خرافة مصرية فى قفص:
كلما كتبت فى هذا المكان أو غيره عن شيء له طابعه السياسي المباشر تزايد قلقى، تماماً مثل رجل يترك مهنته التى عاش عمره من أجلها ويروح يزاول مهنة أخرى. كأننى أمد يدى لأسحب، خلسة، حقيبة العدة الخاصة بواحد من هؤلاء الأصدقاء المشغولين بالشأن السياسى المباشر، أفتحها وأستخدم ما تحتويه من مفاتيح ومفكات وخلافه، بينما الأصل أن يقوم كل واحد فى هذا البلد بالعكوف على عمله ومحاولة إجادته ليس أكثر من ذلك، ولا أقل.
إلا أن الظروف الاستثنائية التى نعيشها حتى باتت معها ربات البيوت أنفسهن مشغولات بها لا يتوقفن عن إبداء الرأى. هكذا لا يجد الواحد، مهما تلفت، وبسبب من إلحاح الأوضاع، أى مساحة يلتقط فيها الأنفاس، حتى لو كانت أنفاساً سياسية، دعك من قارئ يصيح بك معلقاً: «إنت بتقول إيه؟ «وهو يوغل فى تكرار حرف الهاء حتى ليبدو، فى نظرى، كأنه يموء مواء لا يليق، كأنه يظنك تكتب له وحده، رغم أنك فى أول الأمر ونهايته مجرد كاتب يكتب ما يشاء بينما هو قارئ لا يجبره أحد على قراءة ما لا يشاء، أفكر فى هذه المسائل كلها، وأنا جالس وحدى فى قلب الليل، غير قادر على تنحية ما هو سياسى خارج الحجرة، بل يظل مشهد الجلسة الافتتاحية لمحاكمة مبارك لا يغادر مخيلتى إلا ليأتى، فى البداية جاءت القاعة كاملة بكل مؤثراتها: أصوات المتهمين (أفندم. موجود) ثم إنكار الاتهامات الموجهة خصوصاً (كل هذه الاتهامات أنا أنكرها) المناشدات الفقيرة، التى قالت بها جماعة الموكلين عن الشهداء، بينما يتزاحمون أمام المنصة. جلوسهم والطير على رؤوسهم يستمعون إلى محامى مبارك المعجب بصوته المتمهل، وهو يعدد مطالبه السبعة كمن يعطى درساً، كانت هذه مع تعليقات القاضى ومداخلات البعض هى أبرز المؤثرات داخل القاعة، التى افتقد ولو مرافعة واحدة تليق وعظم الجلسة التى شاهدها العالم أجمع، بحيث إننى كنت سعيداً بأن هذا العالم أجمع لا يفقه من اللغة العربية شيئاً، ولكن الوقت لم يطل، لحسن الحظ، حيث راحت المؤثرات كلها تتوارى واحدة وراء الأخرى، بينما المشهد الوحيد الذى انفرد بالكادر وحده، هو ذلك الحيز الحديدى، الذى صنعه القفص، وما احتواه من متهمين موزعين بنظام لم يختل، كأنها لوحة جماعية حية وإن رسمت بألوان مائية، فى ثلثى الكادر من الناحية اليمنى صفان من أصحاب الثياب البيض يتلاصقون فى الخلفية بملامح مبهمة إلا قليلاً، فى صدارتهم يجلس العادلى وحده فى منتصف الدكة الأمامية، مثل بقعة سوداء على خلفية من مساحة بيضاء، يحدق بنظرة وقحة مسددة إلى كائن محتمل والسلام، نظرة لم يكن يسددها حتى عندما كان أحد أولياء الأمن فى هذا البلد، أما فى مقدمة ثلث القفص الأيسر فقد وقف جمال وعلاء متجاورين، مثل اثنين وقعا فريسة قبضة مجهولة لا يملكان حيالها شيئاً، ثياب بيض ومصحف صغير فى جلد أسود، بين آن وآخر، تقترب الكاميرا من انفراجة بينهما ليطل وجه مبارك المستلقى مثل عراب انتهى وقته، المائل ميلا محسوباً، يتفرج على ما يتاح، يقبل اللحظة ولا تقضى عليه المفاجأة. ولما أتت استراحة رأينا محفته خالية والعسكر يحرسونها، وأفكر أنه قفز من عليها لقضاء حاجة أو أكثر، وما أن تنتهى الاستراحة حتى يعود كل إلى مكانه بالضبط، ويتجسد المشهد مثلما كان، ويخيل إلى أنه جرى التدريب عليه من قبل. ثم تتراجع الكاميرا ليعود القفص كاملاً. جدارية من طبيعة صامتة مرسومة بألوان الماء الهشة مع أنها من لحم ودم. هكذا أراها داخل الحجرة فى قلب الليل، خرافة مصرية معاصرة، تم حبسها فى القفص.
