آلية الدفع الذاتي في الثقافة العربية
في السنوات الأخيرة يجري الحديث، مرة عن أزمة على صعيد الإبداع العربي وحركة النشر، وأخرى عن العلاقة بين المثقف والسلطة، وفي مجال آخر يصار إلى الحديث حول تقدم الشعر أو تراجعه مقارنة بتفاقم سطوة الرواية وما شابه ذلك. لكن نادرا ما نتحدث بجدية عن تردي الذوق العام في البلدان العربية، وتفشي الأمية في المجتمعات العربية، وعلى الخصوص وسط المثقفين أنفسهم (وهذه لعمري هي الطامة الكبرى!)، والتراجع المريع للنقد عن أداء مهامه وواجباته في الحياة الثقافية والفكرية عموما، وتفاقم الإخوانيات في التعريف بهذا وحجب ذاك من الشعراء والكتاب والفنانين والصحافيين، وأخيرا وليس آخرا، شيوع نمط جديد من الارتزاق خلق ويخلق نوعا من التسطيح والتعمية وسط القراء. يتراءى لي أن خفوت الدور الحيوي للنقد في البلدان العربية مقارنة، على سبيل المثال، بدوره في الفترة ما بين ثلاثينات القرن الماضي والثمانينات منه في رصد ومتابعة وتحليل مسيرة الإبداع باللغة العربية، يعود إلى التسطيح الذي نشهده في حياتنا الثقافية من جهة وإلى صعوبة ممارسة هذا الحقل الذي يتطلب وقتا واستعدادا منهجيا وفكريا ولغويا للقيام به من جهة ثانية، ناهيك عن سكونية الحركة الفكرية عربيا وضحالة الدعم المقدم لها في البلدان العربية، وكساد تشرذم النظم العربية السائدة. بحيث بات صعبا علينا، بما فيهم نحن المختصين بشئون الثقافة، أن نتذكر بسرعة وبدون تردد اسم هذا الناقد وذاك، كما كانت عليه الحال سابقا. كانت أسماء كالعقاد والمازني وطه حسين ومحمد مندور والنويهي ولويس عوض ومصطفى اسماعيل ومحمود أمين العالم ورجاء النقاش وعلي الراعي وفيما بعد جابر عصفور وصبري حافظ ومحمد دكروب ويمنى العيد ومحمد مبارك وحاتم الصكر وسعيد الغانمي وسواهم، أقول: كان هؤلاء النقاد (وما يزال عدد محدود للغاية منهم) حاضرا في الساحة من خلال ممارستهم النقدية، وبالتالي أصبح لكتاباتهم وقع ورنين، بغض النظر عن مستوى ما طرحوه. أما الآن فمن الصعب علينا ملاحظة أسماء جديدة ذات فاعلية وحماسة نقدية. ما هو سائد اليوم على هذا الصعيد هو النقد الصحفي السريع. كانت المرحلة السابقة رغم تعاسة ظروفها ملحوظة أكثر من الحالية، والحماس أشد لدى المثقفين من الحاليين. لكن، ما كان متوفرا من أجواء ومناهج لم يعد صالحا دون شك لردم الهوة السحيقة في الثقافة العربية المعاصرة الكائنة بينها وبين الثقافات الأخرى. وعليه فمن أجل تقدم وتطور الحركة الفكرية العربية ينبغي تحديث طرق وأساليب الدراسات الإنسانية عموما، خصوصا الفلسفية، السوسيولوجية، النفسية، اللغوية والأدبية، بما فيها الدراسات المقارنة الحديثة. المناهج السائدة لا تتيح لمثل هذا الحلم أن يتحقق. غير أن ضعف الحركة المعرفية والنقدية بالذات لا يعني تخلي المبدعين عن أداء دورهم في كتابة الشعر والقصة والرواية والفنون التشكيلية والموسيقية والسينمائية والمسرحية. فالإبداع سابق وله سمة البَداهة مقارنة بالممارسة النقدية. من الملاحظ أن حجم ونوعية الكتابات في الحقول المار ذكرها آنفا قد ازدات كما ونوعا، على أنني أضع الكم في المقام الأول. لأن الكيف ما يزال محدودا. النوعية تحتاج إلى موهبة وعمق وتأنٍّ. من جانب آخر، لا أرى أن الشعر قد تراجع من حيث الكمية والنوعية. لكن الذي تراجع هو نشر الشعر ورقيا بحجة قلة الإقبال عليه وبالتالي فقلة البيع تقود إلى خسارة الناشر، وهذه قضية بديهية. من الملاحظ على الصعيد العالمي أنه لا توجد دار نشر أدبية تحترم نفسها تخلو من نشر الشعر. فنشر الشعر تغطيه مطبوعات أخرى(في حالة بوار بضاعته) ذات مردود مالي أوفر حظا من الشعر في مجال التسويق. فمثلا، حينما يبيع العرب النفط ليشتروا الدقيق والمواد الغذائية والألكترونية، لا يعني أن النفط في جوهره أهم من تغذية الناس! على أن قلة شراء الدواوين الشعرية لا يعني إطلاقا كساد الشعر وفقره. قراء الشعر محدودون في كل زمان ومكان. حتى أن ديوان "أزهار الشر" (1857) لبودلير الغني عن التعريف والذي طبع منه حينئذ خمسمائة نسخة يقال إنه قد عثر في التسعينات من القرن المنصرم