الثورة المباركة التي أشعلها شباب مصر الأجمل من الورد والأغلى من الذهب لم تقتصر نتائجها الباهرة على إطاحة ديكتاتور من أصحاب الجلد الغليظ فحسب، بل أوقدت كذلك قناديل الجسارة التي أطفأها النظام البائس في صدور المصريين عقوداً طويلة. وفي الوقت الذي استعاد فيه أهل المحروسة كرامتهم المسلوبة مع شروق شمس الثورة في 25 كانون الثاني (يناير) الماضي، فجرت هذه الثورة العظيمة أيضاً شلالات خفة الظل التي عرف بها المصريون، على مر التاريخ، بصورة لم تحدث من قبل. ولأن الأمر في حاجة إلى توضيح وإبانة، رجاء انتظرني قليلاً لتكمل قراءة المقال حتى نهايته.
الشرارة الأولى
من حسن الطالع أن المقادير منحتني نعمة الوجود في قلب ميدان التحرير مع مئات الآلاف من المتظاهرين بدءاً من عصر 27 كانون الثاني (يناير)، أي بعد انطلاق الشرارة الأولى للثورة بيومين فقط، إذ هبطت أرض مصر العظيمة قادماً من دبي، حيث أعمل وأقيم، مساء 26 كانون الثاني (يناير). كنت مسروراً لأنني سأنظم حفل توقيع في بلدي لروايتي الجديدة (العاطل) التي تصدرها الدار المصرية اللبنانية بالتزامن مع معرض القاهرة الدولي للكتاب المزمع افتتاحه يوم السبت 29 كانون الثاني (يناير). لكن الشباب الثائر زلزل أرض مصر بانتفاضته الباسلة، الأمر الذي أوقف كل الأنشطة الثقافية في كافة أرجاء البلاد. وهكذا تم تأجيل افتتاح المعرض إلى أجل غير مسمى. وبالتالي لم أر الرواية حتى كتابة هذه السطور (فجر اليوم التاسع عشر من الثورة، الموافق 12 شباط / فبراير 2011). كما لم أتمكن من التواصل مع المسؤولين في دار النشر للحصول ولو على نسخة واحدة، ليس لأن الثورات أهم من الروايات فحسب، بل لأن الجميع كان مشدوداً بكل جوارحه إلى الثورة التي تتقد قناديلها من ميدان إلى آخر، ومن القاهرة إلى الإسكندرية إلى السويس والإسماعيلية وأسيوط!
لو كان عفريتا
في صباح كل يوم كنت أحج إلى ميدان التحرير مع مئات الآلاف من أبناء الشعب المصري الذين يهرولون إلى أشهر ميادين العالم الآن لينفضوا عن أنفسهم غبار الذل والاستكانة، وليتطهروا بشعارات الثورة وعطرها الفواح. لقد حقق الشباب الذين دعوا إلى خروج المصريين للتظاهر في يوم عيد الشرطة المصرية (25 كانون الثاني / يناير) احتجاجاً على الممارسات الفظة والقاسية لجهاز الشرطة، أقول لقد حقق هؤلاء الشباب النضر ما لم يستطع أي جيل قبلهم تحقيقه، وأعني زرع أشجار الجسارة في نفوس الناس. هذه الجسارة التي ظن أولو الأمر المخلوعون أنهم اقتلعوا أشجارها الوارفة من صدور المصريين، بعد سنين من القهر والاستبداد والتعذيب. لكن الشباب الجديد أعلن للعالم كله أنه لا يخشى ولا يهاب أصحاب القلوب الغليظة من ضباط الشرطة وقيادييها، وأن سنوات الذل والخنوع مضت وانقضت إلى غير رجعة، بعد أن جعلته شباباً جسوراً ومقداماً (أكثر من 300 شهيد بذلوا دماءهم فداء لوطن حر وكريم). نعم... رأيت هؤلاء الشباب في ميدان التحرير. تعلمت منهم فضيلة الصمود ونعمة التحدي. انتقدت نفسي بشدة لأنني لم أنتبه بما فيه الكفاية إلى الجيل الصاعد في مصر. شاهدتهم ينظفون الميدان وهم يتبادلون اللقمة وورود الأمل. وددت لو قبلت ملامحهم المترعة بالخير وحب الوطن. هتفت معهم بقلب ينبض، وجسد يرتعش مطالباً بإسقاط النظام.
