البساطة لا تنفى الحقيقة، وما يكون بسيطا يكون حقيقيا, أو يكاد, الشعراء يسعون بين الاثنين , وقد لا يصلون, الثورة وحدها تصل, فى 25 يناير فاجأتنى الثورة وأنا على الحافة اليمنى لرواية الكاتبة الشامية غالية قبانى (أسرار وأكاذيب)، كنت قد قرأت الإهداء والشكر الخاص والمقتطفات من نابليون وشكسبير وكيبلنج، وكان نابليون يقول، كأنه يقول لى: التاريخ هو ما تم الاتفاق عليه من أكاذيب، لكن الثورة فاجأت نابليون بصدقها، وفاجأتنى بشمس ساطعة، فاجأتنى بأن الأدب لا يحب المقارنة مع ثورة، الأدب لا يحب الانتظار فى الميدان، إن الأدب طريقة, فيما الميدان طريق , تعرفت على الميدان و كائناته, فماضيه كائنات تنشع منه، وحاضره كائنات تعيش فيه، ومستقبله هو هؤلاء : الرجال بالملابس الإفرنجية، الرجال بالجلابيب، الرجال باللحى، الرجال باللهجات كلها، النساء بملابس شفافة، النساء بملابس داكنة, يبكين على مقتولين دماؤهم الساخنة تقطر من الصور المرفوعة، الشباب بحداثتهم المرفرفة كأسراب حمام، الإخوان بأجساد مرصوصة، الشيوعيون الذين عرفتهم منذ الجامعة، يقبضون ويجزون بشفاههم على أغنية الشيخ إمام: يا مصر قومى وشدى الحيل، كانت ماجدة شعراوى عندما تروق وتصفو تغنى هذه الأغنية التى اقتحمت شاشات التليفزيون الرسمى بعد الثورة، ماجدة حية ولم تمت، ومنى مختار ترسل التهنئات، منى وماجدة يمامتان من بيضة واحدة، يمامتان من مدينة واحدة ,كنت أعلم دائما أن المدينة هى الكائن المسيطر فى المجتمع الحديث، إنها حتى ولو كانت عريقة، تظل من صنع التاريخ الحديث، من صنع بضعة عقود أخيرة من الزمن، يا له من زمن، إنه طبقات تتراكم، والمعرفة أيضا طبقات تتراكم.
طبقات المعرفة
طبقات المعرفة تجزم على لسان عشاقها، بأنه يمكن تحقيق الثورة، إما عندما تكون الأمة قد جمعت نفسها متحفزة للانقضاض كالأسد، وإما عندما تنقسم الأمة على بعضها انقساما نهائيا خلال الصراع، مخولة بذلك أفضل فئة لتنفيذ المهام التى فشلت الأمة ككل فى تنفيذها، هاتان المجموعتان المتعارضتان من الشروط التاريخية, تتعارضان منطقيا فقط لنقاء شكليهما، فى الثورة كانت الأمة قد جمعت نفسها، على الرغم من وجودها فى ميدانين متخاصمين , شرق النيل وغرب النيل، الميدان الكبير هو ميدان التحرير، والصغير مصطفى محمود، وبينهما حرب شوارع، يكفى أن الميدان الصغير كان اختراعا شريرا، ما لبث أن صار تأكيدا للميدان الكبير، فى أقصى الشرق، يعتقد الناس أن الدنيا تتكون من عنصرين جوهريين هما الأنهار والجبال، فالأنهار تمثل شرايين الأرض، والجبال تمثل هيكلها العظمى، لميدان التحرير شرايين وهيكل عظمى، الناس يختلفون فى تحديدهما، كأنهما الأرض والسماء، وميدان مصطفى محمود لا اختلاف حوله، إنه الغبار، بدأ السيد مصطفى محمود حياته كاتبا وطبيبا برجوازيا هائجا متطرفا مثل كل مراهق، تطرفه متهور وساذج وبدون آفاق، لكنه لما بلغ حد إدراك مصالحه، انقلب على نفسه، وادعى دعوات دينية، أيضا كانت ساذجة وذات آفاق محبوسة، وكسبت دعوته أتباعا يشبهون السيدة