عشرون عاماً قد مضت:
قبل أيام عثرت على شريط مسجل من النسخة الأصلية لفيلم «الكيت كات»، التى كان أهدانيها صديقى المخرج المبدع داود عبدالسيد، وانتابنى الذهول عندما تبين لى من واقع التاريخ المسجل باليد أن عشرين عاماً مضت على إنتاجه.
عشرون عاماً. هكذا جلست أفكر وأتذكر كيف أننى كنت عائداً فى طريق النيل بالولدين هشام وشادى، وهما صغيران من مدارس كوبرى الجلاء، التى كانت تشغل المبنى العريق قبل الكوبرى، بحديقتها وملاعبها الكبيرة، التى أزيلت الآن وبنى مكانها برجين عاليين يطلان على النهر. كما فكرت وتذكرت كيف اعتدت القيام بذلك كل يوم. أذهب بهما صباحاً وأعود لآخذهما.. وكيف أننى أثناء عودتى رأيت اللمة على الشاطئ ولمحت داود هناك، وركنت الفولكس القديمة ونزلت وعرفت الولدين به والفنان الكبير محمود عبدالعزيز، الذى وقف فى جلبابه الأبيض والفنان على حسنين استعداداً لتصوير مشهد الغرق فى مياه النهر، كذلك الفنان شريف منير بعد ما استيقظ، وغادر القارب المركون خارج الماء. ثم إننا قضينا وقتاً نتفرج وركبنا الفولكس وذهبنا إلى البيت.
مضت فترة ثم دعانى داود، من باب اللياقة غالباً، للقائه فى ستوديو جلال لاحتساء القهوة ومتابعة شيء من العمل. وقد ذهبت إلى هناك وعبرت المدخل ورحت أمشى فى منطقة غير محددة بها بعض البنايات، التى لم أعرف أن كانت تابعة للاستوديو أم لا حتى وصلت إلى مكان به مقهى خالٍ ومن فرط طبيعيتها ظننتها حقيقية، وليست مكاناً أعد بالكامل للتصوير، وأن علىّ أن أعبرها وأستمر فى طريقى، ثم إننى انتبهت إلى دكان نصف مغلق يجلس أمامه أحد الكومبارس (اتضح فيما بعد أنها العين التى تتجمع بها شلة السهر ليلاً مع الشيخ حسنى) كذلك انتبهت لدكان المعلم صبحى تاجر الطيور والأقفاص على جانب منه، وهناك استقبلنى داود، حيث لمحت فنان الديكور أنسى أبوسيف ركعاً على ركبتيه أمام جدار جانبى مصنوع، كان يقترب بوجهه منه وفى يده أداة يحدث بها خدوشاً متمهلة وبعناية فائقة لكى يصل إلى التأثير الذى كان يسعى إليه، وهى تأثيرات بدت فى النهاية لا تترك أثراً لليد التى تصنع ولكن للزمن الذى مضى.
بعدما نفض يديه وتصافحنا أخذنى جانباً، وطلب منى أن أتأمل المكان على بعضه واضعاً فى الاعتبار أنهم راعوا أن تكون المنطقة الشعبية التى تظهر فى خارج الاستوديو بمبانيها العشوائية جزءاً من المشهد العام، وراح يتابعنى قلقاً قبل أن يسألنى إن كان توصل إلى التعبير عن روح الرواية أم لا، ولما أكدت له أنه فعل ذلك بامتياز، أدهشنى تواضع ذلك المبدع وهو يقول مبتهجاً:
الحمد لله. خلاص، أنا كده ارتحت.
لقد تم التصوير هنا وفى منطقة الكيت كات، وعندما شاهدت الفيلم كاملاً كان يلتبس علىّ، أنا الذى قضيت عمرى هناك، التفرقة أحياناً بين المكانين.
كانت هذه من المرات القليلة التى دعيت فيها لحضور جانب من التصوير. حدث ذلك أيضاً مع صديقى المخرج مجدى أحمد على أثناء تحقيق عصافير النيل. وأنا قادر على تفهم ذلك وأفضله بشدة، لأن مخرجاً لن يشعر بالراحة، غالباً، وهو يعمل على رواية فى حضور كاتبها، الذى قد يكون عدم وجوده أكثر مدعاة لتفادى أى حرج أو ارتباك فى أغلب الأحوال.
المهم أن الليل كان أقبل حين جلست وداود نحتسى القهوة فى جانب من المكان. لا أذكر المناسبة، التى جعلتنا نتحدث عن سينما يوسف شاهين. ما أذكره أننا لم نختلف كثيراً فى ما تبادلناه حولها، ثم إننا انتقلنا نتكلم عن السينما والأدب، ولما كانت السينما الجيدة أحد أهم مصادر المتعة والإلهام بالنسبة لى، قلت إننى كلما شاهدت فيلماً حقيقياً وجدتنى أقول: هذه هى الكتابة.
وداود قال:
ونحن أيضاً، كلما قرأنا كتابة جيدة قلنا: هذه هى السينما.