لاحظت أن الأجواء الثورية التي يضج بها ميدان التحرير لم تستطع أن تمنع أنهار خفة الظل من أن تنساب في فضاءات هذا الميدان التاريخي. ابتسمت حين رأيت شاباً متظاهراً يرفع لافتة كتب عليها ' إذا الشعب يوماً أراد الحياة... يجي (فليأت ِ إلى) ميدان التحرير'. رمقت متظاهراً آخر يدور في حيرة في المكان وهو يمسك ورقة صغيرة كتب عليها بخط بسيط يخلو من الحلاوة (أنا عمري 23 سنة طوارئ). كدت أقهقه عندما نظرت إلى شاب أسمر يشع من عينيه بريق ذكاء حاد يكتب بيده على لافتة ورقية عبارة (ده لو كان عفريت... كان انصرف)، في إشارة كوميدية إلى عناد الرئيس المخلوع وإصراره المرذول في التشبث بكرسي السلطة.
غابة اللافتات الساخرة
لا يغيب عن حصافتك بطبيعة الحال أن العبقرية المصرية تجلت في صياغة شعاراتها باللهجة العامية أغلب الوقت، لأن الحشود التي هرولت إلى الميادين تمثل بسطاء الناس الذين كوى أكبادهم جبروت النظام المخلوع. فبعد أن اطمأن الناس إلى أن الجيش المصري البطل يحميهم، فور اختفاء رجال الشرطة المريب، بدأوا ينهمرون على الميادين والساحات بالملايين حاملين بين ضلوعهم أحلامهم في الكرامة والحرية. (امشي بقى يا أخي... إيدي وجعتني) هكذا رفع شاب وسيم لافتة ورقية وهو يجلس على الأرض متذمراً من قبض مبارك على السلطة بيده المتكلسة، على الرغم من أن الثورة قد انطلقت قبل أسبوع، حيث وصل صوتها الهادر والمطالب برحيله إلى سابع سماء. وواحد آخر كتب بخفة ظل لا نهائية (افهم يا غبي: ارحل = إمش ِ، غادِرْ = سافر). رجل عجوز كتب ساخراً (آخر طلعة جوية إلى السعودية) في إشارة إلى إلحاح الإعلام الرسمي على أنه صاحب الطلعة الجوية الأولى في حرب أكتوبر سنة 1973، حيث ستطرده الجماهير ليرافق في طلعته الأخيرة الدكتاتور التونسي المخلوع زين العابدين بن علي الذي هرب إلى السعودية. أما هذا الشعار المرفوع ومنطوقه (حدّ يكلمه عبري... يمكن يفهم)، فيؤكد أن الشعب كان يدرك تماماً الدور المشبوه الذي يلعبه مبارك في دعم وتعزيز صلف الدولة العبرية وهي تحاصر وتفتك بأشقائنا في فلسطين. رأيت شاباً آخر متلهفاً على رؤية زوجته التي اقترن بها مؤخراً، لكنه تركها ملبياً نداء الثورة، فانضم إلى الأبطال في ميدان التحرير، ولما طال عناد الرئيس ورفضه الرحيل، كتب صاحبنا متوسلاً وملهوفاً (امشي بقى يا عم... مراتي وحشتني)!
عناد الرئيس، الذي يحتاج إلى طبيب نفسي يتوغل في أعماق هذا الديكتاتور ليشرح لنا الأسباب التي تقف وراء هذا العناد الغبي غير المسبوق، كان له نصيب من التعليقات الساخرة، الأمر الذي دفع شاباً مذهولاً من موقف الرئيس متبلد الشعور إلى أن يكتب لافتة مكونة من كلمتين فقط (الإحساس... نعمة). لاستلهام الفن دور كبير أيضاً في صياغة الشعارات التي تندد وتفضح مبارك وغطرسته. فها هو متظاهر لا يتجاوز العشرين عاماً يمسك بيده لافتة كتب عليها (مبارك... طير إنت) في غمز واضح لاسم فيلم لعب بطولته أحمد مكي. أما المتظاهر المتبرم من إصرار مبارك في خطاباته البائسة على عدم التفريط بمنصبه، فقد كتب (مبارك يتحدى الممل)، وهو شعار مستوحى من إحدى القنوات الفضائية. (حان الآن موعد التنحي ... حسب التوقيت المحلي لمدينة القاهرة) شعار رفعه شاب واثق بنفسه يبتسم لكل من أراد أن يلتقط صورة له مع شعاره المميز.
