تعمّ الحراكات الشعبية نحو عشرة أقطار عربية. ومع تمدد الحراكات في المشرق والمغرب وتعميق شعاراتها وأهدافها، سياسياً واجتماعياً، كما في مصر وتونس، نشأت عنها تداعيات وتأثيرات فاضت على ما حولها وأسهمت في توليد تحوّلات لافتة. في فلسطين المحتلة، يتابع أطراف الصراع، على ضفتيها العربية والصهيونية، الحراكات الشعبية وتداعياتها، ويحللونها ويستخلصون منها نتائج ودروساً، ويرسمون في ضوئها مواقف واستراتيجيات. من مراجعة الواقعات والممارسات ذات الصلة، تستبين الظاهرات والاتجاهات الآتية : على الصعيد الفلسطيني، اتخذ الحراك الشبابي في قطاع غزة والضفة الغربية صورة الاعتراض الشديد على ظاهرة الانقسام السياسي، وحثّ القيادات على تجاوز مظاهره المفرّقة باتجاه ترميم الوحدة الوطنية وتصليبها. كما أسهم الحراك الشبابي في تزخيم الدعوة الى مصالحة حركتي 'فتح' و'حماس' من اجل إقامة حكومـة موحدة تُشرف على إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية.
بنيامين نتنياهو استهجن مشروع مصالحة 'فتح' و'حماس' بقوله، 'كيف يمكن ان يكون محمود عباس مؤيداً للسلام مع اسرائيل، وفي الوقت نفسه، مؤيدا للسلام مع 'حماس' التي ترغب في القضاء علينا'؟ الى ذلك، تتابع السلطة الفلسطينية جهودها الرامية الى الحصول على أوسع تأييد دولي لمشروعها الرامي الى اعتراف الامم المتحدة في دورة ايلول/ سبتمبر القادمة بدولة فلسطينية مستقلة في حدود عام 1967. يواكب سعي السلطة الفلسطينية في هذا السبيل معارضة صهيونية متزايدة، تمثلت بتهديد بنيامين نتنياهو للفلسطينيين باتخاذ خطوات عقابية احادية الجانب في حال الاستحصال على اعتراف اممي بالدولة المرتجاة. وقد تردد ان الخطوات العقابية ربما تتمثل بفرض القانون الإسرائيلي على الضفة الغربية، او ضم الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الى اسرائيل (صحيفة 'هآرتس' 29/3/2011). هكذا يتضح ان كلا الجانبين، الفلسطيني والاسرائيلي، يقف على عتبة اتخاذ قرارات مصيرية ذات تأثير متبادل على كليهما. على الصعيد الاسرائيلي، تبدو القيادة الاسرائيلية العليا، السياسية والعسكرية، قلقة ومرتبكة ازاء الحراكات الشعبية، ولاسيما ما يتعلق منها بمصر وسورية، وانعكاساتها المحتملة على الساحة الفلسطينية. فهي وإن كانت قد اطمأنت الى ان مصر ستبقى ملتزمة في المستقبل المنظور بمعاهدة الصلح معها، إلاّ انها تشعر بأن سياسة القاهرة حيال المعابر والانفاق سيطرأ عليها تعديل. فمعبر رفح سيفتح امام اهل غزة بصورة دائمة، وعينا مصر ستتغاضيان عن عشرات الانفاق التي تمدّ قطاع غزة بأسباب الحياة و... المقاومة.
بعد وصول احد صواريخ المقاومة الفلسطينية اخيراً الى ضواحي تل ابيب، اضطرت القيادة الاسرائيلية الى المفاضلة بين خيارين: الاول يقضي بشن عملية عسكرية واسعة النطاق على قطاع غزة لإلحاق اضرار بشرية ومادية جسيمة به، وإعادة تثبيت مفهوم الردع. الثاني يقضي بشن سلسلة عمليات تدمير واغتيالات مؤثرة، انما من دون التسبب بتصعيدٍ للاوضاع في المنطقة (صحيفة 'يديعوت احرونوت' 24/3/2011). اهتمام اسرائيل بالحراكات الشعبية يتعدى انعكاساتها على قطاع غزة وجهود السلطة الفلسطينية للحصول على اعتراف أممي بدولة فلسطينية مستقلة، ليشمل المنطقة برمتها. ذلك انها تتوقع، كما كشف المحلل السياسي الوف بن في 'هآرتس' (26/3/2011) ان الثورات والحروب في الدول العربية لن تؤدي الى تغيير المنطقة فقط، بل ستعيد ايضا رسم خريطتها. فالحدود التي وضعتها الدول الكبرى التي تقاسمت في ما بينها افريقيا والامبراطورية العثمانية توشك ان تتغير، ما يؤدي الى ظهور دول جديدة في السودان والعراق وفلسطين وشرق ليبيا. وتؤمل اسرائيل بأن تُحسن انتهاز الفرص المترتبة على ظهور دول جديدة للاستفادة منها، بل للاسهام ايضا في توجيه عملية تفكيك دول الشرق الاوسط لزيادة قوتها ونفوذها في المنطقة !