على بعض النسخ غير المباعة منه في إحدى المكتبات الفرنسية! الناس تفضل سماع القصيدة أكثر من شرائها ومن ثم قراءتها. فالتراجع الحاصل في شراء الدواوين الشعرية، لا يعني البتة تقهقر المستوى الشعري، إنما يؤول في أحد أسبابه إلى تردي الذائقة الشعرية أو إلى التحول الحرج الذي تشهده تلك الذائقة في البلدان العربية. على أن كل هذا لا يعني أيضا أن الكتابات الجديدة ذات طبيعة اختراقية وبسالة إبداعية، بل نشاهد كمّاً من الشعر ينبغي رميه في أقرب مزبلة. في هذا المقام، لا بد من الإشارة إلى تراجع دور النقد في التعريف بالتجارب الشعرية المتميزة بحيث اختلط الحابل بالنابل. كان الشعر إلى حد قريب، حتى موت أوهجرة أو أفول نجم غالبية الشعراء المعروفين المهيمنين، سيد المهرجانات والندوات، والسائد في الصحف والمجلات. ويعود ذلك إلى أسباب من بين أهمها نذكر ما يلي: شهدت الساحة العربية ثقافيا وسياسيا حراكا وصراعا متشعب المشارب على مدى قرن كامل على أقل تقدير كان بحاجة إلى الشعر وسحره ووقع إرثه الموغل في أعماق العقل والمخيلة العربيتين، لدعم الجهود في مجالات التحرر وشحد همم"الجماهير" ودعم القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، الأمر الذي ساهم من جهة أخرى في دعم وترسيخ الكثير من الأنظمة العربية الجامدة التقليدية القائمة حاليا ـ تلك التي كان ينظر إلى قسم منها سابقا على أنها "وطنية" أو "منقذة"! طالما أننا مازلنا في مدار الأسباب، نقول: كان الشعر العربي الكلاسيكي منه وشعر التفعيلة قريبا من الإيقاع الذي تعودت عليه وألفته الأذن العربية بحيث سمح لممثلي هذين الشكلين أن يصلا إلى المتلقي أسرع من شعر بقية ممثلي حركة التحديث الشعرية، خصوصا، تجارب "قصيدة النثر". لأن الشكل الأخير ما يزال في طور الكينونة وهو قبل كل شيء مشروع قراءة لا إلقاء بالنسبة لوسط عربي تحكمه إلى حد كبير سلطة الأمية وعقلية الفتاوي. لذا نرى أن القصيدة التقليدية، رغم تقليدية وقردية معظم نماذجها المطروحة في السوق في العقود الثلاثة الأخيرة، ما تزال مسموعة أكثر بفضل آلية الموروث المهيمنة. يضاف إلى ذلك ما نلمسه من تدني مستوى قسط غير يسير من قصائد "التفعيلة" و"قصائد النثر" الأمر الذي يجعلها من حيث التأثير والفاعلية خارج نطاق المروجين لها ومتبنيها محدودا. هذا الارتباك المدعوم بفساد المؤسسات الثقافية الرسمية وسكونيتها يجعل البعض يظن أن الشعر تراجع. الشعر، في واقع الحال، لم يتراجع كثيرا كما يخيل للبعض، إنما دخل في معمعة القراءة أكثر منه حاضرا في حيز المنابر والسماع، كما أن نماذجه المبدعة المشاكسة المارقة الحقيقية المعبرة ما تزال بعيدة عن متناول غالبية المتلقين، رغم اتساع نطاق الاستفادة من الإنترنت. وعليه فحينما نضع الشعر في منافسة مع القصة والرواية على صعيد عدد القراء سنرى أنه يقف في الصف الأخير وحينئذ ينظر إليه على أنه في تقهقر. الشيء الذي لا يقبل الشك هو أن الشعر الفصيح كان وسيبقى فنا نخبويا. والدليل على ذلك أن دواوين شعرية لشعراء حائزين على جائزة نوبل في الأدب من غير العرب، من قبيل شيمبورسكا وميلوش وشيموس هيني وسواهم، لم يتمكن ناشروها من تصريف أكثر من مائتي ألف نسخة من أهم دواوينهم لحد الآن، بينما بيعت روايات ماركيز بالملايين. وتباع كتب كاتب متوسط الإبداع مثل كويهلو بملايين النسخ وكذا الحال بالنسبة للكتابات البوليسية والرومانسية. نعم، هناك حركة شعرية عميقة ذات طاقات متفاوتة الحجم والهم والمسعى تحاول بجدية وثابة لا سكونية أن تخلق تجربتها الشعرية المستجيبة لمنطق العصر المتجاوزة كيفا لما سبقها، والتي يعمل ممثلوها بجدية على الجوانب التقنوية والشكلية واللغوية والرؤيوية، نلحظها لدى مجموعة من الشعراء، في كل من المغرب والعراق ومصر وسوريا ولبنان وتونس وفلسطين والأردن ودول الخليج وكذلك في نتاج الشعراء المغتربين. نلمس تلاقحا مباشرا وغير مباشر بين التجارب الشعرية العربية والأجنبية (يعود الفضل في ذلك بالدرجة الأولى إلى دور الشعراء والكتاب الناطقين بالعربية في المهجر)، حتى أخذ ذلك يشكل ظاهرة لم نعهدها قبل ربع القرن