لوتس عبدالكريم والملكة فريدة، ويتميزون باحتياجات معرفية محدودة تقتصر على شغف ارتياد الصالونات، والجلوس على مقاعد مريحة، بلا سؤال واحد، وبأسطول من الإجابات الخردة، دعوات مصطفى محمود انتهت بأن أصبحت شعبوية تضم إليها كل أفراد البرجوازية الرثة، وقليلا من البروليتاريا الرثة، بالمصادفة ظهر ميدان مصطفى محمود وكأنه يشبه صاحبه، ميدان للدفاع عن طاغية، للدفاع عن ثبات لا يشبه الموت، لأن للموت نهاية، والثبات لا نهاية له، ولأن أبطال الموت هم كل البشر، وأبطال الثبات هم أنصار الديكتاتور وأعضاء حزبه ومصالحه، والهمج والبرابرة، وبعض الأبرياء السذج، أما ميدان التحرير، وعلى الرغم من أنه محاط بتناقضات الحداثة، التى تمنحه الحيوية، إلا أنه ظل الأكثر انسجاما مع شهوات التغيير، مستديرة الميدان تضم الجامعة الأمريكية، ومجمع المصالح، ومسجد عمر مكرم، ووزارة الخارجية، وجامعة الدول العربية، وفندق الهيلتون، والمتحف المصرى، وصفى مبان إسماعيلية الطابع، فى طوابقها الأرضية مقاه ومطاعم وسنترالات ومعامل تحاليل وباعة صحف وكنتاكى ، الميدان له منافذ، كوبرى قصر النيل، وشارع قصر العينى، وشارع محمد محمود، وشارع التحرير، وشارع طلعت حرب، وشارع قصر النيل، وشارع شامبليون، ثم مصب ميدان عبدالمنعم رياض، وفوقه سماء واطئة أحيانا، عالية أحيانا، ويقال إنها مكونة من آلام مكشوفة، فيها نجوم وغيوم وأقمار تستيقظ فى الليل، وفيها فضائيات لا تنام، وفيها طائرات النظام العمودية أو الطائرات إف 16 التى تئز مثل جيوش تنسحب، الميدان هو المكان الأكثر كوزموبوليتانية، بينما ميدان مصطفى محمود هو الأكثر ميلا إلى الصحراء، إلى ثقافة عرب الخليج، دراهم ودنانير وعباءات ومومسات وغلمان، مع انتصارات الثورة، أقبل الناس على ميدان التحرير، يتنزهون نزهاتهم الأسرية، المهرجون ورواة الأشعار والقصص والنشطون السياسيون يقفون ومن حولهم حلقات المستطلعين، شيرين الجمال تحتار, وأحمد عبد الوهاب ينتظر شبح لينين, وأروى صالح فى الجهة المقابلة, هناك أكياس تمر، وصناديق حلوى، وخطاطون ورسامون وباعة كل شىء، مما يخيل معه للزائر العابر، أنه فى أحد أسواق العصور الوسطى الغابرة، مما يخيل معه أنه– أى العابر- فى مهرجان أو مولد، وبعد أن يغمره الميدان، سيكتشف أنه فى عرس، العرس انفجار حى للروح والجسد، والمهرجان طقس كرتونى يمثل الانفجار ولا يفعله، مثل مهرجانات الفاروق، فى ميدان التحرير ستفتح عينيك وترى كأنك قديس، وسوف تتذكر هؤلاء الأصدقاء الذين يعتقدون أن ما يراه الإنسان بعينه، لابد أن يكون سرابا، لذا فإنهم إذا أرادوا أن يعرفوا لون السماء، امتنعوا بتاتا عن فتح النافذة، ونظروا خلال الزجاج، فى ميدان مصطفى محمود، كان رجب هلال حميدة وأبوالعينين وعائشة عبدالهادى وسامح فهمى وإبراهيم كامل ومرتضى منصور وآخرون من دونهم, كانوا يتوزعون فى الأنفاق السرية، والهتافات تخرج من أفواههم على شكل عناكب وسحالى، فى ميدان التحرير، كانت الحياة تهدر بالرصاص والمولوتوف وقنابل الغاز والقتلى