من المؤكد أن رياح التغيير التي تهب على المنطقة العربية، ليست مجرد موجات شبابية عابرة، لن تنتج عنها سوى تعديلات سطحية وفوقية، ولكنها تمثل كل ما تعنييه كلمة الثورة من معنى التحول العميق المتدرج في البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية في عصر القيم الكونية والثورة المعلوماتية. وهذا التغيير، في التقدير السياسي المتبصر، لن يستثنى منه بلد عربي، كل حسب خصوصيته المحلية. ومن البديهي أن التغيير أمر لا مفر منه. ولا يمكن للطبقات السائدة أن تتجنبه. ولذلك فإنه من الضروري الاستجابة لمتطلبات المرحلة التاريخية، وصياغة مداخل التغيير، والانتقال إلى دمقرطة حقيقية للدولة والمجتمع، بإنجاز الاصلاحات السياسية والدستورية التي تمكن من الانتقال إلى ملكية برلمانية ـ الصيغة الكفيلة بتحقيق المشروع الديمقراطي الحداثي.
عرف المغرب مبكرا، منذ الاستقلال هامشا ديمقراطيا خضع للمد والجزر في خضم الصراع الاجتماعي والسياسي في بلادنا ولعب النضال الجماهيري في مختلف القطاعات الجماهيرية دورا رائدا في توسيع آفاقه رغم شراسة القمع. واليوم يعرف هذا الهامش اتساعا ملحوظا في ظل المرحلة الجديدة بقيادة الملك محمد السادس. ورغم القمع وقساوة المرحلة السياسية السابقة وأسلوب شق الأحزاب وصناعة الخارطة السياسية إلا أننا نستطيع القول إن المغرب قد عرف مبكرا تعددية سياسية على قاعدة نضال جماهيري حقيقي ينأى إلى حد ما ـ مقارنة مع بعض البلدان العربية ـ عن الاستقطاب القبلي والعشائري خاصة في المدن. هذه التعددية أطلقتها الدولة في فجر الاستقلال من منطلقين : الأول لتفادي إستراتيجية الحزب الوحيد آنذاك وقطع الطريق عليه للسيطرة على الحكم. وهو الاحتمال الذي لاح في الأفق أواخر الخمسينات ممثلا في تطور حزب الاستقلال وظهور الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كحزب جذري يساري بقيادة رموز تاريخية كالمهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله ابراهيم.. والثاني لإضعاف التوجه الراديكالي بخلق حزب "الحركة الشعبية" سنة 1959. كي تصبح "التعددية" ،فيما بعد ذريعة لصناعة الخارطة السياسية وشق الأحزاب. حتى أصبحت النخبة السياسية تتحدث في الثمانينيات والتسعينيات عن "الحزب السري" والمقصود به وزارة الداخلية وهيمنتها على الساحة السياسية. وتسير الدولة اليوم في اتجاه تقوية حزب موال لها استطاع أن يستقطب من النخبة السياسية اليسارية بينما يجب احترام التعددية والتعامل مع كافة الأحزاب على قدم المساواة. فبناء الدولة الحديثة يحتاج إلى قوى حقيقية غير مصنوعة. ولا يمكن أن يمر بناء القطب اليميني المعبر عن تطلعات الطبقات السائدة عبر ما اصطلح عليه في الأدبيات اليسارية بتفريخ الأحزاب الإدارية وتقويتها بمدها بكل الوسائل والإمكانيات، في حين تؤبد حالة الحصار المضروب على القوى الجذرية.
كان من المفترض أن يدشن المغرب تجربة ديمقراطية رائدة في وقت مبكر جدا، في إطار الملكية الدستورية. وفسح المجال للتناوب مع حكومة عبد الله إبراهيم التقدمية. إلا أن الشروط التاريخية لم تكن ناضجة بما فيه الكفاية. فسيطرة القوى المحافظة على السياسة العامة للبلاد، وطبيعة المناخ السياسي الوطني والدولي الذي ساد آنذاك والمتسم بالاستقطاب الإيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية عجل بإقالة أول حكومة تناوب ديمقراطي في المغرب، من أجل حسم السلطة السياسية لصالح القوى التقليدية. كان ذلك سنة 1965 التي عرفت انتفاضة 23 مارس الشبابية التي عبرت عن احتجاج قطاع عريض من المجتمع عن إجهاض حلم الاستقلال والتراجع عن المكتسبات السياسية والاجتماعية. وقد أفضى ذلك الانتكاس بالمغرب للدخول في عهد عصيب.. لم يستطع معه الحاكمون، مع ذلك، إلغاء الهامش الديمقراطي كلية، إذ عرف المغرب حركة نقابية قوية ونشاط يساري سري وعلني حافظ على حده الأدنى في ظروف القمع. وساهمت الحركة النسائية والشبابية والقطاع الطلابي كل من موقعه في صياغة مطالب المرحلة وناضلت من أجل انتزاع المكاسب.
ورغم ما حققه المغرب في العشرية الأخيرة من استقرار نسبي، فإن هناك عدة سلبيات تطبع المرحلة، منها تعثر الدولة في تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد الإداري والمالي، وتراجعها في حقوق الإنسان. وهو ما عبر عنه بيان شبيبات تجمع اليسار الديمقراطي الداعي إلى المشاركة في مسيرات 20 فبراير2011 بـ" * تراجع واقع حقوق الإنسان و الحريات ببلادنا من خلال ما يلي:
- التضييق على الصحافة و الصحفيين و متابعة العديد منهم و إصدار أحكام ضدهــم.
