من الصعب على أي مراقب تابع احتجاجات الطلاب المصريين طوال السبعينيات والثمانينيات ألا يربطها بتيار سياسي محدد؛ إذ كان من الصعب - بل ومن المستحيل - أن تخرج أي مظاهرة من داخل الجامعات المصرية دون أن يشار إلى مَن وراءها من قوى سياسية منظمة، بدأت بالشيوعيين ومرت بالناصريين وانتهت بالإسلاميين، وفي أحيان أخرى كان الجميع يضطرون للسير معًا في مظاهرة واحدة. صحيح أن التقسيمات الأيديولوجية الضيقة ظلت موجودة، تفصل بين المنتمين للتيارات السياسية التقليدية في العالم العربي، من ليبراليين وإسلاميين وشيوعيين وناصريين، إلا أنه توازى معها تصاعد جيل جديد من شباب الألفية الثالثة الذي تربطه علاقة مختلفة بالأيديولوجيا والمفاهيم التنظيمية الضيقة التي راجت في عصور الحرب الباردة.
وقد عرفت مصر حقبتين رئيسيتين تعامل فيهما الشباب مع الأيديولوجيا والسياسة، بصورة مختلفة تكاد تصل إلى حد التناقض:
المرحلة الأولى هي تلك الممتدة من ثورة 1919، ومرورًا بثورة يوليو، وانتهاء بمرحلة سقوط حائط برلين.
والمرحلة الثانية هي تلك التي أعقبت انهيار الكتلة الاشتراكية وبداية عصر العولمة في مجال السياسة والاقتصاد.
وفي كلتا المرحلتين كان تفاعل الشباب مختلفًا، ولكنه كان إيجابيًّا.
جيل الأيديولوجيات الكبرى
إجمالا تفاعل الشباب مع ثورة يوليو 1952 تفاعلا إيجابيًّا، ومثلت قيادة عبد الناصر التاريخية عنصر جذب للغالبية العظمى من أبناء الشعب المصري وعلى رأسهم الشباب
وقد تكونت خبرة الشباب السياسية في ذلك الوقت من خلال انتمائه لتنظيمات الثورة السياسية (الاتحاد الاشتراكي، منظمة الشباب، التنظيم الطليعي)، وحكمته أيضًا ثنائيات وأفكار كبرى، ولكن بمضامين جديدة تختلف عن ثنائيات الاستقلال والتحرر التي سادت قبل الثورة؛ حيث تم تقسيم العالم إلى تقدميين ورجعيين، وثوار وأعداء للثورة، وقوميين وإقليميين
وقد تكون الوعي السياسي لشباب هذا الجيل داخل تلك التقسيمات السياسية الكبرى، وكان بريق النص الأيديولوجي وقدرته على تعبئة هذا الشباب حاسمًا في ذلك العصر
فالاشتراكية العربية واجهت الاشتراكية الماركسية، والاثنتان واجهتا اليمين الليبرالي والديني على السواء، وكان شباب كل نص يبذلون جهودًا كبيرة في الالتصاق بنصهم الأيديولوجي، والعمل على اكتشاف الثغرات الموجودة في نصوص التيارات الأخرى، وإبراز الجوانب "المشرقة" في نصهم الأيديولوجي و"المظلمة" لدى نصوص الآخرين.
