أيام الزهور والدماء
لم يكن أكثر الناس تفاؤلا يتوقع ما حدث فى مصر اعتبارا من يوم الثلاثاء 25 يناير الماضى. صحيح أن الاحتجاجات قد تكررت فى مصر عبر السنوات الماضية بشكل لافت، وصحيح أيضا أن انتفاضة الشعب التونسى لابد وأن تكون قد أثرت فى الساحة السياسية المصرية، لكن نموذج الاحتجاجات المصرية بدا، وكأنه يدور فى حلقة فئوية مفرغة لا يستطيع أن يلفت منها إلى الصعيد الوطنى الأرقى الذى يمكن من خلاله وحده إيجاد الحلول لجميع المشكلات الفئوية، خاصة أن قوى المعارضة المصرية فشلت باستثناءات نادرة فى أن تصل إلى الصعب الحساس للشارع المصرى، ناهيك عن ضعفها وانقساماتها، ولذلك سهل دوما على النظام أن ينفرد بتلك الاحتجاجات واحدا تلو الآخر، وسولت له نفسه من ثم أن يجرى الانتخابات البرلمانية الأخيرة على النحو الذى مكن الحزب الوطنى الحاكم من أن يتحدث عن اكتساح لتلك الانتخابات، وتبارى محللوه فى تفسير أسباب هذا الاكتساح.
لكن الواقعة وقعت، وتكفلت هذه المجاميع الرائدة والرائعة من شباب مصر بأن تبادر بانتفاضتها فى عمل غير مسبوق فى تاريخ مصر المعاصر، متجاوزة بذلك خلافات أحزاب المعارضة وقواها، وإن كانت هذه الأخيرة قد وجدت الفرصة سانحة فى هذا السياق لمحاولة تصدر المشهد السياسى، وإعطاء الانطباع بدور زائف فى توجيه مجريات الأمور، وهو خطر على انتفاضة شباب مصر لا يقل عن خطر تربص النظام بها. وتفتح هذه التطورات المجال لإبداء عدد من الملاحظات على الطريقة، التى أدار بها نظام الحكم أزمته الراهنة وما يزال، بالإضافة إلى بعض دلالات مهمة لما جرى ويجرى.
يلاحظ أولا أن النظام تعامل مع الأزمة باعتبارها حدثا عابرا يمكن تجاوزه بوسائل نمطية، وربما يعكس هذا خللا فادحا فى قنوات التوصيل التى تنقل نبض الشارع إلى القيادة السياسية، بدليل أن مسئولا واحدا لم يطل على الشعب لأيام بدت طويلة وكئيبة حتى ألقى رئيس الجمهورية كلمته التى صدمت الكثيرين، لأننا إذا حذفنا منها إقالته الحكومة يمكن أن تكون فقرة عادية فى خطاب يلقى فى مناسبة روتينية، وحتى إقالة الحكومة كانت مطلبا شعبيا ملحا قبل تفجر الانتفاضة بمدة، فهى لا تشكل بحد ذاتها إذن خطوة نوعية فى التعامل مع الأزمة. وتأكد هذا فى تشكيل الحكومة الجديدة التى لم يميزها عن سابقتها سوى شخص رئيسها الذى يحظى باحترام واسع، وخروج رجال الأعمال منها. وينسحب الأمر نفسه على تعيين نائب لرئيس الجمهورية يتمتع بتقدير شعبى حقيقى، ومع ذلك قد يذكر جبلى أن هذا المطلب يكاد يكون قد بدأ بولاية مبارك أى منذ نحو عقود ثلاثة، ولذلك فلا معنى محددا له فيما يتعلق بمواجهة الأزمة الراهنة، اللهم إلا إذا كان تمهيدا لانسحاب رئيس الجمهورية من المشهد السياسى. الملاحظة الثانية هى الاعتماد على الشرطة وحدها فى إدارة الأزمة، ويتسق هذا مع النظر إليها باعتبارها أزمة عادية عابرة، وقد سبقت الإشارة غير مرة إلى أن الشرطة مهما بلغت قوتها لا يمكن لها أن تنجح فى مواجهة إرادة شعبية عارمة، وهو ما أكدته انتفاضة الشعب التونسى.