الأخير بهذا الحجم والحيوية. وهذا بحد ذاته مؤشر إلى حد ما على أن الأشعار العربية المشار إليها تتمتع بطزاجة وحيوية تفتقد إليهما القصيدة التقليدية. يشتغل أصحاب هذه التجارب على هندسة النص الشعري ومعماريته شكلا ومضمونا. بالقدر الذي ينفتحون فيه على التجارب الأجنبية الحديثة تراهم يبتعدون عن التجارب المحلية التقليدية. لقد تغيرت ذائقة الشعراء الجدد قبل غيرهم بحيث باتوا يشكلون سندا للحركة الشعرية الجديدة على صعيد القراءة. تبدو الأمور على صعيد القصة والرواية أكثر وضوحا لنا بسبب إمكانية رصدها. لأنه من غير المنطقي الحديث عن وجود رواية وقصة بدون أن تكون منشورة. فأنت غرزاء عمل بقضه وقضيضه. ازداد عدد الأعمال القصصية المنشورة باللغة العربية في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ حقا. لقد رفدته المرأة بعدد لا بأس فيه من الأعمال القصصية والروائية. وهذا التنوع لم يكنْ موجودا من قبل بهذا القدر. دخلت المرأة العربية هذا الميدان مثيرة زوبعة من المباركة والتذمر على حد سواء. الرواية العربية، في العقود الثلاثة الأخيرة، أعمق وأهم منها في الفترات السابقة. ثمة جهد واضح لدى مجموعة من الروائيين العرب المعاصرين لكتابة رواية ذات ملامح عربية، بحيث أصبحنا ننسى أن هذه الرواية قصيرة العهد في الثقافة العربية. هناك أسماء ليست قليلة في الساحة من مختلف البلدان العربية أثبتت أنها قادرة على كتابة قصص وروايات تستحق القراءة. على أن ما نلحظه هو سيادة الرواية الاجتماعية والسياسية وأخيرا قصص الحب والإيروتيكا، يقابلها قلة الاهتمام بالرواية السايكولوجية وروايات الخيال العلمي والرواية التي تغور في الواقع العربي المريض وتسبر أغواره ومتناقضاته، وتدخل في تشابكات ومتاهات مدنه بعمق وجاذبية. يضاف إلى ذلك غياب الرواية التي ترصد حياة الشباب ومشاكلهم ومعاناتهم وتطلعاتهم. ثمة أيضا عزوف عن كتابة رواية الريف والمجتمع الزراعي. حينما أذكر النواقص لا يعني ذلك عدم وجود روايات محدودة الحجم والتأثير تناولت هذه الثيمات. لأن هذه المحدودية لا تخلق تأثيرا ولا تيارا واضح المعالم. قد تكون الفنون التشكيلية، وفي مقدمتها الرسم، من بين أكثر الفنون العربية البصرية بروزا وتطورا. لم تحظ الحركة التشكيلية العربية بمن يتابعها، لذا فحظها من النقد والتعريف محدود قياسا بالنقد الأدبي. ثمة نقص ملحوظ في المطبوعات الفنية المتخصصة. وكمعظم ما نسمع به هنا وهناك من معارض ونشاطات يعود في المقام الأول إلى جهود الفنانين أنفسهم. إضافة إلى ذلك لا توجد ظاهرة اقتناء اللوحات كما هو الحال في الغرب من قبل الفراد والمؤسسات. الحركة السينمائية والموسيقية العربية ما تزال محدودة الانتشار والفاعلية. وإلا فأين الفرقُ الموسيقية الحقيقية، وأين دور الموسيقى وعازفوها؟ حينما نسمع في الغرب عن أسماء موسيقية لامعة ومتميزة في مجال العزف على البيانو والقيثار والكمنجة والآلات الأخرى وعن قائد الأوركسترا هذا وذاك، لا نسمع على الصعيد العربي إلا عن أسماء عازفي العود. بعضهم متميز وموهوب فعلا، لكنهم يمثلون نمطا واحدا وآلة واحدة وهو إبداع ومجهود فرديان بامتياز. أين هي، على سبيل المثال، الفرق القومية للرقص والفولكلور كالفرقة القومية المصرية والعراقية للفنون الشعبية سابقا؟ المسرح العربي رغم جدية بعض فرقه ومخرجيه ومحاولات فنانيه المتفانية للنهوض بمستواهم إلا أنه في تقهقر وسكونية لا يحسد عليها. كيف يمكن للمسرح العربي أن يتطور في ظل غياب الدعم الرسمي وانعدام الحريات والمباني. لم تعد الرقابة الرسمية وحدها العائق المهول، فقد دخلت إلى الساحة بتفويض "إلهي" مفتعل الرقابة الدينية وكذلك رقابة المجتمع. لا يمكن للمسرح العربي أن يتطور بدون مؤسسات تحتضنه ومسارح ثابتة تمارس فيها طقوسه، دون ريبرتوار وخطط مسبقة. لا يمكن الحديث حاليا عن حركة مسرحية عربية فاعلة جماهيريا في ظل غياب إمكانية تنقل الفرق المسرحية والفنانين والنقاد بين البلدان العربية أوالسفر إلى الخارج. لقد فعل الإرهاب فعلته في خلق معوقات أمام سفر الكثيرين إلى بلدان العالم ذات التجارب المسرحية