«نعم .. يستحقون الخروج المهين!»
من الطبيعي أن ينضم الملايين من أفراد الشعب إلى صفوف الثورة، أي ثورة، بعد نجاحها . فهؤلاء المترددون أو الخائفون من جموع الشعب يظلون بعيدين عن المشهد، يراقبون، لكنهم في النهاية سيقررون مشاركة جموع الشعب موقفهم، الذي يبدو في النهاية وطنيا جامعا، فيما يحسب الأمر كله ضمن نجاحات الثورة في اختراق الفضاء العام والوصول إلى ما تمكن تسميته الروح الوطنية الجامعة .
الأمر لا يحتاج إلى برهان . فالمتابع لتفاصيل سير الأحداث منذ انطلاق شرارة الثورة المصرية في الخامس والعشرين من كانون الثاني ( يناير) الماضي سيكتشف أن الثورة كانت تكتسب أنصارا جددا في كل يوم يضاف إلى أيامها الثمانية عشر .
فبعد أن أطلق رئيس الوزراء الموالي لمبارك والذي ما زال في السلطة حتى كتابة هذا المقال، مقولته الأشد سخفا : «سنحول ميدان التحرير إلى ( هايد بارك) وسنرسل للمتظاهرين (البون بون) إذا أرادوا ذلك»، توالت الجموع على الميدان بشكل تجاوز الزخم المليوني الذي دعا إليه المتظاهرون، وهو الأمر الذي دفع نائب الرئيس المخلوع عمر سليمان إلى أن يصرح، بعد يومين من تصريحات رئيس الوزراء، بأن الدولة لن تسمح باستمرار التظاهر لأيام أخرى. واقع الأمر أن نائب الرئيس بل والرئيس نفسه لم يكن باستطاعة أي منهما فض التظاهرات، لأن هذا كان يعني إصدار الأمر للقوات المسلحة بالقيام بحملة قمع واسعة لا يمكن لها أن تؤتي ثمارا سوى عبر تحويل الوطن إلى بحر عميق من المذابح والدماء، ولا أظن أن كليهما: الرئيس ونائبه كانا في وضع يسمح لهما بذلك، فالقوات المسلحة كانت قد حسمت موقفها منذ اللحظات الأولى عندما سلمت بمشروعية مطالب الثورة وتعهدت، بوضوح لا يحتمل أية التباسات، أنها لم ولن تستخدم العنف ضد أفراد الشعب. كان ذلك درءا لمحاولات وضيعة ومترخصة من الطابور الخامس وعلى رأسه نجل الرئيس المخلوع للإيقاع بين الجيش والشعب .
كانت الرسائل جميعها تبعث على الكثير من الاطمئنان، وتشير إلى أن ثمة نجاحات مؤكدة في طريقها إلى الشعب المقموع، وهو الأمر الذي ساعد في ارتفاع وتيرة الاحتجاجات يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، وانضمت إلى الثورة قطاعات لم يكن في مقدرة أكثر المتفائلين توقع انضمامها .ومع ذلك يظل السؤال قائما : هل هذه القراءة تنطبق على تلك النخب التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بالنظام واستكرشت من غدق عطاياه وعملت ضد الثورة لدرجة كانت تهدد بحرب أهلية ؟!
وها هم انتهازيو المرحلة أنفسهم يعملون بجد ونشاط، ياللهول فقد باتوا بين عشية وضحاها يؤيدون الثوار.. إذن فقد نجحت الثورة، ثورة أيام العصف العظيم، هل يستطيع أحد أن يحصي الاتهامات والمؤامرات التي حاكها هؤلاء ضد الثورة نفسها قبل وبعد الخامس والعشرين من كانون الثاني ( يناير) الماضي . وهل من الأفضل أن ننشغل بهم؟ وهل يظل على الثوار تبعة احتمال الأذى قبل الثورة وبعدها؟ وإلى أي حد تكون مثاليتهم نحو دعوة مفتوحة للتسامح جزءا من أخلاق الثورة؟ وهل يمكن لنا أن نتصور هؤلاء الكتبة والإعلاميين والصحافيين وهم يئنون تحت وطأة حقائب تحمل في أحد جيوبها المقالات التي تنهج لاهثة ضد الثورة وفي جيبها الآخر مقالات تسعي لتقبيل أحذية الثورة الطالعة طلبا للغفران ؟ !