لكن ما كان قد كان، واتساقا مع المنطق نفسه لم تجد الشرطة أمامها سوى استخدام القوة المفرطة ضد جماهير الانتفاضة، وربما تكون قد فعلت هذا بناء على «أوامر سياسية قصيرة النظر بضرورة وضع حد للمظاهرات فى توقيت زمنى معين، وتكفل التوتر والاتجاهات غير السوية لدى بعض رجالها بالباقى، وقد سبق التحذير من أن تحميل الشرطة وحدها أوزار مواجهة أخطاء نظام بأكمله من شأنه أن يضعها دوما فى مواجهة مع الجماهير على النحو الذى يفضى إلى حاجز من الكراهية بين هذه الجماهير وبينها، وهو ما من شأنه أن يؤثر بالسلب على وظيفتها الأساسية فى حماية أمن المجتمع.
والواقع أنه كما أدت حرب أكتوبر 1973 إلى إسقاط نظرية الأمن الإسرائيلى فإن انتفاضة يناير 2011 يجب أن تكون نقطة النهاية فى نظرية تحقيق الأمن السياسى بالقوة وحدها، فالاحتجاجات المشروعة كانت تتصاعد، فلا تواجهها إلا الشرطة، وتبقى أسبابها دون حل، والانتخابات البرلمانية تزور بقرار سياسى، وعلى الشرطة أن توفر الغطاء لهذا.. وهكذا. والواقع أيضا أن أولى المهام، التى يتعين على وزير الداخلية الجديد أن يقوم بها هى تصحيح صورة جهاز الشرطة الذى يضم بالتأكيد أفرادا غير أسوياء يغترون بسلطتهم، ويبالغون فى إساءة استخدامها، لكنه فى الوقت نفسه يضم ضباطا على أعلى مستوى من الخلق الوطنية والعلم، ومن الظلم أن يؤخذ هؤلاء بجريرة الفاسدين فى جهاز الشرطة. وعلى القيادة السياسية أن تعيد تكييف دور جهاز الشرطة بحيث يكون التركيز فيه على تحقيق الأمن الجنائى وحراسة المنشآت وتنظيم المرور وما إلى هذا، وتخف مسئوليته المباشرة عن الأمن السياسى، ولن يحدث هذا إلا بإصلاح ديمقراطى حقيقى يسمح بحق التظاهر السلمى، الذى يمكن معه أن يقتصر دور الشرطة على حماية المتظاهرين وليس استخدام العنف ضدهم، وهو ما تفعله القوات المسلحة الآن، وهنا فقط يمكن أن يكون دور الشرطة فى مواجهة أعمال التخريب فعالا.
تبقى ضرورة التحقيق القضائى الفورى فى حقيقة ما وقع مساء يوم «جمعة الغضب» من انسحاب مريب لقوات الشرطة لا من مواجهة المظاهرات، فهذا قد تبرره الاستعانة بالقوات المسلحة، ولكن من جميع المواقع التى يفترض بالشرطة أن توجد فيها، وحتى إذا كان لهذا مبرراته فإن العقل لا يمكن أن يقبل السهولة التى تم بها فتح عديد من السجون وإتاحة فرصة الهروب لنزلائها، بكل ما يعنيه هذا من مساس خطير بأمن المجتمع، وهذا فضلا عن مؤشرات أخرى تفيد بأن لسان حال البعض من قيادات الشرطة كان يستند إلى منطق «خلى الجيش ينفعكم»، وفى كل الأحوال وأيا كان من تشير إليهم أصابع الاتهام فإن الأمر يصل بمن دبر إلى حضيض الخيانة العظمى.
