طال انتظارنا يا مصر لعودتك، فغيابك كان طويلا ومريرا. لقد اشتقنا إليك كثيرا فمقعد القيادة الذي أخلاه الزعيم الخالد لم يستطع أحد أن يملأه كل هذه السنين. ظل شاغرا لنحو أربعين عاما. لقد حاول كثير من الطغاة الصغار والكبار أن يجلسوا عليه فلم يفلحوا. لا المؤمن ولا المهيب ولا العقيد ولا الطريد ولا الخادم ولا أمير المؤمنين. ظل خاليا بانتظار الزعيم الذي تقبله الأمة طوعا من غربها إلى شرقها، ويملك صفات القيادة الفذة عن وعي والتزام ونزاهة وتفان ومصداقية وانشغال بالهم العام .
وأود أن أذكر فقط شباب الثورة الميامين الذين يصنعون التاريخ هذه الأيام بما جرى للأمة بعد غياب أرض الكنانة الطويل. الأمة بعد غياب مصر تفتت وتقزمت وضاع وزنها وتلاشى دورها ودخلت مرة في حروب مع بعضها البعض، ومرات في حروب أهلية مع طوائفها. لقد تغولت الإقليمية والطائفية والشوفينية وانتشر الفكر المتطرف والاتجاهات الهجينة على هذه الأمة العظيمة ودورها التاريخي، حتى تحولت إلى قبائل ترفع أعلاما وتسمي نفسها دولا. انتصر البترودولار فاحتل المنصة وسيطر على الإعلام، واشترى الكثير من الكتاب والصحافيين، وعمم ثقافة الاستهلاك، وخرب عقول الشباب بإلهائهم في فضائيات الفن الهابط ومسائل الفقه والحجاب وطول اللحى وإرضاع الكبير ومباريات كرة القدم. تآمروا على إخوتهم في العراق وفلسطين ولبنان وسورية، وألقوا القضية المركزية في أحضان فئة فاسدة مارقة خارجة من عباءة البترول تحت شعارات تبريرية تعفي تلك الدول/القبائل من مسؤولياتها التاريخية.
في غياب 'أم الدنيا' أتعرفون أيها الشباب كم تعرضت الأمة إلى الهوان والمذلة والهزائم والحروب الأهلية والحروب الحدودية؟ في غياب الربان ضاعت بوصلة السفينة وتاهت في لجة البحر وقفز كل زويعم في قارب نجاة. بلطجة إسرائيل انطلقت من عقالها في غياب قيادة الأمة وأصبح ذراعها أطول بعد معاهدة العار التي أخرجت مصر من دورها التاريخي وألحقتها بذيل السياسة الأمريكية الإسرائيلية. دخلت إسرائيل عاصمة عربية واحتلت جنوب لبنان 22 سنة ودمرت الجنوب اللبناني مرتين، ودمرت المفاعل العراقي وضربت مقر منظمة التحرير في تونس، والتهمت ما تبقى من أرض الضفة وحاصرت غزة بعد أن دمرتها وهودت القدس، وضمت الجولان إلى منظومتها القانونية، واغتالت الزعماء والعلماء والثوريين، ونشرت جواسيسها في كل مكان، بما فيها قاهرة المعز، بعد أن رفعت علمها فوق إحدى بناياتها. كوّع الزعماء واحدا وراء الآخر وأصبحوا يتسابقون على كسب رضى إسرائيل طريقا لرضى السيد الأمريكي عنهم، كما رفع علم ثان لها في عاصمة عربية أخرى. أصبح زعماؤها يتجولون في العواصم العربية ورياضيوها يشاركون في مباريات في الملاعب العربية وبعض الفرق العربية تشارك في احتـــــفالاتها في ذكــــرى اقتلاع الشعب الفلسطيني، بل وتنهال عليها برقيات التهنئة في تلك المناسبة التي قاتلت مصر بسببها أربع حروب.
في غياب قيادة مصر للأمة انبتّ العقد الاجتماعي في لبنان ودخل في حرب أهلية طاحنة استمرت خمس عشرة سنة. انجر زعيم العراق إلى حرب طاحنة مع إيران دفاعا عن دول آبار النفط، ثم خذلوه فرد عليهم باحتلال الكويت ليضع بذلك إسفينا عميقا في ما تبقى من الهيكل العربي البائس. اليمن توحد ولكنه ما لبث أن دخل في أكثر من حرب مع أبناء شعبه شمالا وجنوبا وهو على حافة بركان يوشك أن ينفجر. السودان، الجار الأكبر لبلدكم، فقد جنوبه بسبب غياب مصر وغباء القيادة السودانية التي دخلت هي الأخرى في أكثر من حرب مع مناطقها في الجنوب والغرب والشرق. المغرب والجزائر دخلتا في صراع حول الصحراء، عطلت قدرات البلدين ودمرت ما تبقى من بقايا هيكل تافه يدعى اتحاد المغرب العربي. سورية ما زال جولانها محتلا وحدودها آمنة مع الكيان، رغم الاستفزازات المتكررة مرة في دير الزور ومرة فوق القصور. ورغم انكشاف ظهرها بعد غياب مصر لم تجد حليفا عربيا واحدا يساند موقفها ضد الانهيار فبحثت عن حليف خـــــارج الطوق العربي. أما العراق فمأساته أكبر من أن توصف، لقد تم حشد أكبر 'أرمادا' في تاريخ الإنسانية لتدميره مرتين وبمباركة 'مُباركية' في المرتين. تحولت كنانة الأمة إلى معبر للأساطيل المتجهة لذبح أبناء العراق. ووقف فرعونها ينصح الدكتاتور بالرحيل قبل تدمير بلده، ولا نعرف لغاية الآن لماذا لم ينصح نفسه ويرحل بشيء من كرامة، بدل أن يتلقى ركلة من الشعب تقذف به إلى جانب 'زين الهاربيـــن'. العراق، ويا حسرة على ما جرى له ولأبـــنائه الغر الميامين، فقد أكثر من مليون ضحية وفيه مليون أرملة وأربعة مـــــلايين يتيم ومليونا لاجئ ومليونا مشرد.
