الديكتاتور يعود البوعزيزي

الحبيب السالمي

الديكتاتور كان في كامل 'أناقته' كالعادة في ذلك اليوم. البدلة الداكنة. القميص الأبيض. ربطة العنق. النظارتان. والشعر كان مصبوغا بمستحضر أسود وممشطا بعناية يتخلله مفرق واضح. كان يقف مستقيما. رأسه مائل قليلا إلى اليسار. ويداه المضمومتان تلامسان بطنه. حوله أطباء وممرضون ورجال في زي مدني. جدران الغرفة بيضاء وبابها أزرق. اللونان الأكثر انتشارا في العمارة التونسية. أمامه وعلى بعد خطوة أو خطوتين يرقد محمد البوعزيزي على سرير في المستشفى. جسده ملفوف داخل قماش أبيض ومغطى إلى منتصف الصدر بغطاء في لون بني فاتح تتوزعه مربعات وزهور. جذعه مرفوع قليلا. ورأسه مستند إلى ما يشبه المخدة. لا شيء يظهر من رأسه ولا من ذراعه اليسرى التي لم تكن مدسوسة تحت الغطاء. الديكتاتور العجوز يعود الشاب المتمرد والمنتحر!

المشهد غريب. كأنه من إحدى روايات أميركا اللاتينية في السبعينات. إنها بالتأكيد المرة الأولى التي 'يلتقي' فيها بن علي بمحمد البوعزيزي. لم يكن يخطر ببال الديكتاتور آنذاك وهو يمثل دوره هذا بأسلوب ينم عن وقاحة ولؤم واستهانة بكل القيم والأخلاق أن البوعزيزي سيزلزل الأرض تحت قدميه وأقدام كل بطانته بعد أيام قليلة. لقد صدمني المشهد. تألمت وأنا أشاهد الصورة. أحسست أن الديكتاتور اقتحم بتلك الزيارة عالم بوعزيزي السري. هتك حميميته. دنس براءته. كسر عزلته. أفسد عليه صمته بما تبادله مع الذين كانوا يحيطون به من كلمات كانت بالتأكيد جوفاء خاوية. اندس بين حياته أو ما تبقى منها وموته ليحوله إلى مادة إخبارية صيغت في وسائل الإعلام التونسية الرسمية ببلاغة رديئة، تذكر بتلك التي كنا نجدها في إعلام البلدان الاشتراكية في الستينيات وتناقلتها وكالات الأنباء العالمية بمزيج من الفضول والتلصص. لقد قتله الديكتاتور مرتين. مرة عندما دفعه إلى أن يضرم النار في جسده. ومرة عندما عاده في المستشفى. وما زاد في ألمي هو أن وسائل الإعلام التونسية جعلت من تلك الزيارة مادة دعائية رخيصة، تبرز "الحس الإنساني" للديكتاتور و'تأثره'  لما حدث. وهذا غير صحيح بالطبع. وقد ذكرت إحدى الصحف الفرنسية أنه بعد عودته إلى قصره أخذ يردد متحدثا عن محمد البوعزيزي فليمت! .. فليمت! وماذا يمكننا أن ننتظر من رئيس لم يتردد لحظة واحدة طوال الثلاثة والعشرين عاما التي أمضاها في الحكم في اللجوء إلى أبشع أساليب القمع لترويع شعبه المسالم الطيب؟

ثمة أمور عديدة أدهشتني في هذه الثورة الرائعة التي فاجأتنا جميعا. جرأة الشعب. تعلقه الشديد بالحرية والديمقراطية. عمق الوعي لدى الشبان الذين قاوموا الخوف وحررونا منه. الحس القوي بالمواطنة. تحرر نساء تونس ومقدرتهن على التحدي والمغامرة. تجمع الشعب أمام مبنى وزارة الداخلية الذي كان يثير الرعب في نفس كل تونسي للمطالبة برحيل الديكتاتور. اعتصام الثوار القادمين من سيدي بوزيد والقصرين وقفصة وتالة في ساحة القصبة لإسقاط الحكومة. تضامن التونسيين وهم يدافعون بشجاعة عن أنفسهم ويحمون بيوتهم وممتلكاتهم ومتاجرهم وأحياءهم من عصابات مجرمي النظام البائد .

هذه الأمور وغيرها أذهلتني حقا. أبكتني فرحا وأبكتني حزنا على من قتل من أجل أن نذوق لأول مرة طعم الحرية. لكن صورة الديكتاتور وهو يعود محمد البوعزيزي أحدثت في نفسي صدمة قوية وآلمتني كثيرا.
عزائي الوحيد أن البوعزيزي انتصر في النهاية على الديكتاتور. أجبره على أن يفر من تونس مثل لص فيما تحول هو إلى بطل وصار رمزا لهذه الثورة الجميل.

 

روائي تونسي