نعود إلى نقطة البداية، وهى شباب مصر أى مستقبلها، والذين كان جيلى يستعوض الله فيهم على أساس أنهم وقعوا فريسة لتفاهات الإنترنت، والفن الهابط، وإدمان المخدرات، وأعمال البلطجة، وغير ذلك من أوصاف بالغة السوء فإذا بهم يخرجون كالمارد ليكتبوا واحدة من أهم الصفحات فى تاريخ مصر المعاصر، ويكفيهم فخرا أنهم تجاوزوا بضربة واحدة المعضلة السخيفة لانقسامات قوى المعارضة المصرية، التى يحاول بعضها الآن بتخطيط ظاهر ركوب انتفاضتهم، وهو كما سبقت الإشارة خطر داهم. ليس هذا فحسب، وإنما امتد العمل الخلاق للشباب إلى تشكيل لجان الحماية الشعبية عندما غابت الشرطة وانفلت الأمن، وفى هذه اللجان ذات الجميع فى الوطنية المصرية بغض النظر عن المستوى الاجتماعى أو الدين أو الاتجاه السياسى، وثبت أن الخطر الحقيقى على المجتمع ليس من العشوائيات، التى تأوى المهمشين اجتماعيا، وإنما من «عشوائيات السياسة»، والواقع أنه بدون هذه المبادرة الحضارية ما كان ممكنا للقوات المسلحة فى تقديرى أن تتهم مهمتها الجليلة فى الحفاظ على الأمن الداخلى للوطن، وهى مهمة ممتدة بقدر تفاقم مخاطر سرقة انتفاضة الشباب، ولذلك فإنه على الرغم من الأخطار التى تحيط بالمستقبل القريب يبقى مستقبل مصر بخير طالما أن حماته هم هذا الشباب الرائع ذو الحس الوطنى المرهف والإرادة الواعية الصلبة.
إدارة التغيير فى الثورة المصرية
عندما شرعت فى كتابة هذه السطور كان كل ما يمكن أن يقال من آراء بشأن الثورة المصرية العظيمة قد قيل. بغض النظر عن حق الشباب الذى فجر الثورة فى أن يتمسك بمطلبه الأساس فإن المرء عندما يلقى نظرة شاملة على ما حدث فى مصر منذ يوم 25 يناير المجيد لا يصدق نفسه، ففى حوالى أسبوعين حققت مصر بفضل شبابها ما أخفقت فى تحقيقه طيلة عقود: عُيِّنَ نائبٌ لرئيس الجمهورية وتغيرت الوزارة ــ مع التحفظ على الطريقة التى شكلت بها، وهو تحفظ يشارك فيه رئيس الوزراء نفسه ــ وسقط إلى الأبد مشروع التوريث، وأُطيحَ بالمكتب السياسى للحزب الوطنى المسئول عن كارثة تزوير الانتخابات البرلمانية ــ مع كل الملاحظات حول التشكيل الجديد للمكتب ــ ودخلت قوة سياسية مهمة هى الإخوان المسلمين إلى دائرة الحوار، وهى القوة التى ظل النظام يركز فى سخرية على إنها محظورة، ومع أننى لست من مؤيدى فكرة الحكم الدينى على الإطلاق بكل صورها وأشكالها إلا أن دخول الإخوان المسلمين ساحة الحوار من شأنه أن يكون عامل استقرار فى اللحظة الراهنة، خاصة أنهم قد ساهموا بصورة أو أخرى فى الثورة الحالية إلى الدرجة التى خشى معها البعض أن يكونوا بسبيلهم إلى سرقة الثورة والقفز على الحكم فى هذه اللحظة التاريخية.
ما تحقق كثير إذن، وما لم يتحقق أكثر لكن الفكرة كما سبقت الإشارة أن أحدا لم يكن يتصور أن تحدث هذه التحولات فى أيام قليلة. لكن هذا لا يعنى أن ثورة شباب مصر بلا مشاكل، وهى مشاكل تتعلق بإدارة عملية التغير الثورى الراهن، وعندما يراجع المرء هذه العملية بطول الوطن العربى وعرضه منذ حصلت بلدانه على استقلالها فى أعقاب الحرب العالمية الثانية يجد أنها بدأت بداية هزيلة عبر آليات الانقلابات العسكرية الخالية من أى مضمون، وكان بعضها رهنا بمصالح أجنبية لا شك فيها، وانتهت هذه الانقلابات كما بدأت من دون أن تحدث تغييرا يذكر، ونموذجها الأشهر هو الانقلابات العسكرية السورية فى أربعينيات القرن الماضى وخمسينياته. ثم دخلت عملية التغيير منعطفا جديدا عبر انقلاب عسكرى أيضا تمثل فى ثورة يوليو 1952، وهو انقلاب أيده الشعب بوضوح لأنه كان يستجيب لمتطلبات التغيير فى ذلك الوقت، الأمر الذى فتح الباب لتكييفه على أنه ثورة، لكن البعض لم يكن يرى فيه سوى نظام ديكتاتورى عسكرى، وإن كان قد تميز بالتأكيد عن سابقيه من الانقلابات العسكرية بأنه تبنى مشروعا حقيقيا لتغيير يقوم أساسا على الاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية بالإضافة إلى أبعاده العربية المعروفة.
