أخشى أن تنعكس حالتي الفكرية على قوام هذا الطرح، لكنني ألتمس عذرا من القارئ حيث أعترف بأنني في معاناه شديدة، وأحاول لملمة أفكاري المبعثرة لفهم ما حدث في بلادي، علما بأنني لم أكن يوما معزولا عن الشارع، بل أعيش وسط الناس متصلا بهم اتصالا حيا ومباشرا ويوميا، متصلا بكل أطياف المجتمع وطبقاته من دون استثناء، كما أعترف بأنه وطوال العقد المنصرم كنت أسيرا لهاجس واحد سيطر على أفكاري، هذا الهاجس هو، أن انفجارا سيحدث في بلادي، لكن ليس في هذا الاتجاه المختلف المفاجئ، وكان سهم البوصلة يشير بقوة إلى حرب أهلية، ستنفجر بين عنصري الامة المصرية. فقد كانت موجات الاحتقان الطائفي تزداد يوما بعد يوم، وكانت نتائجها المتوالية طيلة السنوات العشر الماضية ـ وقبلها بنصف قرن ـ شديدة الوطأة على مكون أصيل من هذه الأمة العريقة، اتخذه كل من يناوئ النظام وسيلة سهلة لاستفزازه والانتقام منه. وعلى مدى عام كامل وما يقرب من ثلاثين طرحت على هذه الصفحة في هذه الجريدة وغيرها، وحملت هذا النظام كله مسؤولية دماء إخوة لي في الوطن ذهبوا ضحايا لمتوالية القهر الطويلة، التي عانى منها المصريون ـ كل المصريين.
نعم متوالية قهر لعقود طويلة، فالنظام قهر الناس واستعبدهم، والناس قهروا بعضهم، ولان القهر يستلزم آليات للتمييز والفرز فقد تفنن المصريون في ابتداعها ـ كما في كل المجتمعات المقهورة ـ نعم ابتدعوا وسائل كثيرة لتفريغ شحنة القهر الهائلة التي بثها النظام في عظام الناس، وأعاد الناس بثها في بعضهم بتصنيفات عديدة، منها الدين والجنس والعرق والزي واللقب وغيره وغيره، ويوجد في بلادي عشرون علامة توضع على السيارات لتمييز أصحابها عن بقية البشر، ويوجد في بلادي كم من الالقاب الزائفة والمناصب الهلامية لا مثيل له في الدنيا بأسرها، ويوجد في بلادي وسائل أخرى كثيرة لتفريغ شحنة القهر التي يبثها النظام في الناس ويعيد الناس بثها، موجات احتقان وعنف وفساد وفوضى في كل مناحي الحياه، يبثها المعلم في التلاميذ ويبثها الرئيس في المرؤوس والجار في جاره وحتى الزوج في زوجته وأولاده.
كما أن استيعاب ما جرى في بلادي يحتاج إلى رؤية متعددة الزوايا، ولكن من يستطيع أن يرى وسط هذا الدخان الكثيف؟ لذا أنصح القراء بتوخي الحذر في مطالعة هذا الطرح ـ وغيره في هذا الحدث ـ لأن الكتابة من قلب الحدث لها مخاطر عديدة، منها الانفعال وتأثير الميديا وتعقيدات المشهد والتطور المتسارع للأحداث، بالاضافة لنقص المعلومة الامينة المحايدة، وللخلفية السياسية او الايديولوجية للراوي أو المتلقى، وخصوصا حدثا بهذا الحجم وهذه المفاجأة، الحدث الذي أعتقد بأنه أعاد للمصريين ريادتهم التي ضاعت منذ عقود، ودفنت تحت ركام من الفساد والاستبداد والقهر، مع ضرورة التمييز الذكي بين ما نقرأه وما نشاهده وما نسمعه، وهل هي تحليلات محايدة أم هي انطباعات أو تمنيات أو تصفية حسابات أو صورة من زاوية مفردة يبثها طرف أو أطراف لا نستطيع تبرئتهم أو اتهامهم ـ نظرا لتعقيدات المشهد ـ من شبهة انحياز قد يوصم بها الجميع في هذه اللحظة من التشنج والاصوات المبحوحة، بالإضافة لعامل مهم، وهو ركوب الموجة من محترفي ركوب الموجات، وتحويل اتجاهها ليصب في صالح أهدافهم الخبيثة وتفريغ هذا الحدث من محتواه النقى، والذين يقولون بان شهداء 25 كانون الثاني/ يناير كانوا باكورة الضحايا لهذه الثورة نقول لهم ان شهداء القطارات المحترقة وشهداء العبارات الغارقة وشهداء قوارب تهريب البشر وشهداء الكنائس وغيرهم وغيرهم من شهداء الفساد، كل هؤلاء كانوا ضحايا هذا النظام الفاشل وتابعية المستفيدين من غبائه السياسي والامني، وكل هؤلاء الضحايا قبل 25 يناير كانوا المحفز والمحرض والدافع الرئيس لهذه الثورة، وما هؤلاء الأعزاء الذين ضحوا بدمائهم في الميدان الشهير سوى ضحايا المشهد الأخير لهذا النظام. وعندما اقول هذا النظام لا أقصد رأسه فقط ولكنني أقصد كل الهياكل الفاسدة التي صاحبته، كل الوجوه التي كانت على الساحة، كل الاسماك النافقة التي كانت طافية على السطح، في الحكم او خارج الحكم في النظام او خارج النظام، معارضين وموالين، كل الوجوه الكالحة التي ساهمت في إضفاء شرعية زائفة على ممارساته الغبية التي كادت أن تقذف بنا إلى المجهول. ونعود للشطر الاول من سؤال العنوان ماذا حدث؟
أعتقد أن هذا السؤال سيظل مطروحا لعقود طويلة، نظرا لمعطيات انقلبت على كل النظريات المعروفة عن الثورات ومسبباتها ووسائل تنفيذها، فالحدث صدم كل أجهزة الرصد الاستراتيجي في كل الدنيا، ورأينا كيف تخبطت أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم وفشلت حتى في توقع سيناريو واحد لساعة واحدة قادمة، وكان مسؤولوها يلهثون متخبطين، ونظرة على الموقف الامريكي المضحك كمثال قد توضح الصورة أكثر، وربما نكون إجابة بسيطة بعيدة عن التعقيدات قد تفي بالغرض، فهناك شباب امتلكوا ناصية التكنولوجيا ووظفوها لاقتلاع نظام من جذوره ونجحوا بعد ان دفعوا ثمنا عادلا لحرية أمة، فالحرية لا تعطي للأمم هبات أو منحا.
