سالي مجدي زهران باقية في الذاكرة الجماعية للشعب العربي

فيحاء عبدالهادي

 

"مفيش ست معملتش حاجة"
كان الوجود الفاعل للمرأة في الثورات الشعبية المصرية لافتاً للأنظار.
منذ لحظة الثورة الأولى؛ شاهدنا الشابات المصريات، عبر شاشات التلفزة، يهتفن باسم الثورة، ويعلِّقن شعاراتها على صدروهن. وشاهدنا النساء، من مختلف الفئات العمرية، يشاركن في المظاهرات بزخم عالٍ. وسمعنا عن شهيدات، قدَّمن حياتهن، في سبيل انتصار هذه الثورة. وحتى لا تتحوَّل الشهيدات والشهداء إلى أرقام؛ بادرت "مؤسسة الرواة للدراسات والأبحاث"، إلى مشروع يهدف إلى توثيق حياة شهيدات الثورات العربية/ شهيدات الثورة الشعبية المصرية 25 يناير 2011.

تردَّد اسم الشهيدة "سالي مجدي زهران"، في وسائل الإعلام، وتوسطت صورتها بوستراً لشهداء الثورة، وقيل إنها استشهدت وهي في طريقها إلى ميدان التحرير، حين اعترضها "بلطجية"، وضربوها بالشوم على رأسها؛ الأمر الذي تسبب لها بنزيف في المخ، كما قيل إنها توفيت منتحرة في سوهاج، مسقط رأسها.
نشرت للشهيدة صورتان، واحدة بحجاب، وأخرى دون حجاب. وعلت صورتها بالحجاب عبارة قيل إنها وردت على لسان والدتها، تطلب تعميم صورة الشهيدة بالحجاب، بالإضافة إلى ما نشر حول شطب واستبدال صورة الشهيدة، في اعتصام نظَّمه الإسلاميون، في مجمع النقابات، في عمان، احتفالاً بانتصار الثورة المصرية.
استوجب تضارب الروايات، البحث المعمَّق، من خلال منهج التاريخ الشفوي، الذي يقارن الروايات، مما يؤكِّد أو ينفي ما نشر حول ظروف استشهاد "سالي"، ويلقي الضوء على طبيعة مشاركتها السياسية.

تمكَّنتُ من رصد حياة الشهيدة، وملامح شخصيتها، وتعرفتُ على ميولها، وآرائها، من خلال اللقاءات التي أجرتها الباحثة نهال نصر الدين/ مؤسسة الرواة، مع أصدقائها، ومن عملوا معها، بالإضافة إلى متابعة الشهادات المسموعة والمنشورة والمرئية، لذويها، وأصدقائها، ومن عملوا معها. ولدت "سالي زهران" في القاهرة، يوم 16 تشرين الأول 1987، واستشهدت يوم 28 كانون الثاني 2011. عاشت في سوهاج، بعد انتقال والدها الدكتور، للتدريس في الجامعة هناك. التحقت بجامعة سوهاج/ أدب إنجليزي، وأنهت السنة الثالثة، ثم قررت السفر إلى القاهرة، لتحقق طموحها. عملت كمساعدة مصممة ملابس، في فيلم وثائقي. "جَدَعة في الشغل.. محبوبة.. نشيطة جداً.. شخص مسؤول.." قرَّرتْ الانفصال عن أهلها.. الموضوع غير قابل للنقاش.. صمَّمتْ: "مش عايزة أعيش في الصعيد". متمردة.. "لأن عندها طموحات خاصة بها.. عايزة تشتغل اللي هيّ عايزاه.. هي عايشة ثورة من بدري جداً.. ثورة مكتومة.. أمها نزلت وعاشت معها في القاهرة فترة، ثم عادت لسوهاج.. أهلها متحضرون. والدها توفي.. أمها ست عظيمة جداً.. ناس محترمون جداً. إن كان لها انتماء أو ما كانش.. هي قوية.. البنت اللي بميت راجل.. اللي يدوس لها على طرف تقول: أنا عايزة حقي".

محبة للحياة وللناس، تتقبل الرأي الآخر، غير متعصبة. مثقفة. طموحة جداً.
اختارت أن تخلع الحجاب الذي فرض عليها في الصعيد. "كانت محجبة في الصعيد..  زي معظم البنات.. مش محجبات التزام .. علشان العادات والتقاليد". وبينما أكَّد المتعصبون، أن والدتها طلبت نشر صورتها بالحجاب؛ شوهدت صورتها دون حجاب، في إطارين، وضعا خلف والدتها المحجبة، في البرنامج التلفزيوني "بلدنا بالمصري"، قناة OTV، يوم 24 شباط 2011.  وجدت سالي نفسها في القاهرة، مع أصدقاء يحملون ميولاً مشتركة، ويطمحون لتغيير العالم. التحقت بـ "كورال شكاوى القاهرة"، الذي أوقفته مباحث أمن الدولة، بعد العرض الأول، قبل 25 كانون الثاني. "معنا ناس مش شرط يكونوا فنانين.. ممكن واحد أو اثنين منهم فنانين.. قدمنا الشكاوى اللي تخص المواطنين.. القمح اللي بنصدَّره.. الغاز.. الإعلانات الوهمية.. الفن له وظيفة قوية، بتفوَّق الناس..أمن الدولة بيخافوا من الصوت اللي بيهزّ الكرسي بتاعهم".