على الصعيد العربي، يبدو المستقبل غامضاً بل عصيّاً على الاستشفاف. ذلك ان الحراكات الشعبية التي تعصف بالاقطار العربية ما زالت في بدايتها، وقد تجري مياه كثيرة تحت الجسور قبل ان تكتمل فعاليتها وتتضح نتائجهـا. في مصر، تجددت الروح الشبابية الدافعة للحراك الشعبي والناهضة بمتطلبات الحشد والتعبئة، فأمكن جمع مئات الالاف في ميدان التحرير من اجل 'انقاذ الثورة' من 'تراجعٍ عن مبادئ حركة 25 يناير' ولاسيما لجهة محاكمة حسني مبارك ورموز الفساد في نظامه، والمماطلة في اطلاق المعتقلين السياسيين. في سورية، يواجه نظام حزب البعث تحدييّ المؤامرة والاصلاح معاً، من دون ان يتضح ما اذا كانت الاصلاحات التي تأخر النظام في إقرارها ستنال رضا المحتجين والمتظاهرين بعد تنفيذها، ام انها ستكون سبباً لتوسيع دائرة الاعتراض والمعارضة. اما في ليبيا واليمن، فظاهر الصراع يشير الى امكانية تطوره الى حرب اهلية طويلة الامد، لا يمكن التكهن اليوم بما يمكن ان ينجم عنها غداً. ثمة دلائل متعددة تشير الى ان دول امريكا وأوروبا، كما اسرائيل، دخلت بشكل او بآخر، على خط الصراع في معظم الاقطار التي تعصف بها حراكات شعبية، وان تدخلاتها ليست، بطبيعة الحال، بريئة بل هي تشي بمخاطر جمة تهدد وحدة أقطار عدة كما مواردها الطبيعية.
هل يمكن استشراف الخطوط الرئيسة لما يمكن ان تتجه اليه التطورات والتحولات الماثلة؟ لعل قضية فلسطين، بما هي نقطة تقاطع عدة سياسات وصراعات عربية واقليمية ودولية، المدخل الاقرب والاهم للجواب عن السؤال. يقتضي، بادىء الامر، التركيز على واقعات وتحوّلات بالغة الدلالة :
أولاها، ان التحالف اليميني ـ الديني الحاكم في الكيان الصهيوني ليس في صدد التراجع عن المكتسبات التي حققها بالحرب والاحتلال في ارض فلسطين التاريخية، إلاّ في اضيق الحدود وبما لا يتعارض مع هيمنته عليها من النهر الى البحر. لا حل الدولتين، ولا الدولة ثنائية القومية، ولا حتى الدولة المنزوعة السلاح ذات الحدود المؤقتة على اقل من 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية، يعتبرها مخرجاً جدياً. هذا يجعل خيار المفاوضات غير ذي موضوع. في المقابل، ما عاد خيار مفاوضة اسرائيل مقبولاً لدى الفلسطينيين. حتى جماعة السلطة الفلسطينية اسقطته معتمدةً بدلاً منه خياراً آخر هو الاستحصال من الجمعية العامة للامم المتحدة على اعترافٍ صريح بدولة فلسطينية مستقلة على 'حدود' العام 1967.
ثانيتها، مع اندلاع الحراك الشعبي في سورية ونزوع نظام البعث فيها الى اتهام الولايات المتحدة، ومن ورائها اسرائيل، بالتآمر عليه، ما عاد خيار السلام بين اسرائيل وسورية وارداً. لا بشار الاسد يريده اصلاً ولا اسرائيل بإمكانها الاستعاضة به عن انهيار مفاوضاتها العبثية مع الفلسطينيين، وخصوصاً بعد ازدياد المخاطر المشعة من محور سورية - ايران - حزب الله عقب سقوط حسني مبارك.
