لن أتحدّث عما حدث في تونس ولا عن تداعيات الثورة هناك ... ولا عما حدث في ميدان التحرير ومصر كلها .. لن أتطرّق ولا بأي شكل من الأشكال لما يحدث في لبنان .. وطبعاً ليس لما تمَّ كشفه من فضائح السلطة الفلسطينية.. ولا عن استغلال إسرائيل لانشغالنا وانشغال العالم بأوضاع مصر. أما حول العراق وكوارثها وتفجيراتها المستمرة فأكيد أكيد لن أحدث ضجيجاً .. لا أضيف شيئاً إن قلت إنّ ظاهرة إحراق النفس تؤكد درجة الظلم والقمع والفقر التي يعاني منها المواطن العربي من جهة، وعلى استعداد شبابنا الفطري للموت من أجل الأرض والوطن ... ولن أعلن عن ضرورة أن نعيش ونحيا لأجل الوطن والأرض ... ولا عن خشيتي من تكرار هذه المأساة في أماكن ودول أخرى. لن أذكّر بأنّ تجاربنا العربية من خلال الثورات والانتفاضات غير مشجعة أبداً، انطلاقاً من خلفياتنا الثقافية والحضارية ... أمامنا دائماً ويلات قادمة هي ما يعطينا إياه التغيير عموماً ... فمحاولاتنا للتغيير، كما نحن تماماً، ردود أفعال عاطفية آنيّة غير مخططة، كما لن أتجرّأ على التذكير بدور القوى التقدمية (اليسار) ... التي عليها أن تستعيد وتأخذ دورها التاريخي وتكون بين الناس، لا بل تقودهم وتوجّه مسارهم، لا أن تقف موقف المتفرج أو المنتظر أو حتى المتآمر على مصالح الجماهير ... تكون نتيجتها تنفيذا ضعيفا سرعان ما ينقلب على أصحابه الضعفاء، خاصة بغياب الأطر والقيادات الواعية لما يحدث.
لن أشير لزيارة فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لتونس وإحاطته باهتمام بالغ من قبل من هم بالسلطة هناك، ولا لمدلولات ذلك في حينه... كما اليوم. أما عن دول الخليج التي تحوّلت إلى قواعد عسكرية أمريكية فلا حاجة للاشارة أيضاً، فليس هناك ما يضاف... ولا للغالبية الساحقة من الأسر الحاكمة في الجمهوريات العربية الغارقة في الفساد، وأفرادها الذين يتقاتلون على الصفقات التجارية، واحتكار الشركات ووكالات السلع الأجنبية. وطبعا ليس عن الجرائم العديدة التي ترتكبها مافيات السلطة في أكثر من بلد عربي ولا يتم اكتشافها، بسبب تواطؤ السلطة وأجهزتها الأمنية مع هؤلاء المجرمين وحمايتها لهم، إضافة لتجاهل أجهزة الإعلام الرسمية لهذا التحالف المقيت. ولن أعبِّر عن قلقي من استغلال هذه الفئات للحال العامة في مصر والسيطرة على الأوضاع ومنافذ الحكم ومواقع القرار. لا أنوي الدخول في ما تطلقه 'الجزيرة' على نفسها، مهنية وحيادية من منطلق احترام الرأي والرأي الآخر.. لن أخوض في قضية الوثائق السرية وبرنامج كشف المستور وأهداف هذه القناة... ورغم ذلك سأعبّر عن تقديري لدورها في البث المباشر والتقارير وعدد المراسلين المهنيين المنتشرين في كل دول العالم، والتي لولاها لما وصلتنا دقائق الأحداث أولا بأول. سأبقى بعيدة عن كل ذلك... بعيدة عن كل ما يحدث في العالم العربي.. ولن أسمح لخوفي بتنظيف آثار الثورة في عقول الثوار، كما نظِّفت الشوارع، بالسيطرة على أفكاري.
لن أقتبس دعوة هيلاري كلينتون للرئيس المصري بضرورة احترام حرّيات المواطنين والتعبير عن الرأي، والتعليق عليها اليوم بعد أسبوعين من التنحّي... ولا الإطراءات المنمّقة التي ترشقها أمريكا وأوروبا باتجاه ما يسمّى 'المجلس الأعلى للقوات المسلّحة المصرية' ولن أتساءل إن كان ذلك يثير قلق الثوار أنفسهم أم لا؟ لن أقارن بين تخلص أمريكا من صدام والتخلص من مبارك ... ولن أشكّك في همة الثورة الشبابية المصرية ولا في وائل غنيم وخلفياته، رغم تصريحه بأن الثورة حققت أهدافها مكتفياً بالإطاحة بمبارك. لن أتمنى أن لا يكتفي الثوار بالتخلّص من مبارك من جهة، وبالكلام المعسول الذي قاله عنهم وعن ثورتهم رؤساء العالم الغربي ... فها هو رئيس وزراء ايطاليا يقول: 'لا جديد في مصر، فقد صنع المصريون التاريخ كالعادة'. وأما رئيس النمسا فقد اعتبر الشعب المصري أعظم شعوب الأرض، وإنه يستحق جائزة نوبل لـ...'السلام'، في حين دعا رئيس وزراء بريطانيا لتدريس الثورة المصرية في المدارس البريطانية. وقائد العالم باراك أوباما ذهب أبعد من ذلك إذ قال: يجب أن نربي أبناءنا ليصبحوا كأبناء مصر .. والسي إن إن علّقت قائلة: 'لأول مرة في التاريخ نرى شعباً يقوم بثورة ثم ينظّف الشوارع بعدها'.