وبهزيمة يونيو 1967 اهتزت شرعية النظام على نحو جذرى، والواقع أنه لولا مواصلة النضال ضد الاحتلال الإسرائيلى لسيناء لانتهت هذه الشرعية تماما، غير أن الأسوأ أن يوليو 1952 فتح الباب أمام عديد من الانقلابات التى تشبهت به وإن لم يكن هدفها سوى الاستئثار بالسلطة، وحتى تلك التى أحدثت تغييرات إيجابية فى المجتمع بالغت فى قمع جماهيرها على نحو غير مسبوق أفقد ما حققته أى قيمة. ثم تكفلت التطورات بسقوط هذه النظم أو معظمها، لكن السقوط تم هذه المرة بآلية غير مسبوقة تمثلت فى بعدين أساسيين: أولهما أن التغيير الثورى تم بفضل نخبة مدنية، وثانيهما أن هذه النخبة تكونت أساسا من الشباب، وعندما نقول أساسا فإننا نقصد أن فئات من جميع الأعمار شاركت فيها وإن بقى الشباب هم المكون الرئيسى لقاعدة قوتها. بدأت هذه العملية الثورية الجديدة فى تونس، لكن تعقد إدارة التغيير فى بلد كمصر جعل عملية التحول الثورى تأخذ أبعادا أكثر تعقيدا بكثير، ويكفى مثلا أن المؤسسة العسكرية التى يُذكَر لها فضل حماية أمن مصر فى لحظات الانتقال الحرجة التى أُطلِقَت فيها قوى الشر من عقالها فى محاولة لوأد الثورة ــ يكفى أن هذه المؤسسة لم تتخل عن رئيس الجمهورية عكس الحالة التونسية.
هذه السمات الجديدة للنخبة القائمة بالتغيير تتضمن دون شك إيجابيات لا حدود لها، ويكفى أنها تعنى للمرة الأولى فى بلد كمصر إدارة التغيير الثورى عن طريق نخبة مدنية، وأن هذه النخبة هى دون جدال نخبة المستقبل التى حرمت كثيرا من حقها فى المشاركة فى صنع مستقبل وطنها حتى كادت أن تفقد انتماءها لهذا الوطن، لكن هذه السمات الإيجابية لا تعنى من ناحية أخرى أن ثورة الشباب بلا مشاكل، ولا شك أن المشكلة الأهم هى أن شباب الثورة دون قيادة موحدة، وأعلم أن البعض سيسارع إلى نفى هذا الحكم، ولكن حتى إذا كان شباب التحرير موحدى الإرادة على مطلب واحد ومشروع بالتأكيد فإنهم بمفهوم المخالفة يجب أن يسلموا أن الشباب الذين غادروا ميدان التحرير لعدم تمسكهم بمطلب رحيل رئيس الجمهورية أكثر تقبلا لفكرة الحوار، وأكثر ثقة فى استحالة خداع النظام لجماهيره. مرة أخرى يجب كذلك التسليم بأنه بسبب هذه المشكلة ــ أى مشكلة القيادة ــ فإن قوى كثيرة بعضها أحزاب «كرتونية» وبعضها أفراد لا يستحقون أن يوجدوا فى المشهد السياسى الراهن أصلا ــ دون إنكار للقيمة الرفيعة لعدد من الأشخاص الذين بادروا بالحوار ويحاولون إدارته على نحو يصل بالوطن إلى بر الأمان ــ قد سارعت ــ أى هذه القوى ــ إلى محاولة القفز على الثورة. صحيح أن الشباب لا يعترفون بصفتهم التمثيلية، لكنهم من الناحية الواقعية صاروا موجودين فى مشهد الحوار الحالى. وهذه المسألة ــ أى مسألة وحدة القيادة ــ مشكلة يتعين على شباب الثورة أن يحلها جذريا فى أسرع وقت ممكن مع الاعتراف بصعوبة هذه المهمة بكل تأكيد.
