ليس هناك أقوى من صوت الشعب عندما يخرج عن بكرة أبيه إلى الشارع ليهتف بسقوط النظام ومن على رأسه، فحتى الانتخابات والاستفتاءات، على فرض أنها شفافة ونزيهة، وهي لم تكن كذلك أبدا في أي بلد عربي مهما ادعى ذلك بالحجج والبيانات الرسمية، تبدو متجاوزة ولاغية نتائجها أمام دوي الشارع وهدير الشعب. في تونس كما في مصر، ولربما في بلد عربي آخر في ما يقبل من الأيام والأسابيع، كان الشارع يتكلم بلسان واحد، وينبض بإحساس ووعي مشترك بأهمية المرحلة التاريخية وضرورة الحسم مع ما مضى من الاستبداد السياسي واحتكار الحكم وتغييب صوت الشعب وإعدام عناصره الحية والمخلصة، وتعطيل المؤسسات السياسية والقانونية وتسخيرها عند الحاجة لمصلحة النظام وعناصره النافذة والفاسدة، ورهن البلاد ومصالحها العليا بالقوى السياسية والاقتصادية الخارجية وأجندتها على حساب المصلحة العليا للوطن والمواطن بصيغة الفرد والجماعة.
كان للحراك الشعبي التونسي ضد أركان الاستبداد في عهد نظام بن علي البائد وقع هائل في وجدان الأمة العربية والإسلامية، وحرك فيها شعورها الجماعي بمرارة الظلم والحيف، والإحساس بالإحباط تجاه بعض الأنظمة التي تمادت في طغيانها وتسلطها وكبت أنفاس مواطنيها وإهدار كرامتهم. جميع الشعوب العربية صفقت للمواطن التونسي وأكبرت فيه جرأته وشجاعته وانتفاضته، على واحد من أعتى الأنظمة الاستبدادية التي ابتلي بها العالم العربي في العقود الأخيرة، كما تابعت الشعوب ذاتها، بنفس الإعجاب والذهول إصرار فئات المواطنين المصريين باختلاف انتماءاتهم وطبقاتهم على إسقاط رأس النظام المصري، وإعطاء درس للعبرة في الصمود في وجه الأنظمة العربية العنيدة أمام مطالب الشعب المشروعة.
وسواء تعلق الأمر بتونس أو مصر، فإنه مما لا شك فيه أن ما جرى بالبلدين يمثل تجربة جديدة في تاريخ المنطقة العربية، تجربة جديدة وخلاقة بكل ما في إرادة الشعوب من معاني المقاومة والصمود والنضال من أجل الكرامة المهدورة، تجربة لا مثيل لها في تاريخ الشعوب العربية الحديثة، باعتبار أن ما سمي من ثورات عربية ضد أنظمة عربية فاسدة لم تكن، في ما مضى، تحركها الشعوب وإنما حركات وعساكر تمثلوا في ما بعد نفس أساليب وروح الاستبداد الذي نهضت ضده هذه الحركات. ولعل ما جرى في تونس ومصر من شأنه أن يعيد للشعوب العربية ثقتها في ذاتها وقدرتها على الإمساك بزمام المبادرة بيدها، في حركة عفوية جماعية بعيدا عن حسابات النخب السياسية أو الحزبية أو العسكرية التي باتت أمام التجربة الجديدة كيانات سياسية تحتاج لإعادة تأطيرها بسقف أعلى من المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتقويتها وشحنها بزخم شعبي أكثر وعيا وتوثبا. لقد أبانت الأوضاع التي نجمت عن الثورتين التونسية والمصرية، أن الصراع المحتدم بالبلدين، الذي انتهى بانتصار الشعب على النظام، كان في حقيقة الأمر يضع وجها لوجه بين طرفين غير متكافئين، أقلية متسلطة تستبد بنظام الحكم وثروة البلاد، وهي أقلية تتكون من بعض النخب والانتهازيين شبيهة بنبلاء الإقطاع في القرون الوسطى استولت على مقدرات البلاد واحتلت مواقع السياسة والإدارة والاقتصاد بطرق معظمها غير مشروع، وأغلبية مقهورة ومغلوبة من أبناء الشعب العربي تنظر في حسرة إلى حالها، من دون أن تجد من ينافح عن مطالبها ومصالحها المشروعة على قلتها.
ولربما من حسن الطالع في هذه الهبة الشعبية العربية أنها انطلقت من تونس ومصر، أولا، لأن تونس كانت تمثل نموذجا لوهم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي الذي كان يجد غطاء ومساندة قوية من قبل بعض القوى الغربية في محاولة لتعميمه، ولو بمنطقة شمال افريقيا على الأقل، وهو ما جعل هذه القوى تتغاضى عن تجاوزات نظام بن علي وتنكيله بالمخلصين من أبناء تونس تحت مزاعم وادعاءات عديدة. وثانيا، لأن مصر تمثل مركز الثقل في العالم العربي على كافة الصعد، ولا بد لكل تجربة يمر بها هذا البلد الكبير بتاريخه وثقافته ورموزه أن يكون لها وقع الصدى، إن لم يكن وقع الصدمة المدوية، في بقية أرجاء الوطن العربي. ولذلك كان بعض المتتبعين لانتفاضة الشعب المصري يتملكهم خوف على مصير هذه الانتفاضة التي تواجه نظاما استبعد الكثيرون سقوطه على غرار سقوط رأس النظام التونسي، فلو قدر لمبارك البقاء والصمود أمام ثورة المصريين ونجح في الخروج منها سالما، بعدما استخدم في ذلك كل الأساليب والطرق من ترغيب وترهيب وتذلل ودروشة، لكان ذلك كارثة، ليس في مستوى خطورتها كارثة أخرى، على الشعب المصري ومعه الشعوب العربية الأخرى، لأن ذلك سيعطي درسا بليغا في صمود أنظمة الاستبداد العربي أمام مطالب الشعوب ووأد ثوراتها بذات الطرق والأساليب التي تم تجريبها في مصر.
ولذلك أيضا، كان انتصار الشعبين البطلين التونسي والمصري انتصارا للشعوب العربية، لأنهما قلبا المعادلة وجعلاها في مصلحة هذه الشعوب عندما تقرر أخذ زمام الأمور بيدها وتصرخ في وجه النظام الفاسد ومؤسساته ورموزه.
إعلامي وباحث من المغرب