يمكن القول ودون تردد بان الثورة التي قام بها شعب مصر العملاق هي الثورة الاعظم، ليس في تاريخ مصر والامة العربية فحسب، وانما في تاريخ البشرية قاطبة، كونها ضاهت جميع الثورات العظام التي لم تزل شعوب العالم تتغنى بها وتتحدث عنها باستمرار، ونقصد هنا الثورة الفرنسية والثورة البلشفية في روسيا القيصرية، سواء من حيث قوتها وزخمها واتساع حجمها وانضباطها واصرارها وعزيمتها على تحقيق اهدافها، او من حيث قدرتها على تجاوز العقبات والمصاعب التي اعترضتها، والتي فاقت في حجمها كل العقبات التي واجهت الثورتان الفرنسية والبلشفية مجتمعة، وهذا هو الاهم. ودعك من الحاقدين والمأجورين، وكذلك انصاف السياسيين والمثقفين، الذين سلبت امريكا عقولهم، وراحوا يشككون بهذه الثورة العملاقة، او يقللوا من شانها، تحت ذرائع مختلفة وبائسة وتافهة احيانا، مثلما شككوا قبلها بالثورة التونسية العظيمة، بل ذهب البعض منهم ابعد من ذلك واعتبر كلا الثورتين العظيمتين صناعة امريكية. هؤلاء لا يستحقون سوى السخرية والازدراء.
ليست هناك، في هذا الخصوص، اي مبالغة او تهويل. ففي فرنسا لم يكن الملك لويس السادس عشر، الذي قامت في عهده الثورة الفرنسية، يمتلك من ادوات القمع والقهر ضد الثوار مثل ما امتلكه نظام حسني مبارك، لا من حيث العدة من جيش وشرطة ومخبرين واجهزة أمن واستخبارات ومباحث، ولا من حيث الاسلحة المتنوعة، مثل الدبابات وناقلات الاشخاص المدرعة، ولا من حيث انواع العتاد المتعدد الاغراض، ولا حتى ابسطها، مثل الغازات السامة او المسيلة للدموع، ولا بلطجية كالذين شاهدناهم في ميدان التحرير. كما لم يتوفر للملك الفرنسي ونظامه اجهزة اعلامية عملاقة قادرة على قلب الحقائق رأسا على عقب، تجعل من الثوار عبارة عن مشاغبين او 'شوية عيال' مخدوعين. اضافة الى ذلك فقد كان ملوك اوروبا يتربص احدهم بالآخر الامر الذي ادى لأن يواجه الملك مصيره لوحده، في حين تضافرت جهود كل قوى الشر في العالم لانقاذ حسني مبارك من السقوط، ابتداء من الدول الاقليمية ومرورا بدول اوروبا وانتهاء بامريكا وحليفها الكيان الصهيوني. ناهيك عن حكام الردة العرب وخصوصا امارة الكويت والمملكة العربية السعودية.
لكن هذا ليس كل شيء، فالشعب الثائر قد تعرض الى مؤامرة كبرى على مدى اربعين عاما مضت، وخصوصا بعد اتفاقية العار التي عقدها المقبور انور السادات مع الكيان الصهيوني، والتي سميت باتفاقية كامب ديفيد. حيث وضع التحالف الامريكي الصهيوني الرجعي مخططات جهنمية اشرفت على تنفيذها عقول متخصصة، ورعتها آلة اعلامية عملاقة تدير الرؤوس وتطحن العقول، وكان الهدف منها، بالطبع، تدمير المجتمع المصري وتمزيق وحدته الوطنية والقضاء على تراثه والمساس بكرامته واجباره بطرق مختلفة على التخلي عن عاداته وتقاليدة وخنق روح القيم والكرامة والشهامة داخله، ثم تجويعه واذلاله ليجري الوصول الى تحويل الشعب المصري الى قطيع من الغنم على حد تعبير اكثر من قائد صهيوني، في حين عاش الشعب الفرنسي عشية الثورة وما قبلها في ظل نهضة ثقافية وفكرية عمت كل اوروبا، تدعو للثورة والتغيير، ناهيك عن وجود قادة ومفكرين ثوريين كبار امثال جان جاك روسو وديدرو ومنتسيكيو وفولتير وميرابوا وروبسير ولافييه ودانتون وديمولين، ناهيك عن الظروف المواتية التي سبقت الثورة، حيث لحقت بفرنسا على يد تحالف بريطانيا وبروسيا هزيمة منكرة اقصتها من مكان الصدارة في اوروبا وافقدتها مكانتها العسكرية والسياسية والاقتصادية.