العريقة والمتطورة من أجل رصد حركة المسرح عالميا والاستفادة من تجاربها المؤثرة. نعم، هناك حراك ثقافي وإبداعي بالعربية، وهناك تجارب جديدة لا تظهر بحجمها الحقيقي بسبب قلة الاهتمام بها. لو قامت الدول العربية بالعمل على الصعيدين الثقافي والعلمي مثلما تفعل دولة صغيرة مثل الإمارات العربية المتحدة لأصبح بإمكاننا الحديث عن رؤية أكثر ملموسية وفاعلية للثقافة العربية. ولو قام النقد بإنجاز جزء من العبء المهني والأخلاقي المنوط به لكانت صورة الإبداع العربي أكثر وضوحا وتأثيرا في محيطها، ولو عملت مواقع الإنترنت الأخرى مثلما تعمل مواقع: مجلة" الكلمة" و"جهة الشعر" و"إيلاف" و"كيكا" وسواها(رغم ملاحظاتنا الشخصية النقدية على أداء معظمها) بهذه الاندفاعة والتخصص والجدية لعوضنا جزئيا عن النقص البين اليوم في عدد المجلات والجرائد الأدبية والفنية والعلمية المتخصصة ولأصبح واقع الحال أفضل بكثير مما هو عليه الآن. على مواقع الانترنت أن تخضع هي بدورها لمعيار الجودة وأن تبتعد عن الإخوانيات (وأسلوب ـ أدهنْ لي وأدهن لك) التي عاثت فسادا في جسد الثقافة العربية المعاصرة التي تعاني من مشاكل جمة. ختاما، بودي تسليط الضوء على خلل آخر في الحياة الثقافية العربية ألا وهو شحة المجهود الفكري ـ الفلسفي العربي الحديث الذي لا يمكن لأية نهضة حقيقية بدونه أن تقوم أو أن تترسخ أركانها، ثم غياب تواصل التجارب (بغض النظر عن طبيعتها) والتنسيق فيما بينها، أقصد الضعف المريع في عملية الممارسة ذات الطبيعة التواصلية التنافذية. فسرعان ما تختفي عن الأنظار التجربة الفلانية الجادة بسبب عزوف أو عجز أو موت صاحبها أو الجهة القيمة عليها. يحصل ذلك بوضوح أشد على صعيد النقد والمسرح والسينما التي تفتقد بدورها إلى الدعم الرسمي العربي أو المؤسساتي وبالتالي فهي فقيرة التأثير، قياسا بغزو المسلسلات التلفزيونية الكاسح. على أنني لاحظت في السنوات الأخيرة تراجع دور الفيلم المصري والمسلسلات التلفزيونية المصرية على وجه الخصوص إزاء الدور المتنامي للمسلسلات السورية. أعتقد، أن هذا الأمر صحي إلى حد ما. لأنه يعكس حالة من الحراك والمنافسة في الساحة الثقافية العربية من جهة وتغيرا في الذائقة الفنية والفكرية لدى المشاهد. هذا الأمر نشهده على صعيد تعدد مصادر ومراكز ممارسة الإبداع الروائي والقصصي والشعري، ويشمل ذلك حركة النشر والترجمة كذلك. بحيث لم تعد هذه الدولة العربية أو تلك مهيمنة على كمية ونوعية الانتاج الثقافي والنشري. من المؤسي حقا، هو أن ما ينشر من كتب ومجلات في البلدان العربية ما يزال ضئيلا في كمه وكيفه وجاذبيته. الشيء الذي يقلقني اليوم أيضا، هو تخوفي من انتشار عدوى التشرذم والتخندق الفئوي والطائفي المتفشي في جسد النظام العربي المهتريء إلى الوسطين الثقافي والعلمي،. الذي لولاهما ولولا انتشار اللغة العربية لقرأنا سورة الفاتحة على ما يمكن أن ندعوه بالثقافة العربية! فهل يعني ذلك وجود حركة ثقافية عربية، بغض النظر عن هناتها وقلة سمنها والتحديات التي تواجهها، وأنها أخذت تعمل ذاتيا إلى حد ما؟ كل ثقافة حية تخلق آليتها، موتورها الذي يدفعها إلى أمام. بدون ذلك تظل الثقافة اسيرة الأهواء والمطامع. حينما تبلغ الثقافة العربية (ربما الثقافات العربية!!) مرحلة العمل الذاتي الخلاق، التواصلي ـ التنافذي والتولدي، رغم الكوابح العديدة، سنكون أكثر اطمئنانا على مستقبلها مما نحن عليه الآن. شاعر ومترجم وأكاديمي عراقي يقيم في وارسو
في السنوات الأخيرة يجري الحديث، مرة عن أزمة على صعيد الإبداع العربي وحركة النشر، وأخرى عن العلاقة بين المثقف والسلطة، وفي مجال آخر يصار إلى الحديث حول تقدم الشعر أو تراجعه مقارنة بتفاقم سطوة الرواية وما شابه ذلك. لكن نادرا ما نتحدث بجدية عن تردي الذوق العام في البلدان العربية، وتفشي الأمية في المجتمعات العربية، وعلى الخصوص وسط المثقفين أنفسهم (وهذه لعمري هي الطامة الكبرى!)