عن «موزار» الصريع فى كل إنسان:
أنتمى إلى جيل كان الكتاب الورقى، وما زال، الزاد الأساسى فى تكوينه الثقافى والمعرفى. وأنا لا أعرف واحداً من أبناء هذا الجيل لم يسع وراء الكتاب باحثاً على الأرصفة والأسوار ودكاكين الوراقين والمكتبات ولدى الأصدقاء وغير الأصدقاء بل وسرقته أحياناً من دون كلل.
كنا نتبارى فى اكتشافها ولم يكن لدينا من حديث، حين نلتقى، إلا عن الكتب. لهذا اعتبرنا معارض الكتب فى أى بقعة من العالم مجرد أعراس للمعرفة.
كان الكمبيوتر بالنسبة لنا من قبيل الخيال العلمى، لا أكثر، ولا أقل.
والآن نحن نعجب أشد العجب من غياب أى ذكر لهذه المؤلفات الأساسية التى لا تتقادم أبداً والتى جمعناها بأيدينا وأرجلنا، كيف انقطع ذكر هذا الميراث الذى حفظ للبشرية إنسانيتها، وتستغرب إن كانت الأجيال الشابة قد قرأتها، أو بعضها، وفرغت منها، أم أنها لم تسمع بها أصلاً. وسوف يفزعك أن تذكر عنواناً تظنه شائعاً، أمام كاتب وليس قارئ، لتفاجأ أنه لم يسمع به فى أى مناسبة. لكل قاعدة ما يستثنى، طبعاً، لكننى لم أصادف، لسوء الحظ، هذا المستثنى بعد.
وأفكر بأن هذا الأثر الخطر خلفته شبكة المعلومات المتاحة، رغم إمكاناتها الهائلة، فهى تقدم لك وبسرعة بالغة ما تشاء حول أى معلومات سواء عن الكتب أو الكتاب أو المعارف العامة أو الخاصة أو ما ترغب، لكن ما يبقى، أن المعلومات شىء، والمعرفة شىء آخر.
لابد من الكتاب فى أى صورة كان، الكتب الكبيرة التى استقر عليها الضمير العام واتخذتها البشرية سبباً لتقدمها، ومتعتها، وزادها الذى لا غنى عنه.
أقول قولى هذا غير راغب فى إغضاب أحد، خصوصاً من يظنون أن هذه كتب فات أوانها يتقول بها عجوز غير مدرك ما طرأ على الدنيا من تغيرات أصبحت خارج حدود طاقته المنهكة، وهو رأى صحيح على الأرجح، لأننى أكتب هذا الكلام بينما أضمر، بينى وبين نفسى، عدم اهتمامى على الإطلاق بمن يقرأ أو لا يقرأ.
مناسبة هذا الكلام هو المعرض الذى تقيمه هيئة الكتاب بمنطقة فيصل الشعبية. لقد استغربت الفكرة لأن المرة الوحيدة التى ذهبت فيها إلى هناك كانت أثناء بحثى عن سكن قبل استقرارى فى المقطم، ولم ألبث أن وجدتنى محشوراً بعربتى الصغيرة، عندما كانت تعمل، لا أحلم إلا بمغادرتى كما دخلت. ثم إننى علمت أن هناك طريقاً يصل بك إلى المعرض مباشرة.
كانت تجربة مدهشة أن ترى فرحة هذه الحشود من أبناء البلد وهم يجوبون المكان يشترون الكتب رخيصة الثمن بتعطش ويقبلون على الندوات بشغف، بعضهم جاء بثيابه العادية بينما ارتدى الآخرون ما يليق بالمناسبة، وقد اكتست الوجوه بمزيج من البهجة والكبرياء لأن لهم اعتبارهم وأن الثقافة ليست شأناً خاصاً بالآخرين. كنت أتطلع إلى الأطفال ممسكين بأيدى آبائهم أو متشبثين بجلابيب أمهاتهم، وتوقفت عيناى عند وجه معبر لأحد الأطفال وهو يمشى فى جلبابه وصندله، وفكرت أن «فان جوخ» صار كذلك لأنه توفرت له فى طفولته علبة ألوان صغيرة، واستعدت كلمات من الصفحات الأخيرة لرواية «أرض البشر» للفرنسى العظيم «أنطوان دو سانت أكسوبرى» بينما هو يمر بعربات قطار مكتظ بفقراء الناس: «وجلست أمام رجل وزوجته، وكان بينهما طفل حفر لنفسه مكاناً نام فيه.. وبدا لى وجهه فى ضوء المصباح وجهاً رائعاً.. وقلت لنفسى هذا وجه موسيقى.. هذا وجه «موزار» الطفل.. ماذا يصبح هذا الطفل لو حمى ورُعى وثقف؟.. وعدت إلى عربتى: لم يعد هؤلاء الناس يتألمون لحالهم. وليس الإحسان هو ما يعذبنى، فليست المسألة أن نرثى لجرح لا يلتئم.. ما يعذبنى هو "موزار" الصريع فى كل فرد من هؤلاء الناس".
