المحترمة وزيرة الخارجية الأميركية، دعيني، أولاً، أعرفك بنفسي: إنني مواطن عربي من سورية. تلقّيت نعمة الكهنوت عام 1959، في دمشق. وأنا أخدم اليوم في كنيسة دمشقية، تحمل اسماً جميلاً جداً، هو (كنيسة سيدة دمشق).
هذا الصباح، الأحد 6/2/2011، إذ كنت أقيم القداس الإلهي، وفي قلبي جماهير مصر وتونس واليمن، وفيه المحرقات المروّعة في فلسطين والعراق وأفغانستان، وفيه القلق على لبنان والسودان والوطن العربي كلّه، صلّيت إلى الله من أجل حكام العالم (الكبار)، ولاسيما حكام الولايات المتحدة الأميركيّة، الذين ملؤوا الدنيا كلّها بالظلم والرعب، والحقد والموت، والقهر والفقر، والمرض والدمار، واليأس فجأةً، حضرتني كلمة لك، قلتِها على وجه الدنيا، أثناء حملتك للرئاسة الأميركية. أجل، يومها قلتِ بالحرف الواحد:
(إن إيران ستُمحى عن وجه الأرض، لحظة تُطلق أوّل صاروخٍ لها على إسرائيل!) يومها، أصابني الهلع الهلع، لا منك، ولا من أسلحة بلدك (الذكية)، بل الهلع عليكم أيها الأميركيّون، ممّا آلت إليه الأمور في الولايات المتحدة الأميركية، (رائدة العالم الحر)! فمن جهة، قوة متنوعة وهائلة، لا حدود لها، تستجرّ العالم كلّه صاغراً، إلى دماره الذاتي المحتوم ومن جهة ثانية، تبعيّة مطلقة لإسرائيل، تبعيّة عمياء، شاملة، وخارجة على جميع القوانين، وباهظة التكاليف مادياً ومعنوياً وبشرياً. وقد حضرتني أيضاً كلمة أخرى، بالغة الدلالة، قالها قبلك بمئات السنوات، كبير في بلدك، هو بنجامان فرانكلين، يوم دعا هيئة إعداد الدستور الأميركي عام 1787، إلى إقرار بند فيه، يحظّر على اليهود الإقامة في أميركا، كي لا يأتي يوم يلعن فيه الشعب الأميركي أجداده في قبورهم، بعد أن يتحول، كما هو اليوم، إلى مجرد عبيد لديهم!
ويؤسفني أن أضيف حقيقةً ليس هناك من يجهلها، وهي أنّ اللعنات تنصبّ اليوم على الولايات المتحدة، لا من داخلها فحسب، بل من كل جنبات الأرض أيضاً. وإلى ذلك، فأنت تجوبين العالم كلّه بزهوّ واضح، وتوزّعين، مع ابتسامتك، النصح والتوجيهات (السّنية)، دونما خجل ولا ملل، على الشرق والغرب والشمال والجنوب، بينما أنتم في الداخل الأميركي، أحوج الناس جميعاً إلى العودة إلى المبادئ الأولية في التعامل، لا السياسي، بل الإنساني المحض! وقد ارتأيتِ اليوم بالذات، أن توجهي أيضاً التحذيرات المبطنة إلى هذا وذاك من القادة العرب القلّة، الذين تجرؤوا ووقفوا في وجه (السيد الأميركي)، الذي ألف (زعماء) العالم أن يسجدوا له، ويستجدوا رضاه وماله!
السيدة كلينتون
تُرى، أولم يجرؤ أحد، ذات يوم، ويقل لك، بوصفك مواطنة أميركية، ثم بوصفك وزيرة للخارجية الأميركية: عليك ببيتك أوّلاً؟! فلئن كان شعبك طيّباً وساذجاً، إلى درجة تسمح لحكامه باستغبائه أحياناً، فإن هؤلاء الحكام ليسوا بأنبياء، كما ادّعى بعضهم، ولا بحكماء، كما تدّعون أنتم. وإنّ لفي بلدكم من الصلف المتألّه، ما يهيّئه سريعاً وحتماً، لانهيارٍ قاصم وحاسم. وإنّ لفيه من الغنى والفقر، ما يهيّئه أيضاً لانفجار ذاتي، سوف يشظّيه، عاجلاً أم آجلاً. كما أنّ فيه أيضاً، من الجهل بالله والإنسان، على كل ما لديكم من تفوّق علمي، ما أعماكم ويعميكم بالكلية، وما سيستجرّكم إلى تدمير ذاتي، بعد تدميركم المنتظم للعالم. وإذا كان العالم كلّه، لا يستطيع إلا أن ينظر باحترام وتقدير كبيرين، إلى إنجازاتكم العلمية في شتى الميادين، أفلا تدركون في الولايات المتحدة أن القوة، مهما عظُمت وتجبّرت، ستكون هشّةً وضعيفةً، إذا جانبت الحق وستنكسر أمام إرادات الشعوب؟ وإن كنتِ في شكّ من هذه الحقائق، فاسمحي لي بالإشارة عليك، بقراءة أو ربما إعادة قراءة أربعة كتب فقط، وضعها مواطنون معاصرون لك من أميركا.
أوّل هذه الكتب، هو بعنوان (من يجرؤ على القول) لمؤلفه المعروف (بول فيندلي) (عام 1989).
ثانيها، بعنوان (الكابوس الأميركي)، لمؤلفه (روبرت دول) (عام 1997).