والمصابين، مما جعل البعض يتساءل، هل الفوضى التى انهالت علينا، هل الدم والأرواح المفقودة تبرر مجمل النتائج التى تحققت،النبى المسلح يجيبهم بعنف، إن هذا السؤال عقيم بلا معنى، لأن بوسعنا أن نتساءل عن صعوبات الحياة، ومآسى الوجود الفردى، هل يستحق كل هذا، أن يولد المرء فى هذا العالم، ومع ذلك، مازال الناس يولدون ويتناسلون ولا يلجأون إلى الانتحار، فى ميدان مصطفى محمود كان الرماد، وفى التحرير كان البعث، إن حياة منزوية فى حاضر مرير، بغير سلطان على الغد، بغير شرفات وبلكونات، إن حياة كهذه لا تستحق أن تسمى حياة إنسانية، لولا أن البعث والرماد جعل الناس يملكون مستقبلا، وكفوا عن أن يكونوا ألعوبة فى يد القدر، لقد أصبحوا وأصبحنا مسئولين، أصبح لدينا ما نقوم بعمله، قبة البرلمان فى كل مكان, زوجتى خرجت من غرفتها وعملها إلى العالم، عيناها الآن أكثر اتساعا، إنها تسأل عن كل شىء، عن الدستور والفساد وثورة ليبيا ، ذات صباح فوجئت بزينب العسال تمر على المعتصمين بالميدان, ذات صباح آخر, وعلى كورنيش النيل، لم يكن أحد يمر، الطريق خالية، فوجئت برجل يرفع على صدره صحيفة، المانشيت الأحمر الكبير يقول: مصر حبيبتى.
سنوات الديكتاتور
الرجل لم يرنى، إنه يستمتع، هذا الرجل يشبه زوجتى، ويشبه اللغة، أشهد أن اللغة هى أيضا خرجت من حيزها الاستعمالى، أو حيزها المتعالى على الاستعمال، واستعادت حقها فى الوجود، كانت اللغة وعلى مر سنوات الديكتاتور، قد أصبحت مهانة، محبتها لوثة عقلية، وإجادتها رذيلة، واستطعامها أكثر من فجور، الديكتاتور نفسه كان يهينها عندما ينطقها، ولكنها فى الميدان انتشت ورقصت مثل عروس مجلوة، مثل وشم على الروح، واخترعت علاماتها، اخترعت أسماء الأيام :جمعة الغضب، جمعة الرحيل، جمعة التحدى، جمعة الانتصار، جمعة التطهير، جمعة الفرح، جمعة الوحدة الوطنية، يوم جمعة الانتصار قابلت وسام سليمان ومحمد خان، أحسست بأن بيننا لغة خفية، أحسست سقوط الحائط الرابع,كان أغلب المثقفين قبل الثورة يعانون الثقافة باعتبارها نوعا من الإدمان، إدمان أن تجد فيما تقرأه الأنا العليا التى تخصك، ولهذا السبب كانت اللغة قد أصبحت فارغة، صديقاى حسين عبدالسلام وسعيد عبدالرحيم، كلاهما لازمنى طوال أيام الميدان، كانا ينطقان أسماء الأيام، ليس بدعوى التداول، ولكن بدعوى الوجود، وابنى وزوجتى كانا ينطقانها بدعوى الوجود، الناس كلهم صارت كلماتهم مليئة، يقول الفرنسيون فى فكاهة، يقولون عن أنفسهم، إنهم صنعوا ما بعد الحداثة، للتصدير وليس للاستهلاك المحلى، سوق المثقفين كانت غارقة بسلع مضروبة، كنا نصدق ذلك التقسيم الجائر بين مثقف معارض للسلطة، تعمد السلطة إلى إقصائه وتصفيته، ومثقف يمشى فى أذيالها، يزين ما تفعله السلطة، ويدافع عن فشلها وهزائمها، ويبرر جرائمها، ويتخذها منبرا إيديولوجيا يعمل على خدمته بإخلاص المرابى، ويقابل الديكتاتور إذا استدعاه، ولا يقول له سوى: أريد مالا يا سيدنا، أريد جاها يا سيدنا، ثم يهتف: تنوير تنوير تنوير، ذلك التقسيم الذى