كان يشرب الشاى ويدخن:
تذكرنى الخلافات القانونية القائمة من أجل التوصل إلى اتفاق حول وثيقة للوفاق الوطنى، والتى نعيشها هذه الأيام، بخلافات أخرى شبيهة، كانت جرت فى الأيام الخوالى من سبعينيات القرن الماضى.
كان ذلك فى العام 72 على وجه التحديد، وكنا مدعوين لحضور مهرجان المربد الشعرى الثانى فى بغداد، وكان الوفد المصرى مكوناً من الأساتذة الراحلين الشيخ العلامة محمود شاكر والدكتور عبدالقادر القط ورجاء النقاش وسامى خشبة وعفيفى مطر «وانتبه، فى المناسبة الكريمة أنه لم يعد باقياً على قيد الحياة من أعضاء هذا الوفد الكريم سوى صديقنا الدكتور صبري حافظ أطال الله عمره، وكاتب هذا الكلام أطال الله، أيضاً، عمره".
المهم أننا ما إن وصلنا وبدأت الأمسيات تعقد والشعراء من العالم العربى، وكان يتقدمهم الراحل نزار قبانى، يتلون خرائدهم، حتى لوحظ ما لفت أنظار الجميع، وهو انشغال الجماهير عن حضور الأمسيات، والتمامها حول حادثة كانت استحوذت على الشارع العراقى المحب للآداب عموماً، حتى إن قولاً مأثوراً كان استقر مؤداه أن: «مصر (تلك الأيام طبعا) تؤلف، وبيروت تطبع، والعراق يقرأ».. ثم إننا لم نلبث أن تبينا حقيقة الأمر وبدأنا نتابعها عبر وسائل الإعلام المرئية والمقروءة.
قبل وصولنا بفترة وجيزة، وفى باحة المشرحة بالعاصمة بغداد، كان الخفير يجلس ليلاً يشرب الشاى ويدخن، عندما التفت إلى تلك الناحية، وفوجئ بعدما دقق جيداً، أن الرجل المتوفى الذى جرى إعداده للدفن قام من مرقده وفتح الباب المغلق وبدأ يغادر مرقده ويقترب حثيثاً وهو يناضل بيديه وقدميه كى ما يحرر نفسه ويفلت من كفنه الملفوف. وهنا، بالضبط، استولى الذعر كاملاً على الخفير من هذا الشبح أو العفريت الذى اقترب فى صمت الليل، فتناول بندقيته سريعاً وأطلق النار على صدره، وسقط الذى كان استيقظ، فى ساحة المشرحة غارقاً فى الدماء، وراح يجرى بكل قوته فى شوارع المدينة رافعاً عقيرته بالصياح، والنداء على أى كان.
قبض على الخفير إذن، وانشغلت بغداد كلها بحكاية الرجل الذى استيقظ من الموت والخفير الذى أطلق عليه النار، من خوفه، وأرداه قتيلاً، وبدأت المحاكمة مع الأيام الأولى لوصولنا.
كان دفاع أهالى المتوفى يطالبون بالحكم على الخفير بالإعدام لأنه كان يجب أن يتثبت أن الرجل كان حياً قبل أن يطلق عليه النار، لأن ذلك كان جلياً بعدما رآه بأم عينيه وهو يناضل فى كفنه لكى يخلص نفسه ويبدأ حياته الجديدة المستحقة، كان عليه أن يمنحه فرصة ذلك حتى تتبين الحقيقة لكل الأطراف بحيث لا يكون هناك مجال لأى ظل من الشك، فليس معقولاً وقد كتبت لإنسان فرصة حياة جديدة أن يأتى هذا وينهيها نتيجة سيطرة بعض المخاوف التى لا أساس لها من الصحة حيث إن القتيل حين قتله كان يقف على قدميه حياً ومجاهداً من أجل مواصلة الحياة.
حدث لك بينما ارتفعت أصوات الدفاع عن المتهم تطالب بالعقوبة المخففة مراعاة للحالة النفسية التى كان عليها، خصوصاً بعد المباغتة التى تعرض لها، وهو الفقير المسالم الذى كان يشرب الشاى ويدخن السيجارة، وهو خلى البال من كل شىء، بعدما رأى رجلاً كان يثق فى موته وهو يقوم من هذا، وهو الشىء الذى لم يجربه أحد من قبل.
سيطرت القضية إذن على الدنيا من حولنا ورحنا نلمسها ونتابعها فى البيوت والشوارع والمقاهى والبارات وصالات الفنادق والمطاعم وخلافه.
حينئذ تطوعت جماعة ممن اعتادوا تصدر المشهد وطالبوا ببراءة المتهم لأن القتيل كان استخرجت له شهادة وفاة، أى أن من أطلق النار لا يحاسب قانوناً لأنه أطلقها على من لا وجود له.