أكان هذه يحدث لو كان للأمة قيادة فاعلة كما كان الحال عام 1961 عندما هدد دكتاتور العراق آنذاك عبد الكريم قاسم باحتلال الكويت، لكن زعيم الأمة أخمد النار قبل اشتعالها بإرساله كتيبتين من الجيش المصري لاحتواء الأزمة فورا وهكذا كان. هل يعقل أن تعلن الحرب على غزة من القاهرة؟ هل أحد يصدق أن سياسي مصر يهددون بتكسير أرجل الفلسطينيين، مثلما هدد رابين بتكسير عظامهم في الانتفاضة الأولى، ويمنعون المساعدات الإنسانية عن غزة ويبنون جدارا فولاذيا لتعزيز الأمن الإسرائيلي ويحولون شرم الشيخ إلى وكر للتآمر على قضية الأمة، واستقبال زعماء الكيان صباح مساء. مصر، يا شباب الثورة، تحولت إلى مراسل رخيص لإيصال الرسائل الأمريكية الإسرائيلية إلى الطغاة العرب، وتحولت إلى دويلة لا وزن ولا دور ولا فاعلية ولا حضور ولا أثر لها ولا فعل. غيابها أعطى دورا أكبر لبعض الدويلات. فلم نسمع عن دور لها في أزمات لبنان، ولا حرب الجنوب ولا حروب غزة ولا حصارها ولا دارفور ولا الجنوب السوداني ولا الصحراء الغربية ولا حروب اليمن ولا في انفراط العقد العراقي ولا في تراجع واختصار قضية الأمة كلها إلى موضوع تجميد أو عدم تجميد الاستيطان. تحولت القيادة المصرية الفاسدة إلى كمبرادور مالي لا هم له إلا جمع الثروة ونهب المال العام وسرقة الأراضي والتسابق على تحويل الأموال للخارج. وهكذا تقزمت الدولة العملاقة لتختفي من خرائط الفعل وتتحول إلى حارس رديء لا يستأسد إلا على الفلسطينيين، ولا يستعمل التهديد والوعيد إلا على فقرائهم والعابرين للحدود والمارين من المطارات، وعلى أصحاب الضمائر الحية من حاملي المساعدات الإنسانية الدولية الذين تواجههم قوات الأمن بالهراوة والنبوت. أما ما عمله من خراب داخل مصر فأنتم أدرى به ولا ضرورة للتذكير به أصلا.
الثورة وتصحيح مسار التاريخ
هذه هي الصورة القاتمة التي كانت عليها الأمة عشية ثورة الشباب. مسار التاريخ كله تغير في الأربعين سنة الماضية، ونود أن نراه يصحح في السنوات القليلة القادمة. لقد ظل المقعد خاليا بانتظار عودة القائد الذي يستحق أن يجلس في مقصورة القيادة. ننتظر أن تفرز مصر بعد هذه الثورة العظيمة من يستطيع أن يلملم شظايا الأمة ويعيد إليها الاعتبار ويصلح شيئا من الخراب الكبير الذي ارتكبه النظام البائد. لقد شاهدتم أيها الشباب احتفالات الأمة كلها بانتصار ثورتكم من المغرب غربا إلى البحرين شرقا. حتى في تلك الدول الفاسدة التي منعت أبناءها من الاحتفال معكم خوفا من عدوى الثورة، تأكدوا أن الفرحة دخلت الى كل بيت. الجاليات العربية في المنافي أيضا خرجت بشكل جماعي للاحتفال. وفي الاحتفالين اللذين شاركت فيهما شخصيا قرب مقر الأمم المتحدة بنيويورك وفي باترسون منطقة تجمع العرب في نيوجيرزي، كان أبناء العروبة كلهم في الاحتفال. كانوا يرددون معكم: الشعب خلاص أسقط النظام، ويرددون أيضا الشعب يريد تحرير فلسطين. إنه النداء الأبدي والجامع الذي ما زال يشد أبناء الأمة كلها مثلما شدتهم ثورة الياسمين وثورة الشباب في كل من تونس ومصر.
هذا زمان التصحيح. نحن لسنا في عجلة من أمرنا. رتبوا شؤون بيتكم أولا وانطلقوا بعد ذلك من أرض صلبة لاحتضان أمتكم، التي انتظرت طويلا لمثل هذا اليوم العظيم وأبقت مقعد القيادة شاغرا كل هذه السنين.
أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في منطقة نيويورك