يؤدى إلى افتراض مثقف ثالث، هو المثقف النموذج، مثقف محايد، تكنوقراط، مثقف خلاص، ذلك التقسيم يستند إلى أن المثقف الطليعى الذى كان معشوق أصحاب الياقات الحمراء، ليس عشيق الحرية، ولا العدالة، ليس عشيقهما الوحيد، بل ليس عشيقهما أبدا، وأن دوره الطليعى لا يذهب به إلا إلى المؤخرة، الأدهى لا يذهب به إلا إلى الاحتماء بالسلطة، فى الميدان كانت كاسحة القاذورات، تزيح هذا التقسيم الثلاثى، وتحتفل بعودة المثقف كشخص بسيط ومركب, فاعل ومباشر، استرداد الوطن هو ذاته استرداد المستقبل واللغة والثقافة والروح، وكلها تآلفت وارتفعت إلى مقام حكمة الشباب، التى طوال أيام الثورة غلبت حكمة الآخرين، فى يوم 25 يناير، قال الحكماء: يومان وينتهى الأمر، واستمر الشباب، عقب الخطاب الأول للديكتاتور الذى أقال فيه حكومة نظيف، وأتى بحكومة العار، حكومة شفيق الأول، قال الحكماء: يكفى هذا، لا تطلبوا أكثر، واستمر الشباب، عقب الخطاب الثانى، خطاب (لم أكن أنتوى)، هكذا سميته، مع العلم أن أنتوى أضعف من أنوى، لأنها صيغة أفتعل، لكن أستاذ اللغة الذى كتب الخطاب، حاول أن يتشدق، المهم، قال الحكماء: الرجل تعهد ولن يرشح نفسه، واستمر الشباب، عقب الخطاب الثالث، وهو خطاب له اسمان (يحز فى نفسى)، أو (قلة من بنى وطنى)، بعده قال الحكماء: أريحونا، واستمر الشباب، فور التنحى، تخلى الحكماء عن وقارهم، وصرخوا، واستمر الشباب، عقب تولية حكومة الصفقة، حكومة شفيق الثانى، أصبح الحكماء مثل الرجال الجوف، قالوا: سيجلبون الفوضى ,واستمر الشباب، يوم استقالة حكومة شفيق الثانى تبادلنا التهنئة،شهرت العالم ومنى برسوم وأنا، كان الرجال الجوف فى ميدان مصطفى محمود يصنعون الحكمة، ولو أن ميدان التحرير استجاب فى أية لحظة من لحظات حكمتهم، لغرقنا جميعا فى الصمت الطويل، عموما عندما ذهب عصام شرف إلى الميدان ليمارس بعض تقاليد الثورة، لا تنسوا أنه فى الثورة الفرنسية، كان أمثال عصام شرف يحلفون اليمين أمام الثوار، ومنصة القسم تحولت فيما بعد إلى مزار ومتحف، ثوار الميدان هتفوا: احلف احلف، إنهم فعلوا بالفطرة ما تفعله الثورات دائما بالفطرة أيضا، هذا الشباب الذى تلتف سنوات عمره حول الثلاثين، أكبر أو أقل، رأى فى أيام مراهقته، كيف يهدم العراقيون تمثال طاغيتهم المقام فى أكبر ساحات بغداد، رأوا أيضا كيف يخرج الطاغية من المخبأ، بشعر مترب، ولحية مشوشة، وبأسنان نخرة يفحصها طبيب غربى مجهول، كأنه يفحص فم فريسة، فسقطت من رءوسهم كل أوهام القداسة التى كنا قد منحناها للطغاة، وعششت فى رءوس أغلبنا، الأنظمة كلها، وبحكم طبيعتها مسكونة فى بعض خلاياها، أو فى كل خلاياها بديدان الفساد، فساد الأنظمة يتفاوت، حسب حجم الديدان، حسب عدد الديدان، وحسب المبيدات التى تستخدمها الشعوب لقتل هذه الديدان، هكذا كان نظام عبدالناصر، ديدانه منه فيه، ونظام السادات، ديدانه منه فيه, ومن الخارج أيضا, التفوق الذى حققه نظام الديكتاتور، هو أنه، وعلى مدى ثلاثين سنة، كان يسعى لتلقيحنا جميعا بديدان الفساد.