وقد حرص الشباب القومي والناصري طوال ذلك الوقت على تأكيد أنه ينتمي إلى أيديولوجية ملتصقة بالواقع، وتؤمن بالرسالات السماوية وليست "مستوردة" من الخارج، كما هو الحال في الأيديولوجيا الماركسية. كما حاول الشيوعيون إبراز وسطية الناصرية وترددها في خياراتها الطبقية وعدم عدائها الجذري للإمبريالية العالمية. أما بعض "الشباب الإسلامي" فقد اعتبر أن الدولة الناصرية دولة لا تطبق تعاليم الإسلام، وأحيانًا دولة كافرة. وبقي شباب ذلك العصر محصورًا داخل أفكاره الأيديولوجية، عينه على سطورها ونصوصها الكلية، ونادرًا ما حاول أن ينظر إلى المجتمع وتفاعلاته المعيشة. وقد عاشت مصر في ذلك العصر داخل ثنائيات أيديولوجية كبرى نجحت في أن تكون مصدر جذب واضحا لشباب تلك المرحلة، وكان معارضة مضمونها كثيرًا ما يضع من "تجرأ" على القيام بها في خانة أعداء الثورة والوطن، وكان الخلاف المسموح به هو حول تفاصيل الموقف السياسي وليس جوهر المشروع السياسي القائم. وقد كان ولاء شباب هذا العصر للنص الأيديولوجي السائد هو المدخل لتشكيل وعيه السياسي؛ بل وأحد المعايير الرئيسية الذي على أساسه يتم حراكه داخل السلم السياسي والمهني في البلاد. وقد استبعدت الثورة من نظامها السياسي فكرة وجود الأحزاب السياسية، وبالتالي غابت المعارضة عن المساهمة في التكوين السياسي لجيل هذا العصر من الشباب.
وقد نجحت التنظيمات السياسية في ذلك الوقت وعلى رأسها منظمة الشباب في أن تخلق جيلا مسيَّسًا وفق معايير عصره. صحيح أن كثيرًا من أبناء هذا الجيل قد انضم إلى هذه التنظيمات السياسية لكونها تنظيمات السلطة وليس الثورة، وبالتالي لم يقتنع بمبادئها وأفكارها رغم ترديده لشعاراتها، ومع ذلك فقد نجح كثير من شباب هذا العصر في اكتساب خبرات كثيرة وقدرات عالية من خلال وجوده في هذه التنظيمات. وقد اتضح الدور السياسي للشباب الذي تربى في عصر الثورة وتنظيماتها في أعقاب هزيمة 1967 حين تمرد جيل كامل من طلاب الجامعات على كثير من مثالب النظام القائم، وقام بمظاهرات عارمة اجتاحت الجامعات المصرية بصورة لم تشهدها منذ انطلاق الثورة؛ حيث بدأت بالاحتجاج على ضعف الأحكام الصادرة بحق كثير من القادة العسكريين المسئوليين عن الهزيمة، وانتهت بالمطالبة بإجراء إصلاحات ديمقراطية وسياسية داخل النظام تمحورت حول المطالبة بالتعددية الحزبية واستقلالية العمل النقابي واحترام حرية الرأي والتعبير، إضافة إلى حرية الصحافة. ولعلّ المدهش أن القطاع الأكبر من هذا الجيل تربى في منظمات الثورة، ولكنه في نفس الوقت تمرد عليها، ووجه انتقادات حادة لطريقة أدائها، ولممارسات كثيرٍ من قادتها. وقد كان لهزيمة مشروع ثورة يوليو الناصري في 1967 وقْعُ الصاعقة على هذا الجيل الذي تشكل وعيه السياسي مع أحلام الثورة وثنائياتها المبشرة؛ حيث انكسرت كثير من طموحاته وأحلامه الكبرى.