هكذا صار جدلاً جديداً، مؤداه أن الضرب فى الميت حلال، حتى لو كان حياً.
وللأسف، القضية لم تنته حتى عودتنا من هناك.
هذا الأحد الدامى:
المشهد الدامى الذى صنعته أحداث ماسبيرو يوم الأحد الماضى كان مشهداً غاية فى البشاعة والقبح، إلا أنه لم يكن مفاجئاً أبداً، لأننا فى حقيقة الأمر استكثرنا على أنفسنا أن يظل العالم محتفظاً لنا بالصورة المبهرة التى قدمناها بتلك الملحمة الهائلة التى أدهشت الدنيا وصارت مصدراً لإلهام العديد من شعوب الأرض.
ونحن نحمد الله أننا عملنا طوال الشهور الماضية بكل الدأب والإخلاص على تشويه هذه الصورة الجميلة المتحضرة التى بدونا عليها، وأكدنا لهم أننا لسنا كذلك دائماً، هكذا قمنا بكل ما نقدر عليه حتى توجناه بما جرى فى ماسبيرو، وما ذلك كله إلا بفضل نخب انصرفت لخلافاتها وتركت البلد لقوى سواء من هنا أو من هناك إما أن تستولى على ثورته أو تورده موارد التهلكة.
حتى كتابة هذه الكلمات، وأنا أكتبها على مضض باعتبارى كنت راغباً فى الجلوس لقراءة بعض القصص والحكايات، تلقيت عدة اتصالات من أصدقاء عرب يهمهم شأن مصر وتتعلق بها آمالهم، لم تكن خشيتهم على ثورتها فقط ولا من أن نكون غافلين عما يتربص بها وبوحدتها الوطنية، بل صدمهم ما كان فى مشهد ماسبيرو من الوحشية والكراهية المفرطة فضلا عن امتلائه بالقتلى والحرائق والدماء.
وأستمع الآن إلى تأكيد القوات المسلحة فى مؤتمرها الصحفى أن أفراد هذه القوات لم يكن معهم ذخيرة، وأن بينهم، أيضاً، شهداء قتلوا بالرصاص. وإذا كان ذلك كذلك، فإن خطورة الأمر إذن هائلة. خاصة والبلد هربت إليها كميات لا حدود لها من الأسلحة.
- 2 –
أثناء حواره مع الإعلامية منى الشاذلى مساء الثلاثاء الماضى، كان الدكتور حازم الببلاوى الذى تحدث عن استقالته التى تقدم بها إلى المجلس العسكرى، قد شرع فى تقديم، بناء على طلبها، رؤيته لأحداث ماسبيرو.
وفى اللحظة المناسبة بالضبط، أى ما إن بدأ نائب رئيس الوزراء المستقيل يستطرد ويقول، حتى بوغتنا بانقطاع الصورة، وهى ظلت منقطعة زمناً ثم جاءت. وقالت الإعلامية الأريبة باسمة:
«عادى، يعنى هو الإرسال كان بينقطع قبل 25 يناير، وبعد 25 يناير برضه".
الصورة، معرضة للانقطاع أو الاختفاء أو الاختباء، طبعاً، لكن المهم فى الأمر أنها ما إن جاءت حتى رأينا النائب المستقيل يكف عن مواصلة شرح رؤيته التى كان شرع فيها وينتقل بكلامه إلى موضوع آخر. وأنا من ناحيتى لم أظن أبداً أن المجلس العسكرى متفرغ بشدة إلى هذه الدرجة، بمعنى أنه لم يمد أصابعه ويقطع الصورة عن الرجل وهو يتكلم، بل هى مسألة راجعة للدقة واليقظة التى يتمتع بها وزير الإعلام الوقور، وهو الأمر الذى يتوافق وتغطية تليفزيونه الحكومى بالأمس فقط لأحداث ماسبيرو، من تهافت وتحريض غير حكيم، فيا لها من تعاسة! ويا له من بؤس!
-3-
- يظن عبدالفتاح أن البلد انفلت عياره وصار مستباحاً بل بدأ ينحل ويتآكل. أنا لا أظن ذلك طبعاً. ثم إنه يتحدث عن الأحزاب والجماعات حديثاً لا يليق ويقول إنها تأتلف وتختلف ليس على أساس من المبادئ لأنها واضحة ولا تستوجب أى خلاف، بل على أساس من حجم المكاسب المتوقعة.
وما يحزن عبدالفتاح أيضاً أن الجميع نسى رجل الشارع الصغير الذى هو جسد هذه الثورة، بل راحوا يعملون على سرقة حلمه وحرمانه من وطن حر وعادل يصون كرامته ويسود فيه القانون وتتكافأ الفرص أمام كل أبنائه.