فمصر اليوم بحاجة لتنظيفها من ترسبات نظام دام عقوداً تشعبت أطرافه الأخطبوطية إلى كل الزوايا والأماكن التي نعرفها والتي لا نعرفها أيضاً... فإن لم يتم التحرك سريعاً لإسقاط أصحاب المناصب المخضرمين وتغيير البنية التحتية المتجذّرة سريعاً، سيستحيل ذلك لاحقاً. ولن أخبركم أنه من الصعب جداً، بل من المستحيل شحذ همم الملايين أو حتى الآلاف من المصريين بعد أشهر في حال اكتُشِفَ تحايل رجالات الجيش على الشعب والثوار... فإن هبطت معنويات الثوار وانحسر الأمل مرة ثانية فلن يرتفعا من جديد، بل على العكس تماماً، فقد يكون ذلك ما يرمي إليه قادة القوات المسلحة، ذات الأهداف والمطامح والمطامع المختلفة عن مثيلاتها لدى الشعب عموماً والثوار خصوصاً. لن أشير إلى - ما تعرفونه جميعاً ـ ضرورة أن نشعر بتغيير ملموس مباشر في الحياة العامة في مصر... وإلى ضرورة وضع أجندة واضحة والتخطيط لتحقيقها مع الالتزام والاهتمام بمتابعة تنفيذ حذافيرها.
لا حاجة لأعبّر عن قلقي من سقوط الحاكم وبقاء النظام في تونس، كما في مصر، ومن عدم رفع أنظمة الطوارئ حتى الآن، ومن عمل القوات المسلحة على تقوية نفسها ورجالاتها وكلهم من رجالات مبارك. مبارك الذي خاطبه المصريون بعد التنحّي بخفة دمهم المعهودة قائلين: 'إرجع يا ريّس...كنا بنهزّر معاك'. لن أبدو سطحيّة وأُظهر خوفي من تحوّل هذه المداعبة المستهزئة إلى واقع جدّي لا مضحك بل مبكٍ فقط بعد قليل من وقت. لا داعي لأكرر تقديري واحترامي لشباب الثورة المتميزة، الراقية والمختلفة عن ثورات التاريخ ... لا داعي لأرفع قبعتي من جديد لشباب أثبت وعياً، إدراكاً وإلماماً، فاجأنا وفاجأ نفسه - ربما- بتمسكه بمعايير إنسانية وفكرية عظيمة أعادت لمصر ولشعبها وتاريخها مكانتها بين الأمم... مصر أم الدنيا وأخت العرب الكبرى... مصر التي أعادت لنا جميعاً ضخ الدم في العروق، أعادت لنا الكرامة، الأمل بالحرية والعيش الكريم في الوطن.
لن أقول شكراً لشباب مصر الذي علّم العالم أنه بالإمكان الاحتجاج والتظاهر، بل ونيل المطالب من دون عنف، من دون تكسير وتخريب... شباب مصر والعالم العربي الذي أثبت بالفعل لا بالقول، أنه ورغم كونه جيل الفيس بوك وجيل الكرتون- كما يحلو للشرائح العمرية الأكبر أن تطلق عليه استهزاءً - أنه جيل قادر على إحداث تغييرات جذرية... جيل صبور متحمس في آن... جيل يعرف الكثير ويميز بين الصالح والطالح، بين الصحيح والخطأ، على عكس ما اعتقدنا جميعاً. أثبت الشباب العربي عموماً أنه ذو هوية وانتماء واضحين... جيل ليس ذا ولاء لرئيس أو حاكم أو سلطة.
أيها الشباب لا أقول لكم شكراً ... بل عذراً...
أعتذر منكم باسم جيلنا والأجيال السابقة لنا...
أعتذر عن سوء ظن بكم وبقدراتكم
وبالتالي فإنه سوء ظن بتربيتنا، ونهج حياتنا نحن الأكبر منكم سناً وأوسع تجربةً. وصدق من قال: 'البركة بالشباب'.
دام شبابنا العربي فخوراً بانتمائه ساعياً للتطور والتقدم المستمر... شباب تملأه الكرامة والعزة والسعي نحو الحرية.
كاتبة ومستشارة ثقافية فلسطينية