لم أكن أعرف عن أفرام نعوم تشومسكي إبان مرحلة الدراسة في الجامعة إلا كونه عالما وأكاديميا أمريكيا وأستاذا دائما في معهد اللغويات بجامعة ماساسوسيتش ومبدع النظرية التوليدية التي كان لها الأثر الكبير في تثوير اللسانيات. وكان عليّ أن أكون واحدا من شهود حرب الخليج الأولى عام 1990 والحروب الضارية الأخرى وأنظمة الاستبداد والفساد التي ابتلي بها العالم العربي لكي أكتشف بعدا آخر في شخصيته المتعددة الأبعاد، له علاقة بكونه تجسيدا للمثقف الحريص على الوصل بين الثقافة والأخلاق. كان هذا الاعتقاد بمسؤولية المثقف قد تخلق بطبيعة الحال في وعي تشومسكي قبل هذا التاريخ وتحديداً منذ عام 1964 حين انتقد بشدة الحرب التي شنتها الولايات المتحدة ضد فيتنام.
فوجئت بموقفه الرافض للحرب الكونية المعلنة على العراق وحملة التدمير التي شنت ضد ثقافته وحضارته والتي اتخذت شكل حصار قاتل أسفر في النهاية عن سقوط بغداد واحتلال العراق. أعترف بأنني كنت أقرأ بانتظام بياناته ومقالاته ذات النبرة الحادة التي لم يكن يدخر في سياقها جهدا في كشف السياسة الامبريالية التي التزم بها النظام العالمي الجديد الذي تتزعمه الولايات المتحدة وحلفاؤها التقليديون وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني. كان تشومسكي أبرز المنافحين عن مبدأ المساواة بين الثقافات وحق الشعوب في أن تقرر مصيرها وأن تحاكم من ارتكبوا في حقها جرم التقتيل والإبادة الجماعيين.
أصدر تشومسكي العديد من الكتب وألقى المئات من المحاضرات التي اهتمت في المقام الأول بالتأثير السلبي للغطرسة الإمبريالية الأمريكية على وجه التخصيص على بقاع عدة من المعمورة. كان الرهان الرئيسي للرجل متمثلا في الاحتجاج لحقيقة مؤداها أن المثقف موصول عضويا بالمجتمع والإنسانية، وهو ما يستلزم في المقام الأول التعالي عن إكراه ' التخصص' واعتناقا لرحابة السؤال. كان الوصل بين الثقافة والتمرد على الأنساق الثقافية الجاهزة والمؤسسات القمعية التي تفرض التطابق بقوة العنف المادي والرمزي. كانت الكتب التي أصدرها الرجل بوتيرة مكثفة معبرة عن هذا التعالق المثير والمبهج بين المعرفة ومقاومة أشكال العدوان والقمع التي تمارسها القوى الإمبريالية على الأقليات العرقية والثقافية. يمكننا أن نستدعي في هذا الخصوص وعلى سبيل التمثيل لا الحصر كتابه القوي الموسوم ' القوة والإمبريالية الأمريكية' الذي فضح فيه السياسة الخارجية للولايات المتحدة وأساليبها في ترويض الشعوب خدمة لمصالحها الجيو استراتيجية
لم تكن هذه المصاحبة لتشومسكي ومساره المعرفي والنضالي الثرّ مفصولة عن اعتقادي الراسخ في الانفصال الحاصل بين المثقف العربي والمجتمع والتاريخ. يستلزم هذا الانفصال المؤسي بداهة اتصالا عضويا وزواجا كاثوليكيا مع السلطة منظورا إليها في امتداداتها الأفقية والعمودية.
وفي الوقت الذي كان فيه تشومسكي يوجه نقدا لاذعا للسياسة العنصرية للكيان الصهيوني حيال الفلسطينيين في برنامج ' كلمات متقاطعة' الذي تبثه القناة الفرنسية الثانية والتي تمثلت في جدار الفصل والحصار الظالم لقطاع غزة، كان المثقفون العرب في غالبيتهم يؤثرون الصمت المتواطئ أو يباركون السياسة العميلة للنظام الرسمي العربي باسم الكفاح ضد الإرهاب الأصولي الذي تجسده حركة حماس. وكانت الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام الديكتاتور شين العابدين بن علي مناسبة تاريخية لتأكيد هذا الزواج. كانت دهشتي قوية وأنا أحيط علما في مقهى 'فيس بوك' بالموقف المريب الذي التزم به كاتب تونسي من الانتفاضة الشعبية التي انطلقت شرارتها الأولى من مدينة سيدي بوزيد؛ إذ لم يتردد الكاتب الصنديد الذي اشتهر بالتمرد والصعلكة في وصفها بأنها ثورة رعاع. وكان علي أن أنتظر خطاب الديكتاتور بعد انتشار الثورة في كل أرجاء البلاد لكي أباغت بالكاتب المتمرد وهو يصف الخطاب بأنه ملائم ومنسجم. لكن المفاجأة التي لم يكن يتوقعها صاحبنا والتي تمثلت في فرار الديكتاتور حملته على أن يبادر بأسرع من لمح البصر إلى قلب المعطف والإشادة على استخذاء ودائما على صفحته في الـ 'فيس بوك' الفضاح بثورة 'الشباب' مع التحذير المناور والمخاتل من الخميني والقرضاوي ومن لف لفهما.