فمن يتابع الأيام الأخيرة للطاغية حسني مبارك في حكم مصر يدرك المدى المنحط الذي وصل إليه مشروع تسمين عجول المرحلة، أعني مشروع إنشاء جمهورية وراثية يترأسها الانتهازي الضال جمال مبارك .كان هؤلاء الإعلاميون والصحافيون وعدد كبير من رجال الأعمال يمثلون العنوان الأبرز لهذا المشروع، ومن ثم يفترض أن هؤلاء يتبنون الفكرة الأشد نقضا لمشروع الثورة، وعليه فإن الخطوة الأولى والمنطقية لهم عقب نجاحها، تتمثل في استقالتهم من مناصبهم، وليس من المنطقي، بطبيعة الحال، تحولهم إلي خدام للمرحلة الجديدة. هذا يعني شيئا واحدا فقط أن انتهازيي المرحلة الفائتة هم انتهازيو المرحلة القادمة، وهم بكل تأكيد ينسون أن الثورة الطالعة ليست ثورة النظام على نفسه، لكنها ثورة الشعب على النظام . هذا النظام الذي استأجرهم فكانوا جزءا من فساده ووضاعة مقاصده، وأظنهم سيبقون على دين أسيادهم، يأبون الخروج الآمن والكريم ويرفضون إلا الخروج المهين المزجج بالعار، وإن غدا لناظره قريب .
الشعب يريد إسقاط الأحزاب
لا أظن أن الشعار الأعمق والجوهري لثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني ( يناير) 'الشعب يريد إسقاط النظام 'كان يستثني الأحزاب الرسمية التي تشكل معظمها في مكاتب مباحث أمن الدولة .فمصر الآن تضم أربعة وعشرين حزبا لا يعرف المواطن عنها شيئا، بل لا يخجل بعض المتخصصين في الشأن السياسي من التصريح بأنهم لا يعرفون أسماء هذه الأحزاب ومن ثم أسماء مؤسسيها .الأمر، في ظني، ينسحب كذلك على أحزاب بدأت الحياة السياسية مع إطلاق المنابر في عام 1977 مثل الوفد والتجمع والناصري، وهي أحزاب كانت تمثل أفراس رهان، لتقليص نفوذ الحزب الحاكم وتفعيل دورها كأداة رقابية في ظل افتقاد أدوات رقابية رسمية تعمل عادة على تكريس نفوذ الفاسدين وحمايتهم، هذا بالإضافة إلي دور هذه الأحزاب في تقديم الكوادر التي كان يمكنها أن ترفد الحياة السياسية بالقادة المستقبليين .
الواقع الآن، بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على التجربة الحزبية، يؤكد أن عددا من هذه الأحزاب لا يختلف عن الأحزاب التي تشكلت في المكاتب المباحثية، ويعد حزب التجمع برئاسة رفعت السعيد أعلى تجليات هذه الظاهرة ولعل موقفه الرافض لمشاركة الحزب في البداية في ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) يبدو أعلى تجليات هذا التردي، ولم يكن غريبا على انتهازية رفعت السعيد أن يكون أول من يوافق على المشاركة في الحوار مع النظام السابق، ثم إعلانه الانسحاب من الحوار عند تيقنه أن الثورة أنجزت رسالتها وأن دولة مبارك ورجاله قد دالت عليها الدول. الموقف نفسه لا يختلف عن تواطؤ حزب الوفد مع النظام السياسي منذ رحيل مؤسسه فؤاد سراج الدين، حدث ذلك مع نعمان جمعة ومحمود أباظة ويحدث الآن مع السيد البدوي الذي دخل المفاوضات مع النظام متخليا عن المطلب الجوهري للثورة وهو رحيل النظام . الأمر يتبدى على صورة أسوأ في الحزب الناصري الذي انقسم بين موظف استطاع تكوين ميليشيات عبر عشرات السنين التي غاب فيها ضياء الدين داود الرئيس المزمن للحزب، وبين سامح عاشور الذي لا يجد عملا مناسبا بعد خروجه من انتخابات نقابة المحامين التي كان نقيبا لها .وفي كل الأحوال فإن الضعف البادي على أداء هذه الأحزاب، لا يمكنها من أداء دورها وسط الحراك الواسع الذي تشهده مصر. لذلك، يتوقع كثيرون أن شباب هذه الأحزاب سوف يقوم على إعادة صياغتها كلية، وأن هذا هو البديل الوحيد لزوالها وتلاشيها، فقانون مباشرة الحقوق السياسية المزمع تعديله ضمن التعديلات الدستورية المقترحة سيتضمن تعديلات جوهرية تسمح بإنشاء الأحزاب بمجرد الإخطار، وهو ما يعني أن الواقع السياسي سيشهد حراكا غير مسبوق خلال الأشهر القادمة وسوف تصعد إلي السطح أحزاب جديدة وأسماء كانت محرومة من حق التمثيل السياسي عشرات السنين. ساعتها لن ينفع الأحزاب التقليدية، وسوف تسقط بأيدي الشعب وبأيدي أصحابها، فمن تعاون مع النظام البائد على هذا النحو المخزي سيذهب، قطعا معه، إلي المصير نفسه، وساعتها يمكننا أن نردد 'الشعب أراد وأسقط الأحزاب '.