ثورة شباب
وبدأ بالجيش، لم يعد النظام فاسدا وحده، أصبحنا نحن أيضا فاسدين، مما أدى إلى طول عمر النظام، وطول عمر خضوعنا، لكن الشباب الذى تلتف سنوات عمره حول الثلاثين، كانت العدوى لم تصبه بعد، مما جعله قادرا على الهتاف بأعلى صوت: الشعب يريد إسقاط النظام، سنكون شيوخ زيف إذا لم ننتبه إلى أن الشباب هم فقط الذين قدروا على الخروج، وبلا عقيدة سياسية واحدة تجمعهم، سوى عقيدة عدم فسادهم، سنكون مراوغين إذا لم نعتبر التفاف الشعب حول الشباب، لحمايتهم، ونفاذ روح الشباب إلى أرواح المحيطين المليئة سابقا بديدان رأيناها تخرج وتسقط ميتة فوق أرض الميدان، سنكون مراوغين إذا لم نعتبرها ثورة شباب، لا يمكننا إغفال أهمية البدايات، ولا يمكننا إغفال أن الشباب هم من خلصونا من الحكمة القديمة، حكمة الرضا، فى سبيل حكمتهم المتجددة يوميا، حكمة فى الإمكان أبدع مما كان, فى الإمكان الأبدع، التى تشبه زهرة تصل ذروتها، وبمجرد أن يقطفوها، تنبت بعدها زهرة أخرى، هكذا وقف القديم يحمى الجديد، وقف الشعب يحمى شبابه، حتى شعراء الثورة، كبارا أو صغارا، جاءوا بملامح شاعر صوت, شاعر شفاهة، تفعيلة وقافية وتحريض وهتاف وحنجرة جماعية، فهذا هو ما يلائم النشيد العام، وما يلائم نسيانه فيما بعد، كل القصائد التى كتبها الشعراء أيام الثورة، كانت للاستعمال مرة واحدة، للاستعمال الفورى، القصائد كانت مناديل الثورة، مناديلها الورقية، تمسح العرق والدموع واللعاب ومياه الأنف, وهكذا، ومثلما تخلص الثوار من الحكمة القديمة، أوصلوا هذه القصائد إلى نهاياتها المحتومة ,بأن حولوها إلى مناديل، بأن استعملوها ثم ألقوها، فى الثورات يمكنك كشاعر أن تعرف لمن تكتب، يمكنك أن تختار الشكل السائد لأنه الأقدر على إيصالك للأغلبية، ولأنه جاهز وتحت الطلب، فى الثورات قد لا تفكر فى مشكلات شعرية اللغة، التى هى المشكلات الأساسية للآداب كلها، الشاعر فى الميدان، إذا راقبته، سوف تراه يتمتم: إما أن نضحى بأنفسنا من أجل الكتابة، وإما أن نضحى بالكتابة من أجل أنفسنا، وإذا راقبت الثوار, سوف تراهم يجهرون : ليس بالإمكان أن نخوض النضال إذا لم نكن مصممين على الاستيلاء على الموضع الذى نناضل من أجله، يجهرون :إن الخوف من استكمال الثورة لأطوارها المتتالية هو بالتحديد العامل الذى يجبر الأحزاب إياها ورجال الدين ورجال الأعمال وزعماء التنوير والعسكر والحائرين، يجبرهم حتى وهم يصوتون إلى جانب مديح الثورة، على الإدلاء بتصريحات رنانة، تؤيد توقيف الثورة عند هذا الطور دون تجاوزه إلى ما يليه، وعلى تعليق الآمال على اللجان والقضاة والنائب العام والمحاكمات الشكلية، يجهرون :إن هذه التصريحات الرنانة البائسة لا تستطيع طبعا أن تلغى التناقض بين الثوريين وسواهم، بين الثوريين والجيش، حتى أن رجال الأحزاب القديمة سعيا منهم وراء استمرار وجودهم، بالقوة دون الفعل، سيبحثون عن وصفات ثورية ــ تقنية، لتفادى خطرين: خطر الانخراط فى الثورة، وخطر عدم الانخراط فيها، فاصلين النضال ضد العالم القديم عن نضالهم هم من أجل استلام الحكم.