أما من هؤلاء؟ فبكل المقاييس هم ليسوا قطيعا من الجياع هبوا من اجل ملء فراغ البطون، فكل الشواهد على الارض تكشف أن هؤلاء الشباب مستخدمي هذه الوسائل التقنية الحديثة ـ المكلفة نسبيا ـ كانوا على الاقل من الطبقة الوسطى، أو ربما هم الشريحة الأعلى منها، ونظرة سريعة على مظهرهم (وأنا هنا أتكلم عن الموجات الاولى لهذا التسونامي العجيب) ربما تعزز المقولة. شيء آخر أنهم لم يكونوا فوضويين أو سفهاء بل كانوا منظمين واعين (ولا زلت أتحدث عن الموجات الاولى)، وفي هذا السياق لا أجد حرجا من ان ألوم نفسي، ففي مرحلة ما عندما كنت أرى تجمعاتهم في أي مكان وأستطلع مظهرهم وأزياءهم وأسمع أحاديثهم كان اليأس يتسرب إلى قلبي.
وفي هذا السياق وكما تحدثنا عن متوالية القهر يجدر بنا أن نتحدث عن متوالية الحرية، فالشاب الامريكي الذي بث فيه مجتمعه روح الحرية أعاد بثها فكرا مبدعا وابتكر آلية للتواصل الانساني على اتساع الكوكب، هذه الآلية التي أشعلت ثورة فريدة في التاريخ ربما تغير وجه هذه الامة وربما تغير وجه العالم، وهذا هو الفارق بين ناتج متوالية القهر، وهو التعصب والعنف والحقد والاهانة، وناتج متوالية الحرية وهو الحياه والكرامة والابداع. وهؤلاء أيضا هم من كفروا بكل من على الساحة كفروا باحزاب وسياسيين وتيارات لم تنتج لنا سوى اطنان من الهراء وملوثات الماء والهواء وشعارات جوفاء، وطيلة نصف قرن احتلوا الواجهة مع الانظمة وتبادلوا الادوار وضاعت أرض وضاعت قضايا وضاعت قيم أصيلة ونبيلة وبرزت على الساحة قيم مشوهة، وأعتقد أنه آن الأوان ليبتعد (عواجيز الفرح) وكل العواجيز ليفسحوا طريقا لهؤلاء الشباب الانقياء ليصيغوا مستقبلهم، مستقبلا جديدا لا تظهر فيه هذه الوجوه الكئيبة وتلوث ثورة هؤلاء الشرفاء، تلوثها بأفكارهم التي عفا عليها الزمن أفكارهم الخبيثة التي بثت الحقد والغل بين أبناء الوطن، نعم كفر هؤلاء الشباب بكل هؤلاء الذين يهدفون لدخول مصر النفق المظلم الطويل الذي دخلته شعوب من عقود ولم تخرج منه بعد.
ونعود مجددا للشطر الاول من السؤال ماذا حدث؟ وفي السطور المتبقية نقول ان المصريين عاشوا عشرين ليلة بلا نوم، كما لم تحدث أزمة غذاء فهم لم يأكلوا، وخيم الخوف في سماء المحروسة على كبارها وصغارها، فقرائها وأغنيائها كل ذلك عاشه المصريين بسبب الكبرياء والعناد، عناد النسر المقاتل الذي لو تقاعد بعد عشر سنوات لتربع في قلوب المصريين، إلى أن جاءت الليلة الموعودة أخيرا، أخيرا حط النسر العنيد، حط مرهقا بعد أن حلق آلاف الساعات من الطيران بسرعة الصوت، حط مرهقا بعد أن حلق قابضا بمخالبه القوية على أمة بأسرها طيلة ثلاثين عاما، حط بعد أن وضعها على حافة هاوية سحيقة طيلة عشرين يوما عاشها المصريون أسرى كوابيس سيناريوهات مفزعة لم يكن لها سقف، سيناريوهات هي خليط من الخوف والرعب والفوضى والثورة والوحدة والانقسام والحب والكره والتعاطف والارق والقلق، إلى آخر كلمات قاموس الانفعالات الانسانية، وسيظل الجدل قائما عن الفعل والفاعل، أما المفعول به وهي الامة المصرية فلا شك تحتاج إلى جهد المخلصين من أبنائها لتتجنب الدخول في النفق المعتم الذي لو قـدر لها الدخول فيه فسيكون الخروج مستحيلا.
كاتب مصري