ويظن عبدالفتاح، أخيراً، أن جهود هذه القوى الخفية نجحت فى دفع المواطن الصغير العادى إلى السخط على الثورة، اعتقاداً منه أن الثورة هى السبب فى هذا التردى الذى يعيشه، مع أن الثورة ليس بيدها قرار، ولا تحكم.
لا حول ولا قوة إلا بالله.. يا عبده:
سألنى صاحبى عبده، ونحن وقوف على جانب من السوق المجاورة لمقام السيدة عائشة، ألم تلاحظ أن الحمير اختفت من البلد؟
وأنا نظرت ثم تلفت حولى ولم أجد، فعلاً، حمارًا واحدًا، ثم إننى انتبهت إلى أن شهورًا طويلة مضت من دون أن تقع عيناى على مجرد واحد من هذه الحمير الضئيلة التى اعتدت أن أراها فى السنوات الأخيرة، بين مكان وآخر، وهى تجر صندوقًا من الصاج له عجلات مثل عربة، ومائل إلى جنب حتى لتخاله واقعًا لا محالة، ويحوم حول العربة زبال ناضج برفقته ولد أو اثنان يغادران المبانى بالمقاطف الممتلئة حيث يتناولها ويطوح ذراعه بها يفرغها فى فتحة الصندوق، بينما يقع بعض محتوياتها على الأرض.
هكذا رحت أتذكر وأحكى لعبده ونحن مازلنا وقوفًا على جانب السوق المجاورة لمقام السيدة عائشة، وبسبب من الاستغراق عدت بذاكرتى إلى أوقات أبعد مع هذه الحمير ضئيلة الحجم، التى كانت تجول داخل الحوارى الضيقة بإمبابة وهى تجر عربات صغيرة تحمل كومة من العنب المعطوب وأخرى من الجوافة الطرية، والتى أصاب العفن البنى جوانبها. كانت هذه العربات تتوسط الحارة، ثم يقف الحمار ثابتًا مطأطئ الرأس، بينما الفكهانى بجلبابه وطاقيته يقف إلى جانب العريش الصغير وينادى: «بلدك بعيدة يا عنب، والغربة خطفت لونك».. حينئذ ترى سعيدات الحظ من نساء الحارة وهن يتجمعن حول العربة تحمل كل واحدة غطاء حلة. على كتفها طفل، بينما آخرون يمسكون بذيل جلبابها، والرجل الذى يضع لهن فى هذا الغطاء كومة من العنب المعطوب وبضع حبات مضروبة من الجوافة، وتستدير هى عائدة بالفاكهة التى اشترتها، والصغار يهللون من حولها. أين اختفت الحمير إذن، يا عبده؟
أنا على ثقة فى أنها، بالذات، اكتسبت فى مصر أهمية نادرًا ما حظيت بها فى أى بقعة من العالم. ولا شك أيضًا أن المصريين هم أول من قدر الحمار وقدر مواهبه، بحيث إنك لن تجد أبدًا حمارًا متبطلاً أو عاطلاً عن العمل. فالحمار لدى أصحابه هو بمثابة شخص من شخوص العائلة، يؤخذ فيه العزاء إذا ما انتهى أجله.
ونحن لم نكتف بذلك، بل حققنا له مكانة مذكورة فى مناطق أخرى من العالم. ولقد حكيت قبلاً كيف أن الفلاحين المصريين الذين ذهبوا إلى العراق أوائل السبعينيات لإقامة القرية النموذجية التى أطلق عليها اسم «الخالصة»، حيث وزعت عليهم الحقول بأراضيها التى أصابتها الملوحة. والتى كنا نراها من نوافذ السيارة وهى تضوى بالبياض على جانبى الطريق كأنها مغطاة بنثار من الثلج فى عز الحر.. الحر الذى تغلب عليه الفلاحون المصريون بأن قضوا النهار فى بيوتهم وخرجوا للعمل فى الليل.
وفى ذلك الزمن كانت الحمير فى العراق مهملة ولا سعر لها ولا صاحب، والفلاح المصرى أقبل عليها يسرح بها إلى غيطه وينقل احتياجاته، ما جعل للحمار وظيفة وسعرًا وصار يباع ويشترى، أما مشكلة الملوحة فقد عالجها أحفاد الفراعنة بعمليات متلاحقة من الرى والصرف الذى هو غسيل للأرض عبر دورات زراعية متتالية للخضروات، وسرعان ما انتهت ملوحة الأرض وامتلأت الأسواق بكل صنوف الخضروات. وعندما كنا نجلس نحتسى القهوة ونتكلم أنا وصديقنا السينمائى الكبير إبراهيم الموجى مع الشاعر العراقى المغدور عبد الأمير معلة رئيس مؤسسة السينما فى إطار مشاورات لم تكتمل مع جماعة السينما الجديدة لإعداد فيلم روائى عن هذه القرية النموذجية المصرية، كان يقول، وهو غاية فى التأثر:
"والله يا أخ إبراهيم، إخوانا المصريين رخصوا علينا الخضروات، وغلوا علينا الحمير".