إبداعات الثورة
لم يتوقف الشعب العظيم عند الشعار الأشهر وتجلياته (الشعب يريد إسقاط النظام)، بل ابتكر الناس في ميدان التحرير حياتهم الخاصة التي تلائم الوضع المستجد. هذا حلاق الثورة الذي تبرع بقص شعور المتظاهرين مجاناً، مثلما قام أطباء شرفاء بتأسيس مستشفى ميداني في أحد جوانب الميدان الشهير ليعالجوا ويطببوا الذين اعتدى عليهم جهاز الشرطة غليظ القلب عديم الرحمة. أما هؤلاء الكبار من طوائف الشعب المختلفة الذين انضموا إلى الثورة مع ازدياد رسوخها فقد أهدوا المتظاهرين ما تيسر من طعام بسيط، وأدوية تقاوم غدر نزلات البرد الشديد الذي تتعرض له مصر في ذلك الوقت من كل عام. كذلك انضم إلى الثوار في الميدان فنانون ومطربون شباب طالما غنوا للثورة المصرية المنتظرة أسوة بالشيخ إمام الذي انطلق صوته عقب هزيمة 1967 مندداً بالخلل الذي يعتري النظام، ومبشراً بمجتمع أكثر عدلاً وجمالاً كما حلم به شاعره المتفرد أحمد فؤاد نجم.
طوفان من الأغاني الوطنية التي واكبت أهم الأحداث المصرية كانت تنطلق من أجهزة التسجيل المنتشرة في الميدان. استمعنا إلى أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وشادية وهم ينشدون للوطن والشعب في الزمن الخالي، قبل أن ينجح نظام مبارك في إشاعة الأغاني التافهة والابتذال المنظم. لقد استطاع الشباب الثائر أن يقهر جدران العزلة الإعلامية التي فرضها عليه النظام حين أوقف بث قناة ' الجزيرة' (أقترح منحها جائزة التغطية المدهشة)، تاركاً إعلامه الرسمي البائس يزيف ويكذب دون أدنى خجل. أقول استطاع الشباب أن ينصبوا شاشات ضخمة في ميدان الشرف والحرية ويستردوا بث قناة ' الجزيرة'، ليتابعوا من خلالها آخر الأخبار وينصتوا إلى التحليلات الصائبة والآراء الجادة.
ملحوظتان مهمتان:
أذكر أنني في سنة 1984، وأثناء معركة انتخابات مجلس الشعب في شبرا الخيمة، هتفت مع المتظاهرين الذين احتجوا على ارتفاع سعر اللحم قائلين (حسني مبارك... حسني بيه... كيلو اللحمة بسبعة جنيه). وحين سمعت الشباب يهتف في كانون الثاني (يناير) 2011 صارخاً (حسني مبارك... حسني بيه... كيلو اللحمة بميت جنيه)، تساءلت بحزن: ياه... مرت 27 سنة بين الهتافين، تغيرت اللحمة وتغير سعرها وتغير الثوار ولم يتغير الديكتاتور! حين أجبرتني الظروف على أن أترك بلدي وأعود إلى عملي في دبي يوم الخامس من شباط (فبراير) ' جمعة الغضب'، نظرت من نافذة الطائرة بأسى، حيث أصبحت القاهرة غارقة في الفقر والفوضى والقبح، لكن سرعان ما استعدت تفاؤلي وأنا أغمغم: حين أعود إلى بلدي مرة أخرى ستكون القاهرة أكثر عدلاً ونظافة وجمالاً. لكنني لم أكن أعلم أبداً أن نهاية الديكتاتور ستكون بهذه السرعة المذهلة.
حقاً... ما أجملك أيها الشعب المصري العظيم.
كاتب من مصر