بل إن المهزلة أن بعض القوى الخارجية التى لم يعرف عنها دعم التطور الديمقراطى الحقيقى لا فى مصر ولا فى غيرها كالولايات المتحدة، أو القوى التى لا ناقة لها ولا جمل فى الثورة المصرية كإيران، قد شاركت فى محاولة القفز على الثورة وسرقتها. ومع ذلك فإن ثمة مسألة مهمة يتعين على شباب الثورة أيضا أن يعترفوا بها بغض النظر عن طهارتهم المطلقة، وهى أن الثورة المصرية الراهنة لابد أن تكون ساحة لفعل قوى معينة تعمل من أجل مصالحها، ومع كل التقدير للمقاومة الفلسطينية فى غزة فإن خروج أحد قادتها من السجن ودخوله إلى وطنه بعد الحد الأدنى من مدة السفر من السجن إلى غزة يعنى أن هناك تنظيما رفيع المستوى وراء المسألة، والأمر نفسه ينسحب على تفجير أنبوب الغاز فى العريش. ما أقصده إذن أن ثمة فارقا بين البراءة المطلقة للثورة من شبهة التأثر بمخططات خارجية وبين ضرورة أن يأخذ شباب الثورة فى اعتباره وجود مخططات تعمل بدأب حاليا فى الساحة المصرية من أجل تحقيق مصالحها. وأخيرا وليس آخرا فإن شباب الثورة يجب أن يبحث بجدية فى معضلة تداعيات الثورة على الاقتصاد المصرى، بمعنى أنه لا يجب أن يكتفى بالإصرار على رحيل الرئيس، ولكن عليه أيضا أن ينظر فى الآليات التى يمكن بها تقليص آثار الثورة على اقتصاد الوطن.
هذا الشباب العظيم إذن تستحق مصر منه أن يبلور قيادة لثورته غير المسبوقة على نحو يكفل حمايتها، وأن يهتم بالنظر فى اقتصاد الوطن بالإضافة إلى اضطلاعه بمهمة التغيير التاريخية فى بلد طال شوقه للتغيير. يا الله!... من كان يتصور منذ شهر واحد إمكانية الخروج من النفق المظلم للركود والظلم والفساد إلى الآفاق الرحبة للتقدم والعدل والحرية؟ صنعها شباب مصر الرائع الذى خطط ولم يكن يملك سوى حلمه بحياة أفضل للمصريين ومكانة تليق بوطنه. وإذا كان الفضل للشباب الذين مثلوا طليعة الثورة فإن الغضب المكبوت لدى الشعب المصرى ــ باستثناء الفئة التى حاولت الإجهاز على الوطن وتمزيقه إربا كى تواصل نهجها المنظم وفسادها المطلق ــ قد مثل قاعدة القوة الأساسية للثورة، بالإضافة إلى الموقف التاريخى وإن يكن المتوقع للقوات المسلحة المصرية من الثورة.
لا يعرف أحد تاريخيا على وجه اليقين متى تنفجر شحنة الغضب لتحدث التحول المطلوب إلى حالة نوعية أرقى، وأنا شخصيا كاد اليأس يتملكنى من إمكان إدراك أولئك الذين يقومون بحركات احتجاجية ــ على مستوى مصنع أو إدارة حكومية أو ما إلى هذا ــ أن خلاصهم الحقيقى يكمن فى إنقاذ الوطن ككل، خاصة أن القائمين عليه فى ذلك الوقت قد بلغ بهم الصمم والعمى، ناهيك عن المصالح الشخصية، درجة من الغرور حتى تصوروا أن كل القوانين التى تحمل المزيد من الظلم الاجتماعى يمكن أن تمرر وتطبق دون اعتراض من أحد، وأن التزوير الكامل لانتخابات مجلسين تشريعيين ممكن دون أن يجرؤ أحد على رفع رأسه. وبالتالى أصبح الإصلاح مستحيلا، وها نحن الآن نجنى الثمار المرة لتلك السياسات بعد ثلاثة عقود كاملة من عمر الشعب المصرى.