، والتراجع المريع للنقد عن أداء مهامه وواجباته في الحياة الثقافية والفكرية عموما، وتفاقم الإخوانيات في التعريف بهذا وحجب ذاك من الشعراء والكتاب والفنانين والصحافيين، وأخيرا وليس آخرا، شيوع نمط جديد من الارتزاق خلق ويخلق نوعا من التسطيح والتعمية وسط القراء. يتراءى لي أن خفوت الدور الحيوي للنقد في البلدان العربية مقارنة، على سبيل المثال، بدوره في الفترة ما بين ثلاثينات القرن الماضي والثمانينات منه في رصد ومتابعة وتحليل مسيرة الإبداع باللغة العربية، يعود إلى التسطيح الذي نشهده في حياتنا الثقافية من جهة وإلى صعوبة ممارسة هذا الحقل الذي يتطلب وقتا واستعدادا منهجيا وفكريا ولغويا للقيام به من جهة ثانية، ناهيك عن سكونية الحركة الفكرية عربيا وضحالة الدعم المقدم لها في البلدان العربية، وكساد تشرذم النظم العربية السائدة. بحيث بات صعبا علينا، بما فيهم نحن المختصين بشئون الثقافة، أن نتذكر بسرعة وبدون تردد اسم هذا الناقد وذاك، كما كانت عليه الحال سابقا.
كانت أسماء كالعقاد والمازني وطه حسين ومحمد مندور والنويهي ولويس عوض ومصطفى اسماعيل ومحمود أمين العالم ورجاء النقاش وعلي الراعي وفيما بعد جابر عصفور وصبري حافظ ومحمد دكروب ويمنى العيد ومحمد مبارك وحاتم الصكر وسعيد الغانمي وسواهم، أقول: كان هؤلاء النقاد (وما يزال عدد محدود للغاية منهم) حاضرا في الساحة من خلال ممارستهم النقدية، وبالتالي أصبح لكتاباتهم وقع ورنين، بغض النظر عن مستوى ما طرحوه. أما الآن فمن الصعب علينا ملاحظة أسماء جديدة ذات فاعلية وحماسة نقدية. ما هو سائد اليوم على هذا الصعيد هو النقد الصحفي السريع. كانت المرحلة السابقة رغم تعاسة ظروفها ملحوظة أكثر من الحالية، والحماس أشد لدى المثقفين من الحاليين. لكن، ما كان متوفرا من أجواء ومناهج لم يعد صالحا دون شك لردم الهوة السحيقة في الثقافة العربية المعاصرة الكائنة بينها وبين الثقافات الأخرى. وعليه فمن أجل تقدم وتطور الحركة الفكرية العربية ينبغي تحديث طرق وأساليب الدراسات الإنسانية عموما، خصوصا الفلسفية، السوسيولوجية، النفسية، اللغوية والأدبية، بما فيها الدراسات المقارنة الحديثة. المناهج السائدة لا تتيح لمثل هذا الحلم أن يتحقق.
غير أن ضعف الحركة المعرفية والنقدية بالذات لا يعني تخلي المبدعين عن أداء دورهم في كتابة الشعر والقصة والرواية والفنون التشكيلية والموسيقية والسينمائية والمسرحية. فالإبداع سابق وله سمة البَداهة مقارنة بالممارسة النقدية. من الملاحظ أن حجم ونوعية الكتابات في الحقول المار ذكرها آنفا قد ازدات كما ونوعا، على أنني أضع الكم في المقام الأول. لأن الكيف ما يزال محدودا. النوعية تحتاج إلى موهبة وعمق وتأنٍّ. من جانب آخر، لا أرى أن الشعر قد تراجع من حيث الكمية والنوعية. لكن الذي تراجع هو نشر الشعر ورقيا بحجة قلة الإقبال عليه وبالتالي فقلة البيع تقود إلى خسارة الناشر، وهذه قضية بديهية. من الملاحظ على الصعيد العالمي أنه لا توجد دار نشر أدبية تحترم نفسها تخلو من نشر الشعر. فنشر الشعر تغطيه مطبوعات أخرى(في حالة بوار بضاعته) ذات مردود مالي أوفر حظا من الشعر في مجال التسويق. فمثلا، حينما يبيع العرب النفط ليشتروا الدقيق والمواد الغذائية والألكترونية، لا يعني أن النفط في جوهره أهم من تغذية الناس! على أن قلة شراء الدواوين الشعرية لا يعني إطلاقا كساد الشعر وفقره. قراء الشعر محدودون في كل زمان ومكان. حتى أن ديوان "أزهار الشر" (1857) لبودلير الغني عن التعريف والذي طبع منه حينئذ خمسمائة نسخة يقال إنه قد عثر في التسعينات من القرن المنصرم على بعض النسخ غير المباعة منه في إحدى المكتبات الفرنسية! الناس تفضل سماع القصيدة أكثر من شرائها ومن ثم قراءتها. فالتراجع الحاصل في شراء الدواوين الشعرية، لا يعني البتة تقهقر المستوى الشعري، إنما يؤول في أحد أسبابه إلى تردي الذائقة الشعرية أو إلى التحول الحرج الذي تشهده تلك الذائقة في البلدان العربية. على أن كل هذا لا يعني أيضا أن الكتابات الجديدة ذات طبيعة اختراقية وبسالة إبداعية، بل نشاهد كمّاً من الشعر ينبغي رميه في أقرب مزبلة. في هذا المقام، لا بد من الإشارة إلى تراجع دور النقد في التعريف بالتجارب الشعرية المتميزة بحيث اختلط الحابل بالنابل.