وقد عرف شباب هذه المرحلة باسم "جيل 68"، وهو الجيل الأكثر تسييسًا في تاريخ مصر المعاصر والأكثر وعيًا بقضايا عصره، وأيضًا الأكثر التصاقًا -في مجمله- مع تقسيمات تلك المرحلة وثنائياتها المطلقة التي قسمت الواقع السياسي إلى "مع وضد"، والأعداء والرفاق"، وغاب عنها أي مساحات نسبية بين الصح والخطأ. وقد حسب لشباب تلك المرحلة أنه تمرد على الثورة من داخل مبادئها وعبر وسائل سلمية -وليست "عنيفة"- في الاحتجاج والمعارضة؛ حيث ظل في مجمله مؤمنًا بالاشتراكية، ولكنه أصرّ على ربطها بالديمقراطية، وآمن بقيادة عبد الناصر ولكنه انتقد بشدة دور الأجهزة الأمنية والبيروقراطية في البلاد. ورغم أن هذا الجيل إجمالا كان من أكثر أجيال مصر خبرة سياسية فإنه في الوقت نفسه تعرض لاستبعاد واضح من الحياة السياسية، ومن التأثير السياسي داخل النخبة الحاكمة، وحتى من اقترب منهم من السلطة والتصق بتوجهاتها ظل ينظر إليه باعتباره "غير مأمون"؛ لأنه في النهاية جاء من خارج الأجهزة البيروقراطية، وامتلك خبرة وخيالا سياسيًّا نتيجة تربيته داخل تنظيمات وحركات سياسية.
ولعل تجربة جيل 68 الأوربية تعطي مؤشرًا على الفارق الهائل بين قدرة أنظمة الحكم الديمقراطية على دمج قطاعات هامة من جيل ثوري داخل أحزاب وقوى التوافق العام عبر عملية تفاعل بين المؤسسات الديمقراطية والواقع السياسي المعيش، وخطاب هذا الشباب الثوري الذي ضم كل ألوان الطيف السياسي من يسار ماركسي ثوري، وماوي، وتروتسكي. وقد أدت "رحلة" التفاعل والدمج هذه إلى أن تعيد أولا صياغة خطاب 68 الأوربي، وتحوله إلى خطاب اشتراكي إصلاحي، أو في صورة أحزاب تدافع عن قضايا البيئة، ثم ساهمت ثانيًا في وصول كثير من تيارات هذا الجيل "المعدلة" ورموزه إلى الحكم في كل بلدان أوربا الغربية. وقد اختلف هذا الوضع كثيرًا عن الحالة الاستبعادية التي شهدتها الساحة المصرية تجاه هذا الجيل الذي ظل خارج دائرة صناعة القرار السياسي؛ ربما عقابًا له على أنه امتلك في يوم من الأيام تكوينا وحلمًا سياسيًّا حتى لو غير كل مضامينه الآن.
شباب ما بعد الأيديولوجيات الكبرى
تغير الوضع مع بداية العقد الماضي، وتراجع دور تيارات النصوص الأيديولوجية الكبرى عن لعب نفس الدور الذي لعبته في العقود السابقة، وبدا أن هناك قطاعات جديدة من هذا الجيل تتفاعل مع السياسة وتمارسها، ولكن بطريقة مختلفة عن تلك التي مارستها التيارات العقائدية. وقد واصل قطاع من هذا الجيل الجديد انتماءه إلى نفس هذه التيارات السياسية والحزبية، إلا أن هذا الانتماء لم يمنع جانبًا كبيرًا منه من تقديم فهم مرن ورحب للأيديولوجيا تجاوز تلك النظرة النصية التي سادت من قبل. وقد تفاعل كثيرون من أبناء هذا الجيل مع العمل السياسي خارج إطار التنظيمات السياسية السرية والمفاهيم الحلقية للعمل الحزبي؛ بحيث أصبحنا نرى بعض شباب الناصريين ينتمون إلى قيمة التحرر الوطني والوحدة العربية، وليس بالضرورة نصوص الميثاق أو بيان 30 مارس، كما شاهدنا ماركسيين أقرب للدفاع عن فكرة العدالة الاجتماعية والاشتراكية بالمعنى الحديث للكلمة وليس عبر الانتماء لتنظيمات ستالينية ضيقة، وظهر أخيرًا إسلاميون يدافعون عن جوهر القيم الدينية والأخلاقية والحضارية التي نادى بها الإسلام، وأكدوا على قيمته كمشروع ثقافي وسياسي في إطار القبول بالمشاريع الأخرى، كما غابت عن الفصائل الأساسية للحركة الإسلامية أي إشارة لتكفير السلطة أو المجتمع وفق تفسيرات نصية ضيقة.