أكثر ما أحبَّت، وردَّدت، مع زملائها:
"
اوعى تقول على غازنا طبيعي.. لا يقولوا عليك ما بتفهمش
غازنا بقى اسمه غاز تطبيعي.. نبيع بخسارة ولا تندمش
العمّال مش مسموعة.. حتى المصنع بايعينه
القمح أمريكاني.. والغاز مصدَّرينه..".

ها اعمل"... "طول الوقت خطط مستقبلية.. الموت ما كانش في خطتها.. بنت طايرة.. ما بتمشيش على الأرض.. فيه ناس مش مصدَّقة إنها ماتت.. بيقولوا: إنها بتشتغل. ده ردّ على الناس اللي بتقول انتحرت.. كل واحد شاف سالي مرَّة ما بيصدَّقش.". ظلَّت مترددة بين البقاء في القاهرة، والعودة إلى سوهاج. وحزمت أمرها يوم 10 كانون الثاني، وعادت، لاستكمال دراستها، وللعيش مع أسرتها. وحين انطلقت الثورة يوم 25 كانون الثاني؛ أحسَّت أنها ثورتها، وقررت أن تشارك في مظاهرة جمعة الغضب في سوهاج.
في البرنامج التلفزيوني؛ تروي والدتها:
"
مش آكلة ليها يومين. قالت: سيبيني أعمل حاجة لبلدي.. مش ليَّ، للبلد.. لاخواتي.. سبتها أول مرة.. رشوا ميَّة.. والدخان بتاع القنابل.. دخلت تكحّ.. ووشها أصفر.. بتموت.. "عملت اللي عليكِ يا سالي". تثور.. تغضب.. دخلت على غرفتها.. "مش ها تنزليني؛ هانزل من البلكونة. ها انزل.. ما ينفعش حد يقوللي ما تنزليش.. افتحي الباب علشان أنزل".... داخت.. وقعت.. ماتت في الحال". لم تأكل سالي منذ يوم 26 كانون الثاني، نزلت إلى المظاهرات، ولم تستطع والدتها أن تمنعها أول مرة. عادت إلى البيت بوجه أصفر، بعد أن استنشقت دخان قنابل الغاز، وتبللت ملابسها، من أثر رشّ المتظاهرين بخراطيم المياه.
حاولت والدتها ان تمنعها من التظاهر مجدداً، وأقفلت الباب؛ فهدَّدت بالنزول من الشرفة، ولم تكن تناور؛ نزلت للمشاركة في حماية أرض مصر؛ فاحتضنتها أرض مصر. سالي لم تعمل بالسياسة، بمعناها المتعارف عليه. ولكنها تنفَست السياسة، كما تنفَّسها شعب مصر. "معظمنا مش سياسيين.. مش مسيَّسين.. عندنا آراء سياسية.. أكثر من إنها تشارك مع 6 نيسان في وقفة احتجاجية.. فاعلين على (face book).. "ثورة ضد النظام مولودة وماشية فينا.. كاتمنا كلنا. مخلي الواحد يعمل حاجة مش بتاعته.. ثورتها من زمان.. ما حدِّش عارف عنها حاجة".

حين انطلقت حناجر الملايين، تهتف بإسقاط النظام؛ هتفت سالي معهم. هتفت لإسقاط النظام السياسي، والنظام البطريركي، في آن. اعتبرها الفنان "مصطفى التوني": جان دارك المصرية، ووضعت وكالة "ناسا" الفضائية اسمها على إحدى المركبات المتجهة إلى المريخ، وأطلقت "بلدية رام الله" اسمها على شارع في المدينة.
سالي مجدي زهران، شهيدة الحرية،
سوف يذكركِ شعب فلسطين، والشعوب التي تتطلَّع إلى شمس الحرية. وإذا كانت الأرض قد ضاقت بحلمك؛ فإن السماء الرحبة سوف تتسع لحلمك وأحلام الشعوب العربية، في التخلص من كافة أشكال الاستبداد، ومعانقة الحرية.

كاتبة من فلسطين
faihaab@gmail.com
www.faihaab.com