كان الشعر إلى حد قريب، حتى موت أوهجرة أو أفول نجم غالبية الشعراء المعروفين المهيمنين، سيد المهرجانات والندوات، والسائد في الصحف والمجلات. ويعود ذلك إلى أسباب من بين أهمها نذكر ما يلي: شهدت الساحة العربية ثقافيا وسياسيا حراكا وصراعا متشعب المشارب على مدى قرن كامل على أقل تقدير كان بحاجة إلى الشعر وسحره ووقع إرثه الموغل في أعماق العقل والمخيلة العربيتين، لدعم الجهود في مجالات التحرر وشحد همم"الجماهير" ودعم القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، الأمر الذي ساهم من جهة أخرى في دعم وترسيخ الكثير من الأنظمة العربية الجامدة التقليدية القائمة حاليا ـ تلك التي كان ينظر إلى قسم منها سابقا على أنها "وطنية" أو "منقذة"! طالما أننا مازلنا في مدار الأسباب، نقول: كان الشعر العربي الكلاسيكي منه وشعر التفعيلة قريبا من الإيقاع الذي تعودت عليه وألفته الأذن العربية بحيث سمح لممثلي هذين الشكلين أن يصلا إلى المتلقي أسرع من شعر بقية ممثلي حركة التحديث الشعرية، خصوصا، تجارب "قصيدة النثر". لأن الشكل الأخير ما يزال في طور الكينونة وهو قبل كل شيء مشروع قراءة لا إلقاء بالنسبة لوسط عربي تحكمه إلى حد كبير سلطة الأمية وعقلية الفتاوي. لذا نرى أن القصيدة التقليدية، رغم تقليدية وقردية معظم نماذجها المطروحة في السوق في العقود الثلاثة الأخيرة، ما تزال مسموعة أكثر بفضل آلية الموروث المهيمنة. يضاف إلى ذلك ما نلمسه من تدني مستوى قسط غير يسير من قصائد "التفعيلة" و"قصائد النثر" الأمر الذي يجعلها من حيث التأثير والفاعلية خارج نطاق المروجين لها ومتبنيها محدودا. هذا الارتباك المدعوم بفساد المؤسسات الثقافية الرسمية وسكونيتها يجعل البعض يظن أن الشعر تراجع. الشعر، في واقع الحال، لم يتراجع كثيرا كما يخيل للبعض، إنما دخل في معمعة القراءة أكثر منه حاضرا في حيز المنابر والسماع، كما أن نماذجه المبدعة المشاكسة المارقة الحقيقية المعبرة ما تزال بعيدة عن متناول غالبية المتلقين، رغم اتساع نطاق الاستفادة من الإنترنت.
وعليه فحينما نضع الشعر في منافسة مع القصة والرواية على صعيد عدد القراء سنرى أنه يقف في الصف الأخير وحينئذ ينظر إليه على أنه في تقهقر. الشيء الذي لا يقبل الشك هو أن الشعر الفصيح كان وسيبقى فنا نخبويا. والدليل على ذلك أن دواوين شعرية لشعراء حائزين على جائزة نوبل في الأدب من غير العرب، من قبيل شيمبورسكا وميلوش وشيموس هيني وسواهم، لم يتمكن ناشروها من تصريف أكثر من مائتي ألف نسخة من أهم دواوينهم لحد الآن، بينما بيعت روايات ماركيز بالملايين. وتباع كتب كاتب متوسط الإبداع مثل كويهلو بملايين النسخ وكذا الحال بالنسبة للكتابات البوليسية والرومانسية.