وقد بدت خصومات هذا الجيل الأيديولوجية أقل بكثير من خصومات نظرائهم من أجيال الستينيات والسبعينيات؛ فالحروب والرماح الأيديولوجية التي انطلقت في السبعينيات بين الفصائل السياسية المختلفة لم تظهر بنفس الحدة مع شباب الألفية الثالثة؛ فليس هناك عداوات "مرضية" تجاه تجربة عبد الناصر مثلا بين أوساط معارضيه من أبناء هذا الجيل، وليس هناك حملات تخوينية وتكفيرية تذكر بين مجمل الاتجاهات السياسية المختلفة وسط هذا الجيل، وأخيرًا ليس هناك احتقانات تعكسها مرارات شخصية تجاه تجربة بعينها. فجيل الألفية الثالثة في مجمله -باستثناء المنتمين لجماعات العنف الديني- لم يتعرض لاعتقالات جماعية كما حدث في الخمسينيات مع الشيوعيين والإخوان المسلمين، أو كما حدث في 1981 مع كل القوى السياسية، إنما عاش مرحلة فيها قدر أكبر من التوافق الوطني والجيلي العام على "أجندة معارضة" لجوهر سياسات الداخل والخارج، قائمة أساسًا على الإصلاح السياسي والديمقراطي وعلى احترام حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان.
وقد ظهر أيضًا جيل جديد تفاعل مع السياسة من خارج التنظيمات العقائدية والأحزاب السياسية؛ فانتمى إلى جمعيات العمل الأهلي والمنظمات غير الحكومية، وأصبحت هناك أجندة "متعولمة" لقطاعات واسعة من جيل الألفية الثالثة يطرح فيها أفكاره السياسية الجديدة من دفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وانتمى لأول مرة إلى جمعيات عابرة للقوميات ومتداخلة مع العالم عبر شبكات المعلومات والبريد الإلكتروني. وقد امتلكت قطاعات واسعة ومتزايدة من هذا الجيل خبرتها وتكوينها السياسي من خلال الانتماء إلى قضايا العالم وهمومه والتفاعل معه عبر تقديم قراءة نقدية لكثير من مثالب عصر العولمة، ولكن من خلال الحداثة وقيم العصر الديمقراطية. ومن هنا لم يكن غريبًا أن تكون إحدى الوسائل المدهشة التي قدمها هذا الجيل في دعمه للقضية الفلسطينية كانت عبر كتابة آلاف الرسائل عبر شبكات الإنترنت يشرح فيها مشروعية الكفاح الفلسطيني في مواجهة آلة الاحتلال والعدوان الإسرائيلية، ويخوض مواجهات ساخنة مع أنصار الدولة العبرية في أوربا والولايات المتحدة.
وهكذا لم يكن غريبًا أن تشكل القضية الفلسطينية في حد ذاتها قيمة اتفاق وطني عام بين كل رموز هذا الجيل المُسيَّس منهم -بطريقته- وغير المسيس. فهي قضية عادلة بالمعنى المطلق يجد فيها الشاب ذو التكوين المدني أو العلماني نفسه داعمًا لحق شعب مضطهد في الحرية والاستقلال، والآخر ذو التكوين الإسلامي مؤيدًا لحق شعب مسلم في مواجهة احتلال صهيوني لأرضه، وأخيرًا إذا كان قوميًّا فإنه يناضل من أجل تحرير أرض عربية مغتصبة منذ أكثر من نصف قرن. وقد بدت ثورة الاتصالات التي اعتبرها البعض "شرًّا" يجب وضع المصريين بمنأى عنه فرصة هائلة لصياغة وعي قطاعات واسعة من جيل الألفية الثالثة بلغة العصر، وربطت همومه المحلية والقومية بهموم العالم، وساعدته على صياغة لغة جديدة إنسانية يمكن لها أن تؤثر في العالم وتتأثر به. وهكذا سنجد أن هناك أجندة جديدة عالمية فرضت نفسها على شباب الألفية الثالثة؛ حيث لم يَعُد الدخول إلى حقل السياسة حكرًا فقط على التنظيمات والأيديولوجيات الوطنية إنما نافسها على الساحة تنظيمات وأفكار عابرة للقوميات.