اما الثورة البلشفية فإن ظروف انتصارها كانت اسهل من سابقتها، فالقيصر ونظامه لم يكن حاله افضل من حال سابقه الملك الفرنسي، فالنظام القيصري كان قبل اندلاع الثورة البلشفية قد خرج، هو الآخر، مهزوما من الحرب مع اليابان في عام 1905، ثم خروجه للتو من الحرب العالمية الاولى مهزوما ايضا، بل ومحطما قبل ان تضع تلك الحرب اوزارها، الامر الذي ادى الى تدهور أوضاع النظام القيصري الداخلية، واشتداد ازمته في مختلف نواحي الحياة، واتساع حالة الجوع في صفوف الفلاحين الذي شكلوا حينها 85' من سكان روسيا القيصرية جراء سيطرة فئة قليلة من كبار الملاك الامر الذي زاد من بؤسهم الى درجة مخيفة، في حين كان عمال المصانع يشتغلون لمدة 13 ساعة في اليوم الواحد، ووصل الامر حدا لان تفقد السلطة المركزية كل مقومات استمرارية وجودها، بل ان السلطة ذاتها، رغم ضعفها، قد وقعت بالكامل بيد زوجة القيصر وعشيقها الراهب راسبوتين.
في حين كانت السلطة التي بيد حسني مبارك ذات حول وقوة لما تمتلكه من جيش محترف وشرطة واجهزة امنية تجاوز عددها المليون ونصف المليون، اضافة الى ادوات قمع جبارة وحزب تجاوز عدده الملايين ودعم متواصل من اكبر القوى الدولية في العالم وعلى راسها امريكا. لم تقتصر عظمة ثورة مصر عند هذا الحد، فهي قد تمكنت من الوقوف بوجه جميع المحاولات الغادرة للنيل منها او الالتفاف عليها، على الرغم من الامكانات الهائلة التي تمتلكها الدول التي وقفت خلفها، وعلى وجه الخصوص امريكا والكيان الصهيوني، ورعتها اضخم آلة اعلامية عرفها التاريخ وبكل ما تمتلك من وسائل الخداع والتضليل ودس السم بالعسل وقلب الحقائق رأسا على عقب. ومن هذه المحاولات، على سبيل المثال لا الحصر، تشجيع الناس على التخلي عن الثورة وعدم المشاركة فيها من خلال الايحاء لهم بفشلها الحتمي من خلال التركيز على عفوية انطلاقة الثورة وغياب الاحزاب والقوى السياسية عن قيادتها، وقد رد الثوار على هذه الحجة بالتنظيم المحكم وتشكيل اللجان والقيادات وانتهاج خط سياسي واضح ادى لاحقا الى اشتراك جميع القوى والاحزاب السياسية من يسارها الى يمينها، الامر الذي ادى الى اتساع نطاقها رأسيا وأفقيا.
ومنها ايضا محاولة حصر الثورة في فئة الشباب لوحدهم لعزلها عن فئات الشعب الاخرى وذلك بالتركيز على وصف الثورة بالشبابية، بينما مثل الشباب شرارتها الاولى بالفعل ليمتد لهيبها الى كل فئات الشعب المصري، حيث شارك فيها الطلاب والعمال والفلاحون والقضاة والاعلاميون والفنانون، الكبار والصغار النساء والرجال وحتى الاطفال. ثم انتقلت هذه المحاولات الى صفحة غادرة اخرى وذلك بالحديث عن الثورة بوصفها ثورة جياع، فرد عليها الثوار بإبراز المطالب السياسية والتركيز الشديد عليها من قبيل المطالبة برحيل حسني مبارك وتحت شعارات مختلفة منها 'مش حنمشي قبل ان يمشي' اي لن نبرح مكاننا قبل رحيل مبارك. بل تصاعدت هذه المطالب الى اسقاط النظام ذاته ولم يزل صدى شعار 'الشعب يريد اسقاط النظام' تتغنى به جماهير الأمة العربية حتى هذه اللحظة.