- قمع كافة أنواع الحركات الاحتجاجية.
- العمل بقانون الإرهاب الذي يتنافى و مبادئ حقوق الإنسان.
- متابعة و اعتقال العديد من المناضليــن السياسيين بسبب نشاطهم النقابـي أو السياســي أو الحقوقــي.
* سيادة قضاء فاسد و غير مستقل و توظيفه في تصفية الحسابات خدمة لأهداف الطبقة الحاكمة.
* تنظيم انتخابات مطعون في سلامتها في مناخ سياسي غير ديمقراطي.
* سيادة الرشوة و المحسوبية و الزبونية ضدا على مبادئ القانون و قواعد العدالة"
إن طرح هذه السلبيات يدخل في تقويم التطور الديمقراطي ببلادنا. وهي مظاهر للتناقض من جهة بين حاجة المرحلة إلى نقلة نوعية انطلاقا من تطلعات الشباب والفئات الاجتماعية التواقة إلى وطن قوي وعيش كريم وديمقراطية أو بمعنى آخر"من أجل الوطن والخبز والديمقراطية" وبين القوى المسيطرة التي لا مصلحة لها بالتغيير من جهة ثانية. وهذا التناقض من شأنه أن يحل بتعميق وتسريع وتيرة الإصلاح الديمقراطي وتدعيم جهود الملك في هذا الإطار.
لقد راكم المغرب تجارب مهمة في بناء المجتمع المدني. واستطاع أن يفتح أوراش الإصلاح في عهد الملك محمد السادس. وأن يصبح لقيادة للدولة العليا مشروعا مجتمعيا تقدميا يستلهم خطاب اليسار تحث شعار" المشروع الديمقراطي الحداثي
" وهو ما عبر عنه اليساريون في الثمانينيات من القرن الماضي بـ"دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع". وساهم اليسار بشكل قوي في الانتقال من العهد السابق إلى المرحلة الحالية، من خلال حكومة التناوب، بالرغم من كل الانتقادات التي يمكن أن نوجهها لهذه التجربة. انخرط المغرب في الإصلاح على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، لكن لا يزال مطلب الإصلاح السياسي والدستوري مؤجلا، بالرغم من أنه قد طرحت مطالب جذرية سنة 1996 لمناسبة التعديل الدستوري، من طرف منظمة العمل الديمقراطي الشعبي وأدت هذه الأخيرة الثمن باهضا. حيث شقت الدولة صفوفها وعرضتها لقمع شرس. فهل آن الأوان لانتقال المغرب إلى مرحلة أرقي يتجسد فيها المشروع الديمقراطي الحداثي في شكل ومضمون متقدمين من خلال الانتقال إلى ملكية برلمانية تسمح بانبثاق الحكومة من الأغلبية البرلمانية، حيث يعين الوزير الأول من هذه الأغلبية على قاعدة برنامج سياسي منسجم وواضح؟ هذا له علاقة بالفرز السياسي في بلادنا. وانسجاما مع هذا الشكل الأرقى إلى حد الآن في التجربة الديمقراطية العالمية، لابد من اصطفاف القوى السياسية في كتل كبرى يلحم عناصرها انسجام مرجعي ونظري وتنظيمي. وتحفظ توازناتها توافقات سياسية عقلانية. ويصبح تجميع الأحزاب الصغيرة المنسجمة في حزب واحد أمرا ضروريا لتشكيل الأحزاب الكبرى التي تمثل تطلعات القوى الرئيسة في المجتمع. البرجوازية والطبقة الوسطى والعمال والفلاحون والفئات الشعبية الفقيرة. لينهي المغرب عهد الفسيفساء الحزبي. فكما أن الديمقراطية تتنافى مع الحزب الواحد، فإنها أيضا تتناقض مع التعددية الكمية المصطنعة.
إن الثورة العربية في تونس ومصر هي ثورة ديمقراطية ينجزها الشباب الديمقراطي المتشبع بالقيم الكونية كالحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان. ضد الاستبداد والتسلط والفساد والتفقير. لكن المجتمعات العربية متفاوتة التطور. ومطالب كل بلد وشكل التغيير ومضمونه ومدى نجاح الانتقال الديمقراطي فيه، تتوقف على خصوصيته. فمطالب مجتمع قائم أساسا على النظام العشائري والقبلي ( اليمن، البحرين، ليبيا..) ستختلف طبعا مسارات التغيير فيه عن مساري تونس ومصر. وحالة المغرب تختلف تماما، لأن مدخل الانتقال الديمقراطي الحداثي الآن بالنسبة لنا هو الإصلاحات السياسية والدستورية بما يمكن المغرب من الانتقال نحو ملكية برلمانية تحقق الفصل الحقيقي للسلط وتفرز برلمانا قويا وحكومة منبثقة عن الإرادة الشعبية ذات شخصية وصلاحيات حقيقية مستمدة من الدستور ومن انبثاقها عن أغلبية برلمانية حقيقية أيضا. هذا مع استمرار الدولة في أوراش الإصلاح الاقتصادي والإجتماعي.