هل ذهبت السياسة أم عادت بصورة جديدة؟
ربما كان من الصعب على من تابع مظاهرات جيل "الألفية الثالثة" للتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية في سبتمبر 2000، والتي عاد وكررها بصورة أكثر صخبًا وحيوية العام الماضي أثناء الغزو الأمريكي للعراق.. أن يقول: إنها تحركت وفق نفس التقسيم الأيديولوجي الذي حكم احتجاجات الطلاب في العقود الثلاثة السابقة؛ فمن الصعب القول بأن هناك تنظيمًا ناصريًّا قويًّا خطط ونظم احتجاجات دعم الانتفاضة. ومن الصعب القول أيضًا بأن كل من شارك في مظاهرات الاحتجاج ضد غزو العراق واحتلال فلسطين ينتمي إلى تنظيم إسلامي حرك الآلاف بإشارة واحدة، بقدر ما كنا أمام حركة جيل، لدى كثير منه ميوله السياسية الناصرية أو الإسلامية، عبّر عن قيم "الطلاب العاديين" وليس التنظيمات العقائدية -حتى لو انتمى بعضهم إليها-؛ ليقود في النهاية وبشكل أساسي "انتفاضة" دعم الانتفاضة الفلسطينية ورفض الاحتلال الأمريكي للعراق.
والحقيقة أن ثقافة التنظيمات السرية التي راجت في الستينيات والسبعينيات والتي كان كل عضو في تنظيم سياسي شيوعي أو ناصري أو إسلامي يحمل "رؤية تكفيرية" ليس فقط لأعضاء التنظيمات الأخرى، إنما أيضًا للتنظيمات الأخرى التي تنتمي إلى نفس توجهه العقائدي.. قد تراجعت بصورة كبيرة مع الجيل الجديد الذي نجح إلى حد كبير أن ينتمي إلى المتوسط العام السائد في المجتمع المصري، وألا يعيش تجربة التنظيمات السرية بروح منعزلة عن العالم المحيط به؛ فيكره أهله الرجعيين أو غير المتدينين، ولا يحب أصدقاءه الذين لم يشاركوه اختياراته الفكرية، ولا يرى العالم إلا من خلال ثقافة الخير والشر التي تفصل بين إخوانه ورفاقه في التنظيم، وباقي أفراد المجتمع. وقد أصبح من سمات هذا الجيل أيضًا انفتاحه على الحياة والمجتمع؛ يعيش أفراده كمواطنين أولاً وليسوا قادمين من كواكب أخرى، أو أرسلتهم العناية الإلهية لإنقاذ المجتمع وهدايته. فكثير من هؤلاء يعيش حياة طبيعية، يتفاعل مع الأنشطة الاجتماعية والفنية المحترمة رغم خلفيته الإسلامية، والبعض الآخر يتواصل بشكل طبيعي مع أهله وأسرته رغم ميولهم "الساداتية"، وميوله "الناصرية".