على الجانب الآخر، ونقصد به داخليا، فقد احبط الثوار ايضا جميع المحاولات التي قام بها المخلوع حسني مبارك وحاشيته ومنها سحب الشرطة والجيش من ميدان التحرير وارسال آلاف البلطجية، الذين اخرجهم من السجون لتفريق الثوار مستخدمين كل الاسلحة المخيفة، مثل البلطات والسيوف وقضبان الحديد والمسدسات والبنادق، بهدف احداث حالة من الانفلات الامني تبيح للجيش وقوات الشرطة العودة الى المكان وتفريق الثوار تحت ذريعة استعادة الامن والاستقرار. حيث صمد الثوار بوجه هذه الهجمات من جهة وشكلوا اللجان على وجه السرعة لحماية المنشآت والدور والمحلات من العبث والسرقات، مثلما احبطوا بالمقابل قرار الجيش بتفريق الحشود من ميدان التحرير من خلال الموقف البطولي والفدائي للثوار والذي تمثل في تطوع العديد منهم بادخال اجسادهم داخل سرف الدبابات، او اعتراضها من الامام. وجاءت الضربة القاضية بافشال المحاولة الاخيرة لحسني حين اظهر وجهه القبيح والايحاء بالقوة والصرامة والاصرار على البقاء في منصبه مهما كلف الامر وذلك بتوجه عشرات الالوف منهم نحو قصر الطاغية، المسمى قصر العروبة، مصطحبين معهم مستشفيات متنقلة وعلاجات للجرحى ولبس بعضهم الاكفان دلالة على استعدادهم للاستشهاد، وقد كان شعارهم 'ماشيين شهداء بالملايين'. على هذا الاساس لا نجازف اذا قلنا بان الثورة ستنجح في استكمال مسيرتها وتحقيق اهدافها على المدى المنظور، على الرغم من استمرار محاولات امريكا والصهيونية العالمية للالتفاف على الثورة واحتوائها عبر قنواتها المتعددة، سواء داخل قيادات الجيش او من خلال حزب مبارك المخلوع، الذي يسعى لاستعادة فردوسه المفقود، خصوصا وان الثوار قد اتخذوا قرارا سيتم الاعلان عنه في المظاهرة المليونية التي ستقوم يوم الجمعة القادم، بتشكيل مجلس امناء الثورة من مئة شخصية تمثل كل فئات الشعب المصري، والذي سيأخذ على عاتقه ادارة شؤون الثورة والتفاوض مع المجلس العسكري من اجل دفعه للدخول في المرحلة الانتقالية على وجه السرعة، وقطع الطريق على اي مماطلة او تسويف تجاه تحقيق المطالب الاخرى، مثل اقالة الحكومة وصياغة دستور جديد والغاء حالة الطوارئ واطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين، والحق باصدار الصحف وتشكيل الاحزاب والجمعيات والنقابات وتحقيق استقلال حقيقي لاجهزة الاعلام، ثم اجراء انتخابات ورئيس للبلاد الخ. ومما يبعث على التفاؤل والامل، ان مجلس الامناء هذا سيكون مؤهلا لأداء المهمة كونه سيولد من رحم شعب عريق ولديه مخزون حضاري وسياسي وفكري وثقافي كبير، وكم هائل من العقول والقيادات في مختلف المجالات.
ليس امام المخلصين من العرب في كل مكان من خيار سوى تقديم الدعم والاسناد لهذه الثورة والذود عنها ودحض الاشاعات المغرضة ضدها وإنصاف شهدائها، وليس الوقوف على التل بانتظار نتائجها، او يفعلوا كما فعل اليهود مع موسى حين قالوا له 'فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون'، خصوصا وان بركات هذه الثورة ستعم على الامة العربية من محيطها الى خليجها، كونها تعد مفصلا في تاريخ هذه الأمة ويصلح لتأسيس دول وطنية ديمقراطية، اذا لم يكن غدا فعلى المدى المنظور بكل تاكيد، او على الاقل ضمان عدم عودة اي حاكم عربي يتمكن من البقاء في السلطة، لهذا السبب او ذاك، من ممارسة حكم دكتاتوري بنفس الطريقة التي مارس بها حكمه منذ عقود من الزمن.
ترى هل نحن على موعد مع الثوار لبناء الجمهورية الثانية على غرار الجمهورية الاولى التي اسسها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر ورفاقه الاحرار، وتكون القاعدة الصلدة لأمتنا العربية، نستمد منها القوة والعزيمة لتحرير جميع بلداننا العربية من رجس الحكام الكتاتوريين والمحتلين معا؟
كاتب من العراق