آه والله يا عبده.
أن تكون وحدك "1 – 2"
ليس هناك ما يضاهى متعة الاقتراب على سير الكبار من المبدعين، وما يتيحه لنا هذا الاقتراب من التعرف على مراحل نموهم الروحى والعقلى وخبراتهم الجمالية وتأملاتهم العميقة التى تتكئ على قدر هائل من الحساسية، فضلاً عن مغالبة مشكلات التعبير التى شغلتهم طيلة الوقت، فضلاً عما أضاءوه بأعمالهم من الأزمنة التى عاشوها وما أضافته أعمالهم للمخيلة الإنسانية من غنى.. وأنا أقلب معك الآن أوراق واحدة من هذه السير التى كانت صدرت منذ سنوات لفنان السينما الإيطالى الأشهر «فديريكو فللينى 1920-1993» ذلك المبدع الذى حقق مجموعة الأعمال التى استقرت كعلامات بارزة وفريدة فى تاريخ السينما العالمية كلها.
والكتاب فى عنوان «أنا فللينى» (480 صفحة من القطع الكبير) صادر عن وزارة الثقافة السورية فى ترجمة لـ«عارف حديفة» وهو عبارة عن أحاديث وحكايات كانت سجلتها صديقته «شارلوت شاندلر» على مدى الأربعة عشرة عاماً التى عرفته فيها والتى امتدت من 1980 عندما التقته فى روما وحتى الأسابيع الأخيرة التى سبقت وفاته فى خريف عام 1993، وهى أحاديث جرت فى مطاعم ومقاه وسيارات باعتبارها الأماكن التى كانت تبهج فيلينى أكثر من غيرها.
كان يطلب منها أن تدون مقداراً كبيراً من كلماته حتى يتمكن من مراجعتها لو رغب فى معرفة شىء ما من مشاعره لأن البحث عن الحقائق أسهل من تذكر المشاعر.
فالإنسان، كما يرى، لا يتذكر حياته حسب ترتيبها الزمنى، فالنحو أو الطريقة التى سارت عليها هذه الحياة هو الأهم، لأننا لا نتحكم فى ذكرياتنا، وواحدنا لا يملك ذكرياته بل هى التى تملكه. وهو يهتدى بكلمات تقول:
"ضع ثقتك فى غرائزك، تكن أخطاؤك خاصة بك. إن الغريزة دليل أفضل إلى الحقيقة من العقل".
الكتاب مقسم إلى ثلاثة أقسام هى «فديريكو» و«فديريكو فللينى» و«فللينى".
يحكى القسم الأول عن فللينى الفتى وفللينى الشاب الذى تأثر بالسيرك والمهرجين والقصص الهوليوودية المصورة التى طور منها رؤيته ابتداء من كتابته للمقالات ورسم الصور الكاريكاتورية والكتابة الإذاعية إلى الكتابة للسينما.
ويروى القسم الثانى حكاية اكتشافه الإخراج كهدف لحياته، أما القسم الثالث فيتحدث عن الرجل الذى تحول إلى أسطورة فى حياته وكيف أصبحت «الفللينية» تعبيراً مألوفاً حتى عند من لم يشاهد له فيلماً واحداً. ولقد كانت شخصيته هى أهم شخصية تناولتها هذه الأفلام إلا أنه كان مهتماً بخلودها أكثر من اهتمامه بخلوده الشخصى، ويقول:
أن تكون وحدك، معناه أن تكون أنت نفسك بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، لأنك تكون فى هذه الحالة حراً فى أن تتطور، ليس بحسب ردود فعل الآخرين. فالوحدة شىء خاص جداً، والقدرة على أن تكون وحدك أمر أكثر ندرة.
وهو كان يحسد دائماً أولئك الذين يمتلكون من الطاقات الروحية ما يمنحهم استقلالاً، ما يمنحهم من الحرية التى يقول الناس إنهم يفتقرون إليها، والواقع أن الناس لا يفتقرون إلى الحرية فى أن يكونوا وحدهم، ولكنهم يخشونها.
نعم: «الناس يخشون الوحدة أكثر من أى شىء آخر فى الحياة"
وهم حين يتركون وحدهم لبضع دقائق يبحثون عن أى شخص حتى يتغلبوا على هذه الوحدة. الإنسان بحاجة دائماً إلى نديم. إنه يخشى الصمت وهو وحده مع أفكاره، ومع مناجاته الداخلية التى لا تنتهى طيلة الوقت.
وهو يرى أن علينا، بسبب من ذلك أن نحب أصحابنا كثيراً، لأنه الحب الذى يترتب عليه أن لا نخسر أنفسنا بأن نكون متوافقين أو متشابهين معهم، أو أن تكون مهمتنا هى إسعادهم فقط والتسرية عنهم.. لذلك يأسره دائماً أولئك الذين يحبون دون خشية من عواقب.