وهكذا أصبحنا أمام جيل جديد يتفاعل مع الأيديولوجيا والسياسة بصورة -إجمالا- أكثر إنسانية وانفتاحًا من أجيال التنظيمات والحلقات الأيديولوجية الضيقة. ومن هنا كان مدهشا أن يخرج الطلاب، ويحدثوا هذا الحجم من "الاحتجاج السياسي" في ظل مناخ حارب السياسية، وأوصياء حكموا على هذا الجيل بالخفة والابتعاد عن العمل السياسي؛ بل وكل ما يتعلق بالهم الوطني العام. وإذا كان تفاعل هذا الجيل الإيجابي مع ثورة المعلومات وعصر البريد الإلكتروني، وتأثره بما نقلته فضائيات السماوات المفتوحة من صور للمجازر التي ترتكب في الأراضي الفلسطينية المحتلة في ظل عولمة متزايدة للاتصالات.. قد أثر في مشاعره وردود أفعاله، بما يعني أن "ثقافة الملموس" التي تفاعل معها هذا الجيل قد أثرت فيه بصورة مختلفة عن جيل عصر "الاستقلال التام أو الموت الزؤام" أو جيل التعبئة الأيديولوجية؛ فإن هذا لا يعني غياب السياسي والعمل السياسي -بمعنى جديد- عن طموحات وهموم هذا الجيل.
وإذا كانت مفاهيم العمل السياسي قد تغيرت في عصر العولمة؛ فإن بقاء العمل السياسي في بلادنا حكرًا على الجيل والمفاهيم القديمة التي راجت أثناء عصر التحرر الوطني أضر ليس فقط بالسياسة إنما أيضًا بعلاقتها بالشباب. وهنا يصبح من التعسف اعتبار الجيل الجديد سطحيًّا وغير مسّيس؛ لأنه لا ينتمي إلى نفس الطريقة القديمة في التعبير عن اهتمامه بالسياسة. وهكذا من الصعب القول بأن عصر السياسة والأيديولوجيات قد انتهى؛ فلقد وضعنا شباب الألفية الثالثة أمام مفهوم جديد للسياسة وشكل جديد للعمل السياسي اختلف في شكله ومضمونه عن الشكل التقليدي السابق، وبات من غير المبرر الاستمرار في التباكي على النمط التعبوي السابق وعن غياب الأحزاب السياسية، وانتقال الحشود من مؤتمرات الأحزاب إلى ساحات الجامعات والنقابات. وهكذا فإذا كان من الوارد القول بأن اهتمام شباب الألفية الثالثة بالعمل الحزبي والتقسيم الأيديولوجي الضيق قد تراجع، وإن علاقاته بالأطر التنظيمية التي ينتمي لها البعض قد اختلف؛ فإن الصورة بلا شك لن تكون بمثل هذه القتامة حين ننظر إلى تجربة هذا الجيل من خلال المفاهيم والصور الجديدة والمنفتحة التي قدمها من أجل دعم الانتفاضة الفلسطينية ورفض الاحتلال الأمريكي للعراق.
وهنا في الحقيقة سيصبح من الواجب قراءة أفكار وأساليب شباب الألفية الثالثة من خلال العصر والسياق الذي يعيش فيه؛ فكما قرأنا تجارب الأجيال السابقة على ضوء ظروفها التاريخية؛ فإن من الإنصاف قراءة تجارب هذا الجيل وفق ظروف عصره والمناخ الذي تربى فيه. لقد أصبحنا في الحقيقة أمام صورة جديدة للعمل السياسي وأشكال جديدة للتعبئة، وصور مختلفة للضغط والاحتجاج، قادها أساسًا شباب لا ينتمون للأحزاب القائمة أو إلى عقل التنظيمات العقائدية المغلقة، دون أن يعني أنهم بلا ميول أو تحيزات سياسية. صحيح أن هذه الصور "الشبابية" للفعل السياسي ما زالت مصرية في طور التكوين، إلا أنها بلا شك تحمل فرصًا هائلة للتطور والتواصل مع ما يجري في العالم الديمقراطي، وفي صياغة صورة جديدة للعمل السياسي لا تعني بأي حال من الأحوال اختفاء السياسة أو تغيبها كما يروج "البراجماتيون المتأمركون"، أو الموظفون ذوو المناصب "السياسية" في عالمنا العربي.