ثالثها، بعنوان (القوة الخطرة)، الذي وضعه الباحثان (نعوم شومسكي) و(جلبير أشقر) (عام 2006).
ورابعها، بعنوان (اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية)، للأستاذين الجامعيين (جون ميرشايمر) و(ستيفن م. ولت) (عام 2007).
من ناحيةٍ أخرى، يبدو لي أنّ (ثورة الشباب) الرائعة في مصر، قد أثارتك وأثارت مخاوف الزعامة، في كل من واشنطن وتل أبيب. فطلعتِ على العالم بتحذيراتٍ، هي من (الذكاء) بحيث يقرأ فيها حتى الجاهل، رغبة دفينة ومتأصّلة لديكم، في مشاهدة (الفوضى الخلاّقة) تعمّ الشرق العربي كلّه، لتفكّكه وتفتّته، كي يتسنّى لإسرائيل أن ترتاح إلى الأبد، إسرائيل ربيبتكم المدللة، التي باتت سيّدة عليكم وعلى الغرب كلّه.
السيدة كلينتون،
لو سألت أيّ مواطن سوري: (ماذا تريد لبلدك ومن بلدك؟) بالطبع، لن يقتصر جوابه على سورية، ولكنه سيجيبك فوراً: (أريد أن أسترجع أرضي أوّلاً، ثم أريد أن أبني بلدي، لتكون منارةً للمحبة والعيش الكريم، وعنواناً للحق والحرية في محيطها العربي والعالم، وأنا مستعدّ لكل ما يتطلّبه الوصول إلى هذا الهدف النبيل) وأؤكد لك أن هذا الجواب لن يختلف كثيراً بين أبسط البسطاء في سورية، وأعلى مسؤوليها وهذا ما دفعها لأن تقف بشجاعة وتقول (لا)، في وجهكم، على الرغم من جميع ما مارستم وتمارسون عليها، في الداخل والخارج، منذ عشرات السنين، من شتى أنواع الضغوط، العلنيّة والسريّة؟ وبعيداً عن دعمكم المطلق لإسرائيل، تُرى ماذا لو طرحتُ هذا السؤال عليك وعلى أيّ مواطنٍ أميركي؟ يقيني أنّ التباين بين الجوابين سيكون جليّاً ومفاجئاً نظراً لسياساتكم الخارجية وتعميتها تماماً عن الداخل الأميركي.
أخيراً، دعيني أقل لك بوصفي كاهناً عربياً كاثوليكياً: إنه يؤسفني جداً أن تكون الكنائس كلّها في الولايات المتحدة، قد فقدت وجه يسوع الرائع، وعبدت الوجه (الحزين) المطبوع على الدولار، وتركت مؤمنيها جميعاً يتحوّلون شيئاً فشيئاً إلى قطعانٍ من العبيد، لم تعد تعي أنها تُساق إلى استعباد البشرية جمعاء.
ليت كردينال بوسطن، السابق والشجاع، (برنار لو)، يعود!
أجل ليته يعود، ليرفع من جديد، في طول الولايات المتحدة وعرضها، الصوت عالياً، عسى أن يستيقظ معه كثيرون في كنائس الغرب كلّه، بدءاً من الفاتيكان، قبل فوات الأوان.
السيدة كلينتون
أختم رسالتي لك مساء اليوم 11/2/2011 بعد الإعلان عن رحيل حسني مبارك. لا يسعني إلا أن أدعوكِ، وأدعو كل (مسؤول) و(حاكم) في الأرض ليطيل التأمل والتفكير واستخلاص العبر مما حدث في مصر، من أجل تصحيح تعاملكم مع الشعوب المقهورة والمظلومة والمستغلة، إنقاذاً لأنفسكم من أنفسكم أولاً، ثم إحقاقاً للحق، واعترافاً بكرامة الناس وكل إنسان. وأرجو ألا تنسي، وألا ينسى جميع مسؤوليكم في الغرب، هذه الملايين التي احتشدت في المدن والأرياف المصرية، وعرفت كيف تواجه، دون رد الأذى بالأذى، بل في طمأنينة وصبر وتصميم، من اقتحمها بالسيارات والجمال والأحصنة والرصاص الحي، وآلاف اللصوص الذين أطلقوهم عليهم من السجون.
لكم كانوا كباراً، هؤلاء الرجال والنساء، والشبان والشابات، والأطفال والشيوخ، وهم يقفون للصلاة صفاً واحداً، وخراطيم المياه مسلطة عليهم، ويضمدون في إيمان ورجاء، جرحاهم بالآلاف، ويرفعون شهداءهم إلى السماء بالمئات، ويمضون أيامهم الطويلة، السبعة عشر، يفترشون الأرض، ويستعيدون منها ومن السماء روحهم الإنسانية والوطنية الرائعة، روحهم هذه الواحدة، الراسخة، القوية، المُحبة، بل المازحة، حتى جاء يوم رفعوا فيه معاً الهلال والصليب، في صلاة مشتركة، سألت الله لهم نعمة الحرية، فكانت. تُرى، هل عرفتِ شعباً واحداً في التاريخ، عرف أن يُبدع ثورة سلمية بمثل هذه العظمة، حجماً وغاية وسلوكاً وإنسانية؟
السيدة كلينتون،
وإنّي إذ أقدّم محبتي واحترامي للشعب الأميركي، أسأل الله لك، ولكلّ مسؤول على وجه الأرض، نعمة الحكمة والاتضاع وروح الخدمة.
دمشق في 11/2/2011