لم أباغت في الحقيقة لتعيين الناقد التنويري جابر عصفور وزيرا للثقافة في حكومة اختارها الديكتاتور في محاولة جبانة ويائسة للالتفاف على الثورة الشعبية العظيمة وتأبيد سلطته. كان هذا المثقف الذي بدأ مساره الثقافي على أنقاض هزيمة 1967 متشبعا بكشوفات الحداثة وفلسفة الأنوار، وتمكن من خلال مجموعة من المصنفات والترجمات من أن يتبوأ منزلة خاصة في الثقافة العربية المعاصرة. أعترف في هذا الخصوص بأن مصاحبتي لكتابه القوي 'المرايا المتجاورة' حملتني ليس فقط على النفاذ إلى جوهر المشروع الفكري والنقدي لطه حسن، وإنما على اعتناق قيمة الوعي النقدي باعتبارها مفتتح أي مشروع تنويري. لم يتوقف الرجل عن الإسهام بقوة في هذا المسار، وكان كتاباه 'هوامش على دفتر التنوير' و'ضد التعصب' نموذجين دالين على ذلك. لم يكن انشغال الرجل منحصرا في الشق الأكاديمي، إذ اشتهر بمشاركته الفعالة في الحياة الثقافية داخل مصر وخارجها، وكانت الصداقة التي جمعته بوجوه بارزة في المشهد الثقافي المصري المتشبع بالإرث التقدمي وخصوصا الشاعر المصري الراحل أمل دنقل قرينة دالة على إيمانه العميق آنذاك بالعلاقة العضوية بين الثقافة وقيم الحداثة والتمرد والرفض والتوق إلى الحرية.
لم يمنع هذا ' التشبع' بقيم الحداثة والتقدم الرجل من أن يبحث لنفسه عن موقع في الأجهزة الرسمية للثقافة العربية وأن يعضد هذا التوق باستعادة لحوحة لقيمة ' التكسب'. كان لتدفق المال الخليجي على مصر غب سياسة الانفتاح التي دشنها سيئ الذكر أنور السادات وعمق من امتداداتها الكارثية خلفه محمد حسني مبارك أثر لا ينكر على الدينامية الثقافية في مصر خصوصا وباقي العالم العربي. ولم يكن الناقد والمثقف التنويري بمعزل عن كل ذلك، إذ لاحظت حرصا للرجل على الكتابة في المنابر الخليجية والمشاركة والحضور المكثف في مهرجانات لا تصلها بالثقافة والإبداع إلا أوهى الأسباب. وحري بالتذكير في هذا السياق أن هذا النزوع تضاعفت كثافته بعد حرب الخليج الأولى. لم يكن من المستغرب والحالة هاته أن يتوج الناقد التنويري وصديق ' أمل دنقل' هذا المسار بقبوله الحصول على جائزة معمر القذافي للآداب عام 2010 والتي تبلغ قيمتها المالية مائتي ألف دولار أمريكي والأصداء الإيجابية التي خلفتها في الوسط الثقافي المصري المحسوب على النظام، ونمثل لذلك بموقف الروائي جمال الغيطاني الذي استدعي لحضور حفل التسليم وصرح لصحيفة ' الجماهيرية' قائلا إنه ' سعيد بتكريم الدكتور جابر عصفور وسعيد أكثر أن أحضر أول مناسبة تمنح فيها جائزة الأخ القائد معمر.' لم يتردد الدكتور جابر في معرض كلمته في القول: ' وقع الجائزة عليّ جميل وطيب، لأنها تستحق أن أقول إزاءها ما قلته من قبل. إنني منحت هذه الجائزة ثلاث مرات، أولا لكوني ممثلا للأدباء المصريين، وثانيا لكوني مؤمنا بالقومية العربية، وكنت في هذه الجائزة أنوب عن كل الأدباء العرب، وثالثا لأن هذه الجائزة مرتبطة في ذهني بذكريات عزيزة عن ليبيا التي لا تزال مستمرة على طريق القومية العربية.
صم المثقف التنويري أذنيه عن كل الانتقادات التي وجهت إليه، ولم يتردد والقمع البوليسي ضد المتظاهرين في ميدان التحرير يستشرف ذروته ويوقع المئات من الشهداء في أن يباشر مهامه الوزارية بحمية واستبسال. كانت صحيفة 'اليوم السابع' المصرية قد نقلت في هذا الصدد أخبارا عن ترؤسه لاجتماعات مكثفة مع رؤساء القطاعات داخل الوزارة..
قبل ان يستقيل من منصبه في آخر نفس من حكم مبارك.