دعاة التطور التدريجى
ذكرت نفسى بأحلام الثورة، وقلت إن الثورى، هو ذلك الشخص الذى يملك المقدرة على التعرف على اللحظات الحاسمة، والفارق بين الثورى وبين كل دعاة التطور التدريجى، فيهم ثوريون قدامى,هو الفارق بين الإيمان بالقدرة على القفز فوق اللحظات المعزولة،أعنى حرق المراحل, والإيمان باستحالة القفز، فى الميدان، كان كثير من الغرباء يشهقون فى فرح: آه آه، إنه ميدان التحرير، مصر التى كانت قد ضاقت، وأصبحت فكرة محددة، عادت لتتسع وتصبح واقعا مجسدا، واقعا فاق وبغير حدود كل لفظ وكل معنى، لقد أصبحنا بلدا يلهم الآخرين كثيرا من الأحلام، إننا بلد جديد كل الجدة، قديم كل القدم، الحياة فى مصر، أصبحت الآن متعة نادرة، صديقى نادر الطويل، قال لى: طوال السنوات العشر السابقة، كنت نادما على عودتى من ألمانيا، اليوم أنا سعيد لأننى هنا، إنه من أعظم الفرص أن يتاح للمرء مشاهدة بوابات التحول فى مكان التحول، خاصة إذا كان التحول يتم وسط مجموعة من الظروف الاقتصادية والاجتماعية بالغة الغرابة، وتحت رقابة الجيش، غير المعروفة أهدافه، وغير المأمونة أيضا، وعلى أيدى شباب يؤمنون بأن حب الحياة وليس الزهد فيها هو الزيت السرى لتشحيم الثورات، مع العلم أن القتلة يهاجمون المستقبل دائما, لكن الماضى لا يموت، كان أبى الذى حمل على ظهره ستة حكام، كان يتندر ويقول لأمه: هل تذكرين هوجة عرابى؟، منذ الثمانينيات فقد أبى الاهتمام بالحاكم ، كان أبى يحب الروح المرحة الساخرة، ويظنها الروح الذكية، وكانت روح الديكتاتور مصيدة فئران، كانت أغبى من توقعات أبى, فى كل مرة تصادف أن التقيا أبى والديكتاتور على شاشة التليفزيون، فوجئت بعنق أبى يميل، كما لو أنه يستغرق فى النوم، أخيرا أصبح للديكتاتور نفع، فى ميدان التحرير، كان يمكن لأبى، لو كان حيا، أن يمسك يد ابنى ويمشى معه ويهتفان، لأبى ستة حكام، ولابنى حاكم واحد ، كثيرا ما حلم أن يرى غيره، أبى يحب الأسرار الكبيرة، الأسرار الأعمق, أحيانا كانت عينا زوجة الديكتاتور تخايلان عينى أبى، فينظر تحتهما، يبحث عن الأسرار الأعمق، قال لى أبى ذات مرة، إننى كلما دخلت عيون هذه المرأة، وجدت نفسى سائرا فى خراب لا حدود له، وأصابنى الرعب، مات أبى قبل أن يختفى الديكتاتور، مات بأحلام تشبه أحلامى وأحلام ابنى، يوم خرج الشباب إلى الميدان.
مزاج القتل
كان الديكتاتور يضحك فى سره ويقول: دعوهم، مثقفه كأنه الصدى يقول: عوهم، الديكتاتور يجلس أمام المرآة، مثقفه يجلس الجلسة ذاتها داخل المرآة، بينهما عشرون عاما، بينهما مزاجان، مزاج القتل بالسياسة ومزاج القتل بالثقافة، غير أن الفارق لم يكن ملحوظا، الديكتاتور جاء من القاع، والمثقف أيضا، الديكتاتور هو السياسى الأشد خطورة على نفسه وعلى الآخرين، والمثقف كذلك، الديكتاتور مملوء بغطرسة مهينة، والمثقف أيضا، كلاهما يخاف العودة إلى الوحل، كلاهما لم يستطع تحويل أصوله إلى تاج من عشب، ولا إلى تاج من طين، الديكتاتور أو المثقف, كأنه كابوس، كأنه حلم أراه دائما ولعلكم رأيتموه هكذا, هدى الجميلة تمر مثل فتاة استعراض , بعدها ثلاثة أو أربعة من العسكريين يدفعون الديكتاتور تجاه المنصة، الديكتاتور يلبس قميصا حريريا وسروالا أبيض، جزمته لامعة، يداه مربوطتان خلف ظهره، رأسه منكس، عيناه تحملقان فى الجماهير الغفيرة، سقط الرعب الذى كان يخيف الجماهير، وتكوم مثل الفراغ تحت أرجلهم، تبقى بعض القلق، إنهم ومنذ زمن طويل لم يروا أحد السادة واقفا هكذا مقيد اليدين، الجماهير تتبلبل، بعضهم خاف من نظرات الديكتاتور الجامدة الغبية، تذكروا أيام كانوا لا يجرؤون على النظر فى وجهه، لزمت الجماهير الصمت، الديكتاتور واقف، شفتاه مزمومتان، يحاول بقدر إمكانه أن يستعيد تسلطه عليهم، يرفض أن يقر بالهزيمة، ثلاثون سنة جعلت من الصعب تجريده من سلطاته المطلقة عليهم، أغلبهم يظن أنه سيعود، أنه سيهزمهم، الديكتاتور يلمح ظنونهم، وللحظة يتخيل أنه سيكسب الموقف، رجل محموم عيناه تبرقان، انطلق كالسهم من بين الجمهور، واندفع نحو الديكتاتور وأخذ يسبه: أيها اللص, أيها القاتل، أيها الجبان، اركع على ركبتيك، نحن لا نخافك، الجمهور فجأة وجد صوته وصاح: اركع اركع، رجال الجيش انفعلوا وأجبروا الديكتاتور على الركوع، الرجل المحموم أخذ يغنى: الجدع جدع، والجبان جبان، الجمهور غنى معه، كلهم شعروا بقوتهم الهائلة، صعد إلى المنصة طفل جميل معه زمارة، وضعها فى فم الديكتاتور، طفل آخر وضع فوق رأس الديكتاتور طرطورا بشراشيب، شابة كورت فمها ,ثم رفضت أن تبصق فى وجهه, وصرخت: أين زوجى يا كلب، رأس الديكتاتور ينخفض، امرأة حسناء وأنيقة، صعدت ونظرت إليه طويلا، ثم اشمأزت، الديكتاتور فقد كل مكانته، تكور حول نفسه، شاب رياضى أصر على أن يركله، كأنه كرة، شبان آخرون فكروا فى أن يلعبوا، وتناوبوا على ركله، الديكتاتور لم يعد ينقذه من الموت إلا رجال الجيش، لماذا يحرص رجال الجيش على إنقاذ الديكتاتور، الجمهور لا يأبه بشىء، إنه يطالب بأن يأتوا بالهانم وابنها، كأنه كابوس، كأنه حلم، عندما أفقت رأيت سعيد وحسين، اللذين ألازمهما، يحلمان الحلم ذاته، نظرت إلى البعيد، رأيت حلقة يتوسطها محمد حسنين هيكل، منذ فترة لم أسمعه، تخيلت أن أحدهم يسأله: يا أستاذ , يا أستاذ، هل نخاف من الجيش، أم نأمن الجيش؟، انصرفت قبل أن أسمع الإجابة، فكرت فى أحلام ابنى، وخشيت عليه من الإحباط، وخشيت على هيكل من التفاؤل، وخشيت على نفسى من نفسى, واستدعيت سورة مريم