نعم، هناك حركة شعرية عميقة ذات طاقات متفاوتة الحجم والهم والمسعى تحاول بجدية وثابة لا سكونية أن تخلق تجربتها الشعرية المستجيبة لمنطق العصر المتجاوزة كيفا لما سبقها، والتي يعمل ممثلوها بجدية على الجوانب التقنوية والشكلية واللغوية والرؤيوية، نلحظها لدى مجموعة من الشعراء، في كل من المغرب والعراق ومصر وسوريا ولبنان وتونس وفلسطين والأردن ودول الخليج وكذلك في نتاج الشعراء المغتربين. نلمس تلاقحا مباشرا وغير مباشر بين التجارب الشعرية العربية والأجنبية (يعود الفضل في ذلك بالدرجة الأولى إلى دور الشعراء والكتاب الناطقين بالعربية في المهجر)، حتى أخذ ذلك يشكل ظاهرة لم نعهدها قبل ربع القرن الأخير بهذا الحجم والحيوية. وهذا بحد ذاته مؤشر إلى حد ما على أن الأشعار العربية المشار إليها تتمتع بطزاجة وحيوية تفتقد إليهما القصيدة التقليدية. يشتغل أصحاب هذه التجارب على هندسة النص الشعري ومعماريته شكلا ومضمونا. بالقدر الذي ينفتحون فيه على التجارب الأجنبية الحديثة تراهم يبتعدون عن التجارب المحلية التقليدية. لقد تغيرت ذائقة الشعراء الجدد قبل غيرهم بحيث باتوا يشكلون سندا للحركة الشعرية الجديدة على صعيد القراءة.
تبدو الأمور على صعيد القصة والرواية أكثر وضوحا لنا بسبب إمكانية رصدها. لأنه من غير المنطقي الحديث عن وجود رواية وقصة بدون أن تكون منشورة. فأنت غرزاء عمل بقضه وقضيضه. ازداد عدد الأعمال القصصية المنشورة باللغة العربية في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ حقا. لقد رفدته المرأة بعدد لا بأس فيه من الأعمال القصصية والروائية. وهذا التنوع لم يكنْ موجودا من قبل بهذا القدر. دخلت المرأة العربية هذا الميدان مثيرة زوبعة من المباركة والتذمر على حد سواء. الرواية العربية، في العقود الثلاثة الأخيرة، أعمق وأهم منها في الفترات السابقة. ثمة جهد واضح لدى مجموعة من الروائيين العرب المعاصرين لكتابة رواية ذات ملامح عربية، بحيث أصبحنا ننسى أن هذه الرواية قصيرة العهد في الثقافة العربية. هناك أسماء ليست قليلة في الساحة من مختلف البلدان العربية أثبتت أنها قادرة على كتابة قصص وروايات تستحق القراءة. على أن ما نلحظه هو سيادة الرواية الاجتماعية والسياسية وأخيرا قصص الحب والإيروتيكا، يقابلها قلة الاهتمام بالرواية السايكولوجية وروايات الخيال العلمي والرواية التي تغور في الواقع العربي المريض وتسبر أغواره ومتناقضاته، وتدخل في تشابكات ومتاهات مدنه بعمق وجاذبية. يضاف إلى ذلك غياب الرواية التي ترصد حياة الشباب ومشاكلهم ومعاناتهم وتطلعاتهم. ثمة أيضا عزوف عن كتابة رواية الريف والمجتمع الزراعي. حينما أذكر النواقص لا يعني ذلك عدم وجود روايات محدودة الحجم والتأثير تناولت هذه الثيمات. لأن هذه المحدودية لا تخلق تأثيرا ولا تيارا واضح المعالم.
قد تكون الفنون التشكيلية، وفي مقدمتها الرسم، من بين أكثر الفنون العربية البصرية بروزا وتطورا. لم تحظ الحركة التشكيلية العربية بمن يتابعها، لذا فحظها من النقد والتعريف محدود قياسا بالنقد الأدبي. ثمة نقص ملحوظ في المطبوعات الفنية المتخصصة. وكمعظم ما نسمع به هنا وهناك من معارض ونشاطات يعود في المقام الأول إلى جهود الفنانين أنفسهم. إضافة إلى ذلك لا توجد ظاهرة اقتناء اللوحات كما هو الحال في الغرب من قبل الفراد والمؤسسات. الحركة السينمائية والموسيقية العربية ما تزال محدودة الانتشار والفاعلية. وإلا فأين الفرقُ الموسيقية الحقيقية، وأين دور الموسيقى وعازفوها؟ حينما نسمع في الغرب عن أسماء موسيقية لامعة ومتميزة في مجال العزف على البيانو والقيثار والكمنجة والآلات الأخرى وعن قائد الأوركسترا هذا وذاك، لا نسمع على الصعيد العربي إلا عن أسماء عازفي العود. بعضهم متميز وموهوب فعلا، لكنهم يمثلون نمطا واحدا وآلة واحدة وهو إبداع ومجهود فرديان بامتياز. أين هي، على سبيل المثال، الفرق القومية للرقص والفولكلور كالفرقة القومية المصرية والعراقية للفنون الشعبية سابقا؟
المسرح العربي رغم جدية بعض فرقه ومخرجيه ومحاولات فنانيه المتفانية للنهوض بمستواهم إلا أنه في تقهقر وسكونية لا يحسد عليها. كيف يمكن للمسرح العربي أن يتطور في ظل غياب الدعم الرسمي وانعدام الحريات والمباني. لم تعد الرقابة الرسمية وحدها العائق المهول، فقد دخلت إلى الساحة بتفويض "إلهي" مفتعل الرقابة الدينية وكذلك رقابة المجتمع. لا يمكن للمسرح العربي أن يتطور بدون مؤسسات تحتضنه ومسارح ثابتة تمارس فيها طقوسه، دون ريبرتوار وخطط مسبقة. لا يمكن الحديث حاليا عن حركة مسرحية عربية فاعلة جماهيريا في ظل غياب إمكانية تنقل الفرق المسرحية والفنانين والنقاد بين البلدان العربية أوالسفر إلى الخارج. لقد فعل الإرهاب فعلته في خلق معوقات أمام سفر الكثيرين إلى بلدان العالم ذات التجارب المسرحية العريقة والمتطورة من أجل رصد حركة المسرح عالميا والاستفادة من تجاربها المؤثرة.