ثالثتها، ان اسرائيل تعاني من انحسار 'شرعيتها' الدولية لكونها آخر دولة محتلة في العالم وتسيء، فوق ذلك، معاملة الفلسطينيين، وثبوت ذلك بعدة قرارات ووثائق دولية ليس آخرها تقرير غولدستون. ذلك كله يعقّد مسألة لجوئها الى الحرب، مرة اخرى، لتطويع اعدائها، ولا سيما بعد تنامي قوة حزب الله وقدرته (فضلاً عن سورية ايضا) على إلحاق اضرار بشرية ومادية بالغة بها في حال اعتمادها خيار الحرب. لذلك تفضل اسرائيل اعتماد خيار الردع الرامي الى لجم العدو من دون حمله على الرد بالحرب. على ان ذلك لا يمنعها، في حال توفر ظروف اقليمية ملائمة، من اللجوء الى الحرب لتحقيق اهداف استراتيجية متقدمة.
رابعتها، ان الولايات المتحدة ليست في وضع يمكّنها من دعم الفلسطينيين للحصول على اعتراف من الامم المتحدة بدولتهم، ولا دعم اسرائيل في حرب حاسمة ضد الفلسطينيين والعرب الذين يدعمونهم، وإن كانت ستمتنع عن الوقوف ضد اسرائيل فيما اذا شنت الحرب عليهم. كل ذلك سببه حرص باراك اوباما على مراعاة اليهود الامريكيين لضمان فوزه بولاية رئاسية ثانية.
في ضوء هذه الواقعات والاحتمالات، ماذا يمكن ان يفعل الفلسطينيون وحلفاؤهم؟ ليس في مقدور الفلسطينيين ولا حلفائهم في الوقت الحاضر اللجوء الى خيار الحرب ضد اسرائيل، بالنظر الى واقع عدم التكافؤ العسكري والتكنولوجي معها. غير انهم وحلفاءهم قادرون على ردع العدو الصهيوني في حال شن الحرب عليهم وتكبيده قدراً كبيراً من الاضرار ما يجعله يفضل الاستعاضة عن خيار الحرب ببدائل اخرى. غير ان مواجهة احتمال الحرب الصهيونية وضرورة الاستعداد للرد عليها بالردع الشامل من جهة، ومجابهة سياسة اسرائيل الرامية الى تهويد القدس الشرقية وقسم كبير من الضفـة الغربية من جهـة اخرى، تفرضان على الفلسطينيين (وحلفائهم ) اعتماد استراتيجية مواجهة تقوم على المرتكزات الآتية :
(أ) استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية بمصالحة شاملة بين الفصائل والاحزاب على اساس الثوابت الوطنية والحقوق غير القابلة للتصرف، والعودة الى اعتماد خيار المقاومة، المدنية والميدانية، بحسب ما تقتضيه متطلبات الجهاد ضد العدو الصهيوني، وإقامة حكومة وطنية جامعة مهمتها اجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، بعدها إقامة حكومة اتحاد وطني لمواجهة التحديات الماثلة.
(ب) اسقاط سياسة التفاوض مع العدو، بالعمل للحصول على اعتراف من الامم المتحدة بدولة فلسطينية سيدة مستقلة على اساس خطوط وقف النار للعام 1967، وفق صيغة الاتحاد من أجل السلام، وذلك عملاً بمبدأ حق الشعب الفلسطيني بإقامة سلطة وطنية على اي جزء من ارضه يجري تحريرها من العدو، مع التمسك بتحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر الى البحر بقوى الداخل الثائر وقوى الشتات الفلسطيني المساند، وبالتحالف مع قوى المقاومة والممانعة في المنطقة.
(جـ) مع قيام الدولة الفلسطينية بقرار دولي، يصبح الاحتلال الاسرائيلي غير شرعي بالمطلق، فتكون مواجهته شرعية وواجبة بكل الوسائل المتاحة، وفي مقدمها المقاومة المدنية والعصيان المدني. هكذا تجد اسرائيل نفسها في حمأة انتفاضة شعبية شاملة يقوم بها عرب الداخل (1948) وعرب الضفة والقطاع، ووسط حصار سياسي وتنديد اخلاقي اقليمي ودولي.
(د) في حال تمادت اسرائيل في رفضها تنفيذ القرار الدولي، يكون من حق الدولة الفلسطينية السيدة والمستقلة ان تتعاون مع، وان تنخرط في التحالف القائم بين قوى المقاومة والممانعة في المنطقة، وان تستفيد من امكاناتها السياسية والاقتصادية واللوجستية والعسكرية في الكفاح لتثبيت سيادتها على ارضها، ومن ثم لتحرير كامل التراب الفلسطيني.
هذه المقاربة مطروحة للمناقشة.
كاتب وسياسي من لبنان