عن الأقنعة:
يفكر الواحد أحيانا فى أن الكتب مثلها مثل الناس. هناك ما هو عابر، وهناك ما هو طيب أو استثنائى. ما أن نتعرف إليها حتى تحتل من عقولنا وقلوبنا مكانة تبقى مع الأيام. إلا أن الناس ترحل، والكتب أبدا.
غاية ما نستطيعه مع الراحلين أن نستعيد بعضا من ذكرياتنا معهم ونترحم، بينما نحن مع الأصدقاء من الكتب قادرون دائما على معاودة اللقاء ولو بعد سنوات من غيابها. بل إن معاودة اللقاء وتقليب الأوراق القديمة يكون أكثر متعة وفائدة، وكل قراءة أخرى هى قراءة جديدة، بعضها يفقد أهميته مع الأيام، إلا أن بعضها الآخر يظل محتفظا بقيمته. وأنا أود لو أشركتك معى بين حين وآخر، فى معاودة تقليب تلك الصفحات القديمة، علها تنعش فينا تلك الحقائق الباقية التى غاب ذكرها فى تلك الأيام المربكة، التى نعانى منها نحن معشر الناس. وفى هذه المرة أود أن أستعرض معك بعض الأفكار الأساسية التى جاءت بتلك المقالات والتى كثيرا ماعدت إليها بالقراءة والكتابة، والتى كتبها الفيلسوف الألمانى الأشهر «شوبنهاور 1788- 1860» وسوف أعتذر فورا عن ضخامة الاسم الذى نتكئ عليه، عذرنا أن المقالات هذه نقلت إلى العربية، كما أنها تقف على الشاطئ الآخر من عمله الفلسفى الخالص، الأمر الذى يجعل تناولها ميسورا لمن كان مثلنا. المهم أن هذه المقالات كان جمعها «بيلى ساوندرز» من مختلف مؤلفاته وأصدرتها الدار القومية للطباعة والنشر عام 1966 فى عنوان «فن الأدب» وهو يتناول فيها مسائل النقد واللغة والآداب عامة بالأسلوب الذى صار علما على كتاباته والذى عالج به أشد المشكلات تعقيدا فجعل منها قضايا واضحة لا تغيب عن أبسط العقول إدراكا. الكتاب «211 صفحة من القطع الكبير» ترجمه صديقنا القديم شفيق مقار المغترب بالعاصمة البريطانية منذ السبعينيات، ويمكن القول من دون مبالغة أن مساحة الشروح والتعقيبات التى قام بها مقار أكبر من متن الكتاب نفسه. وهو كان قد ترجم رواية «بريخت» الكبيرة «أوبرا البنسات الثلاث» التى صدرت عن دار الهلال أيام رئاسة صديقنا الكبير رجاء النقاش لتحريرها.
يقول السيد شوبنهاور إن أسلوب الكاتب هو تقاطيع الذهن وملامحه، والمنفذ إلى الشخصية، والأكثر صدقا ودلالة. وأن اللغة التى يكتب بها: «هى بمثابة تقاطيع الوجه، من الأمة التى ينتمى إليها".
أما محاكاة الكاتب لأسلوب غيره، فهى أشبه بارتداء قناع، ما يلبث أن يثير النفور والتقزز، لأن القناع موات لا حياة فيه، حتى ليفضله أكثر الوجوه قبحا، ما دام حقيقيا، وفيه رمق من حياة.
والتكلف فى الأسلوب أشبه ما يكون بالتلاعب بملامح الوجه.
يقول أيضاً إن هناك من يجهدون فى إقناع القارئ بأن أفكارهم أعمق وأبعد مدى مما هى فى حقيقتها. فيقولون ما يرغبون فى قوله بعبارات مطولة تتلوى هنا وهناك بطريقة مفتعلة، ويصوغون كلمات جديدة ويدبجون جملا تدور حول الفكرة حتى تغلقها وتضفى عليها غموضا أشبه بالتخفى، لمقايضة الكلمات بالفكر، ومحاولة ارتداء مسوح العارفين. وهى الحيلة الماثلة فى إخفاء الإملاق الفكرى وراء ستار من الضجيج والقعقعة اللفظية.
والقاعدة هنا أن الإنسان لا يصطنع من الصفات إلا ما يفتقده فى نفسه.. والمؤلف الذى يصطنع لنفسه أسلوبا متحذلقا يشبه ذلك الذى يفرط فى التأنق: «خوفا من أن يخلط بينه وبين الدهماء من الناس، وهو الأمر الذى لا يخشاه السيد الأصيل مهما كان ملبسه رثا، ما أسهل أن يكتب الإنسان ما لا يفهم".
ومما يفيد الكتاب أن يدركوا أنه وإن كان ينبغى للواحد أن يفكر كعبقرى كبير، فينبغى عليه أن يتكلم اللغة التى يتكلمها ويفهمها سائر الناس.