مصير مثقف الشعار
هل الدولة الشمولية التي كانت ترعى الثقافة باعتبارها الابن البكر لفسادها، ذهبت مع ثورتنا إلى القبر؟ وهل سيبقي انتهازيو المرحلة فى صدارة المشهد يرطنون بالخطاب القديم المعضد بواقع جديد يتنافر معه وينبذه؟
أظن أن هذه الدولة بات وجودها محل شك، وسأدفع بتفاؤلي إلى مداه وأقول إنها حتما ستزول إلى غير رجعة، بعد أن تعرَّت مؤخرات خَدَمِها بشكل مثير للضحكات، وتفاوتت القدرة على البقاء لذوي الياقات البيضاء على الكراسي الوثيرة، فمنهم من سينجح فى وضع الطلاء الجديد على بضاعته القديمة ومنهم من كسدت تجارته فبات يحلم بميتةٍ خارقة يتشبه فيها بأبطال الأساطير القديمة. ومن عجبٍ أن تحولات الخطاب السياسي العربي نحو ضجيج الإصلاح السادر بلا طحن، قدم لنا مثقفين يعيشون بين ظهرانينا مستعدون لدفع رقابهم ـ قبل شرفهم ـ ثمناً للكراسي التي يجلسون عليها، مستخدمين فى ذلك أحط الوسائل للدفاع الباسل عن هذه الأعطيات. وقد شهدنا في السنوات الماضية أهم وسائل هذا الدفاع مقرونة دائماً بنسبة كل منجز إلى المالك الأوحد للشعار السياسي. وليس علينا أن نضحك عندما نجد موظفاً صغيراً، يقف حديثاُ على سلم النفاق، ليرد الفضل فى إصلاح بالوعة مجاري إلى تعليمات السيد الرئيس !! لأننا سنجد المثقف 'العضوي '، أقصد من كان يقدم نفسه على أنه كذلك، يقف فى كل المناسبات الرسمية وغير الرسمية ليعيد الفضل في نشأة كرشه المتدلي أمامه إلى الأَنْعُمِ والخيرات التي تفيض بها السلطة السياسية.
والحقيقة تقتضي الإشارة إلى الاختلاف الكمي والنوعي فى سعي السياسي نحو شراء ذمة الثقافة ومنتجيها. وعبر ما يربو على خمسين عاماً تراوحت فواتير الشراء صعوداً وهبوطاً، وانتهت الدولة فى تجليها 'السيسو ثقافي' إلى قناعات يندى لها الجبين، بحيث باتت منحة التفرغ لمثقف معوز لمدة عام واحد كافية لشراء ذمته دهراً بأكمله، وبات طبع الكتاب فضلاً يجب أن يدفع الكاتب ثمنه باهظاً حتى لو كان هذا الثمن يخصم ما تبقى لديه من احترامه لذاته. إن المسافة بين مسدس 'غوبلز' والعقل السياسي العربي تبدو في أقصى درجات تقاربها وتلاحمها، فقصة وزير الدعاية النازية مع الثقافة - على شيوعها - لم تفقد دراميتها ومأساويتها أيضاً، في الوقت نفسه لم يستطع السياسي العربي الذي يملك السلطة، أن يشحذ عقله، لكي يستوعب العديد من التغيرات النوعية، التي أنجزت أفكاراً ومشاريع وقوى سياسية دولية جديدة، وليس غريباً أمام هذا الوعي الأعمى، أن تتحدث السلطات العربية عن كل مناحي الإصلاح وحتميته بل وتخطو نحوه بعض الخطى الشكلية المتعثرة، لكن ثمة إرادة حديدية قابضة على منابع الثقافة والمعرفة، لئلا يتشكل العقل العام خارج مفهوم السلطة عن نفسها، وكأن تحديث الدولة يعني كل شيء عدا تحديث نظام الحكم نفسه، وكأن العقد الاجتماعي المكتظ بالغبن، والمبرم من طرف واحد غالباً، هو قدر الشعب العربي في كافة الأصقاع، ودائماً ما يجد النظام السياسي ما يبرر به هذه الديماغوجيا، فمن وجهة نظره يبدو التحديث في معظم وجوهه نقيض الاستقرار، والديمقراطية تعني مزيداً من الفوضى، ويصبح رفض جائزة ذات طابع سياسي رديفاً لقلة الأدب وانعدام التربية. هذا ما قاله بالفعل كثيرون من مثقفي النظام عبر أكثر من أربعين سنة غلب فيها الشعار السياسي على منهج التفكير الحر الذي كان عنوانا فارغا لم يؤد سوى إلى تكريس النظام البوليسي .
وأغلب الظن أن الثورة المصرية ستدفع كثيرين ممن ترهل لحم أكتافهم بفضل خيرات النظام إلى محارق مختلفة، لا بأس، فعلى الجميع أن يدفع ثمن فعلته،فلم تعد أكاذيب هؤلاء تنطلي على أحد .