نعم، هناك حراك ثقافي وإبداعي بالعربية، وهناك تجارب جديدة لا تظهر بحجمها الحقيقي بسبب قلة الاهتمام بها. لو قامت الدول العربية بالعمل على الصعيدين الثقافي والعلمي مثلما تفعل دولة صغيرة مثل الإمارات العربية المتحدة لأصبح بإمكاننا الحديث عن رؤية أكثر ملموسية وفاعلية للثقافة العربية. ولو قام النقد بإنجاز جزء من العبء المهني والأخلاقي المنوط به لكانت صورة الإبداع العربي أكثر وضوحا وتأثيرا في محيطها، ولو عملت مواقع الإنترنت الأخرى مثلما تعمل مواقع: مجلة" الكلمة" و"جهة الشعر" و"إيلاف" و"كيكا" وسواها(رغم ملاحظاتنا الشخصية النقدية على أداء معظمها) بهذه الاندفاعة والتخصص والجدية لعوضنا جزئيا عن النقص البين اليوم في عدد المجلات والجرائد الأدبية والفنية والعلمية المتخصصة ولأصبح واقع الحال أفضل بكثير مما هو عليه الآن. على مواقع الانترنت أن تخضع هي بدورها لمعيار الجودة وأن تبتعد عن الإخوانيات (وأسلوب ـ أدهنْ لي وأدهن لك) التي عاثت فسادا في جسد الثقافة العربية المعاصرة التي تعاني من مشاكل جمة.
ختاما، بودي تسليط الضوء على خلل آخر في الحياة الثقافية العربية ألا وهو شحة المجهود الفكري ـ الفلسفي العربي الحديث الذي لا يمكن لأية نهضة حقيقية بدونه أن تقوم أو أن تترسخ أركانها، ثم غياب تواصل التجارب (بغض النظر عن طبيعتها) والتنسيق فيما بينها، أقصد الضعف المريع في عملية الممارسة ذات الطبيعة التواصلية التنافذية. فسرعان ما تختفي عن الأنظار التجربة الفلانية الجادة بسبب عزوف أو عجز أو موت صاحبها أو الجهة القيمة عليها. يحصل ذلك بوضوح أشد على صعيد النقد والمسرح والسينما التي تفتقد بدورها إلى الدعم الرسمي العربي أو المؤسساتي وبالتالي فهي فقيرة التأثير، قياسا بغزو المسلسلات التلفزيونية الكاسح. على أنني لاحظت في السنوات الأخيرة تراجع دور الفيلم المصري والمسلسلات التلفزيونية المصرية على وجه الخصوص إزاء الدور المتنامي للمسلسلات السورية. أعتقد، أن هذا الأمر صحي إلى حد ما. لأنه يعكس حالة من الحراك والمنافسة في الساحة الثقافية العربية من جهة وتغيرا في الذائقة الفنية والفكرية لدى المشاهد. هذا الأمر نشهده على صعيد تعدد مصادر ومراكز ممارسة الإبداع الروائي والقصصي والشعري، ويشمل ذلك حركة النشر والترجمة كذلك. بحيث لم تعد هذه الدولة العربية أو تلك مهيمنة على كمية ونوعية الانتاج الثقافي والنشري. من المؤسي حقا، هو أن ما ينشر من كتب ومجلات في البلدان العربية ما يزال ضئيلا في كمه وكيفه وجاذبيته.
الشيء الذي يقلقني اليوم أيضا، هو تخوفي من انتشار عدوى التشرذم والتخندق الفئوي والطائفي المتفشي في جسد النظام العربي المهتريء إلى الوسطين الثقافي والعلمي،. الذي لولاهما ولولا انتشار اللغة العربية لقرأنا سورة الفاتحة على ما يمكن أن ندعوه بالثقافة العربية! فهل يعني ذلك وجود حركة ثقافية عربية، بغض النظر عن هناتها وقلة سمنها والتحديات التي تواجهها، وأنها أخذت تعمل ذاتيا إلى حد ما؟ كل ثقافة حية تخلق آليتها، موتورها الذي يدفعها إلى أمام. بدون ذلك تظل الثقافة اسيرة الأهواء والمطامع. حينما تبلغ الثقافة العربية (ربما الثقافات العربية!!) مرحلة العمل الذاتي الخلاق، التواصلي ـ التنافذي والتولدي، رغم الكوابح العديدة، سنكون أكثر اطمئنانا على مستقبلها مما نحن عليه الآن.
شاعر ومترجم وأكاديمي عراقي يقيم في وارسو