المقدمة السابقة قد تبدو عاطفية، ولكنها تعكس اعتزاز كل مصرى بثورته، واحترامه لمفجريها والقوة الداعمة لها. فلقد أعادت مصر اكتشاف نفسها وفقا لمقولة للدكتور جلال أمين فى إحدى الفضائيات، ومن ضمن الاكتشافات أن التفاهة ليست قدرا على الشعب المصرى، فمفجرو الثورة من الشباب كان البعض ينظر إليهم باستخفاف باعتبارهم أبناء الثورة الاتصالية الراهنة الذين ذابوا فى العولمة، فإذا بهم يكشفون عن أرقى درجات الانتماء الوطنى، ويكتشفون أن المسلمين والأقباط فى مصر هم ببساطة مصريون، ولا داعى لتكرار المظاهر الرائعة الدالة على ذلك إبان أحداث الثورة، والتى لا شك أن كلا منا قد عايشها أو على الأقل قرأها، وتاه فخرا بها بعد أن سادت بيننا فئات من ذوى الفكر المريض على الجانبين لا هم لها إلا التأصيل للفرقة، واكتشفنا جميعا أن مستقبل مصر ليس بيد تلك الوجوه الشوهاء التى وزعت نفسها بين مناصر لمبارك فى انتخابات الرئاسة القادمة ومؤيد لابنه جمال، وكأننا قد ألقينا بالروح الجمهورية فى غياهب الجب.
اعتزاز بلا حدود بما تحقق، ولا أنكر أنه ممزوج بخجل قاتل من أبناء جيلى الذى فشل لعقود فى أن يجسد الحلم الذى حققه جيل شباب مصر وشعبها فى أيام، ولا أدرى هل يعود ذلك إلى خلل فى «الجينات» لدى جيلى الذى تعرض لموجات متلاحقة من الاضطهاد والقمع؟ أم أنه يعود إلى أن الفساد والاستخفاف بمصائر العباد والنظر إلى الوطن باعتباره «عزبة» تملكها أسرة وتغدق منها على المقربين ــ قد بلغ ذروة غير مسبوقة جعلت الثورة حتمية؟ لكن إمعان النظر فى صياغة مستقبلنا أصبح واجبا منذ نجاح الثورة. وثمة أولويات ثلاث فى هذا الصدد أولاها الانتقال بالوطن من حالة الأزمة إلى الحالة الطبيعية. هناك أولا مهمة «إزالة آثار عدوان» النظام السابق على الثورة ويمكن أن يتم ذلك بتكريم الشهداء، وضمان عدم ملاحقة قادة الثورة، والفصل بأقصى سرعة ممكنة فى أوضاع المعتقلين منهم، والإفراج الفورى عن كل من تثبت أن «تهمته» الوحيدة هى المشاركة فى الثورة.
