت اتحدث مع اي شخصٍ من جيل الستينيات والسبعينيات كنت لا أخفي حسدي له على رفاهية تمتعه (ولو بالخداع) بالقدرة على الحلم، بغض النظر عما آل إليه.. لقد زرع نظام مبارك الممتد ككابوسٍ طويلٍ بطيءٍ معذب، في نفوسنا يأساً بشعاً حرم الواحد منا حتى من الحديث مع نفسه خلسةً باحتمال غدٍ أفضل.. وإني لأذكر كم عُيرت وأنا طالبٌ وطبيبٌ حديث التخرج بتضييع الوقت في ما لا يجدي من الحديث عن السياسة وقراءة الكتب السياسية والفلسفية عوضاً عن الالتفات إلى ما يفيد. كان ينظر إلي وإلى أمثالي على اننا معتوهون..
دائماً كانت حجة الناعين هي عبثية أحلام التغيير وقسوة الواقع التي لا فكاك منها.

الآن يتغير كل شيء، فقفزات الوعي أثناء الثورة تقاس بالسنين الضوئية وما كنت ألام عليه أضحى حديث المقاهي والشوارع، حيث استعادت الكلمة عرشها وبعثت الأحلام من مراقدها ومهاجعها، ويا لها من لعينة، فقد أثبتت أنها تجيد التواري وأن أحداً لا يستطيع قتلها مهما بلغ بطشه وطال زمنه.
لقد عبر الشعب ملتفاً بآلامه مضرجاً بدماء شهدائه عبر البوابة الأوسع إلى الحرية والكرامة مخلفاً وراءه مستنقع البلادة والركود ولن ينظر خلفه سوى في غضبٍ وإباء.
أما بقية الشعوب العربية فسوف تلحق به.

كاتب مصري