كما أن خطوات محددة لابد وأن تتخذ تجاه مؤسسات النظام القديم وكيفية التعامل معها فى ظل الأوضاع الجديدة، وهو ما بدأ يحدث جزئيا بالفعل. وبالمناسبة فإننى لست من المتعجلين فى حالتنا هذه. قد يطول الانتظار بعض الشيء، خاصة أن الموقف كان مفاجئا للجميع، وكل ما يتمناه المرء أن يستعين المجلس العسكرى الأعلى فى مناقشة كل قضية وتبنى موقف منها بعدد من الكفاءات ذات الخبرة العملية العميقة والمعرفة العلمية، وهو ما أجزم أنه يتم بالفعل، وإن كنت أشدد على تنويع نطاق المشاورات إن لم يكن الأمر كذلك، وأن يطمئن المجلس إلى أن ما يصل إليه هؤلاء يمثل توافقا وطنيا. تأتى بعد ذلك أولوية ثانية غاية فى الأهمية، وهى إعادة دمج الشرطة فى المنظومة الأمنية. لقد ارتكب أفراد فى جهاز الشرطة أخطاء فادحة بلا جدال، سواء بسبب السياسات المتبعة أو الأوامر المملاة، بالإضافة إلى أن البعض منهم قد سولت له نفسه أن يفعل بالعباد ما يشاء استنادا إلى منصب يتصور أنه سوف يعصمه من السقوط. ولابد فى هذا السياق من فضح السياسات القديمة وأساليبها، وأن تجرى التحقيقات والمحاكمات الواجبة بسرعة بالغة حتى تهدأ النفوس. ولابد بعد ذلك من الإعلان عن سياسة شرطية جديدة تبعد معها قدر المستطاع مسئولية الأمن السياسى عن الشرطة، وإنما تصبح الشرطة مسئولة عن تأمين المظاهرات فى ظل نظام ديمقراطى جديد يعترف بحق التظاهر وينظمه. ويجب أن يكون الشعب والشرطة والجيش يدا بيد فى هذا النظام الجديد، فلا توجد دولة بلا جهاز شرطة قوى وفعال، وإنما العبرة بعدم الخروج عن المنظومة القانونية والإطار الديمقراطى وإلا وجب العقاب الفورى. وينطبق هذا بالمناسبة على الأمن السياسى، فلا توجد دولة بدون إدارة للأمن السياسى، وإنما الضرورى فى النظم الديمقراطية أن تقوم بعملها فى إطار القانون بحيث يتم الحساب الرادع والعقاب الواجب فور وقوع أى تجاوزات.
أما الأولوية الثالثة فتنبع من أن الدولة المصرية يبدو وكأنها تتفكك لسببين أولهما استمرار الوضع الأمنى الخطير فى بعض المناطق نتيجة لسياسات خاطئة سابقة امتدت طيلة العقود الثلاثة الماضية، أما السبب الثانى فيشير إلى ثورة التوقعات التى فجرتها ثورة 25 يناير، فخرجت فئات هائلة العدد تطالب بحقوقها. ولا شك أن لدى هؤلاء حقا فى مطالبهم لما نعرفه عن أصحاب «الفكر الجديد» الذين تجاهلوا اعتبارات العدالة الاجتماعية تماما، وأوجدوا نظاما شديد الاختلال للأجور داخل المؤسسة الواحدة، وقوانين للعمل لا تتناسب مع واقعنا على الإطلاق وما إلى هذا. غير أن الحل الوحيد لجميع هذه المطالب لا يمكن أن يكون جزئيا، وإنما يجب أن تتغير فلسفة النظام وتوجهاته وسياساته، وهو ما كان مستحيلا فى النظام القديم الذى لم يكن يجد شيئا يستحق المراجعة أو حتى النقاش.
هذا ما يمكن قوله الآن قبل الدخول الواجب فى التفاصيل، لكن هذا كله يتطلب أن نتوقف عند أسلوب تعامل النظام القديم مع الشعب، فالرئيس السابق لم يخاطب شعبه أو يحاول إقناعه بقضية عبر الخطب غير المكتوبة وفى المناسبات الجماهيرية الحقة عكس سابقيه (عبدالناصر والسادات) اللذين كان أولهما يعتمد اعتمادا أساسيا على علاقته المباشرة بالشعب فيما حاول الثانى على الأقل أن يشرح سياساته ومبرراتها عبر خطب وأحاديث عديدة، ولذلك فإن المرء يتمنى على المجلس العسكرى الأعلى أن يتبع أسلوب الحوار المباشر مع الشعب سواء من خلال أحد أعضائه أو بعض من يستعين بهم، ولعلنا بعد ذلك نستطيع أن ندخل فى تفاصيل لم يكن الحديث عنها مسموحا به فى السابق ناهيك عن مناقشتها. ولتسلمى يا مصر دوما من كل سوء.
أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية