هشام أصلان .. يمسد طعم الأبوة

موسى حوامدة

إلى الصديق هشام أصلان

لم استطع أن أتصل بك، حينما سمعت خبر وفاة العزيز إبراهيم، أو العم إبراهيم، كما كنا نحب أن نناديه، لم أتصل بك، لسبب بسيط وهو أن والدك، لم يكن مجرد أب لك، لكي أقول لك رحم الله الوالد، والفاتحة على روحه، أعرف أنه حاضر معك، يرافقك في عملك وحياتك وعلاقاتك، وحتى نظرتك للحياة، ومواقفك من كل شيء، ولكن ليس بطريقة التلبس، أو سطوة الأب، بل بطريقة العشق المتحرر، فلم يكن كابوسا يجثم على صدرك، مثل بعض الآباء، بل صديقا قدر لكما، أن يكون أباك، وأن يكون خفيفا على القلب، مثل كونشيرتو لطيف.

تذكر حينما كنا نأتي على سيرته، ويتكلم عنه سيد محمود الصديق المتشبث بمحبيه، أكثر منك، ويتحدث عنه الموجودون أكثر منك، لم تكن تبالغ في مديح الأب، ولا تتقمص دور المنافح بأي شكل عنه، بل كنت تمسد طعم الأبوة، بروحك، وليس بكلمات تظهر إخلاصك، أو حبك لروائي مشهور ومتميز، كنت عفيفا كما أنت، نسخةً من رواية كتبها الراحل على مهل، ووضع فيها روحه على مهل، لم يتسرع في الكتابة كعادته، كما لم يتعجل في التربية، ولم يحشرك في قوانين صارمة، بل وضع لمساته المكثفة عليك، طيبةَ قلبه اللامتناهية، حبه لعروبته ولمصر وحاراتها، حبه لإمبابة، والكت كات، وللقاهرة عموما، ولفقرائها، فلم يكن مثقلا بإرث سياسي مزيف، يعوقه عن حب بلده، كما تحب الفراشات.

صديقي العزيز هشام

أعرف أن حزنك بلاد لا حدود لها، ولذا جفت كلمات العزاء.

وأعرف أن خسارتك أكبر من أن توصف، ولذا لذت بالصمت والبكاء، فما الذي يمكن أن نقوله عبر الهاتف غير الكلمات التقليدية، والتي لم تسعفني شفتاي لقولها، وكأنني أتخلص من واجب ثقيل الظل، حشرتُ الكلمات في صدري، لكي تظل صورتك ماثلة في ذهني، ولكي تحفر الخسارة عميقا في الروح، لكي تسند روحك من بعد.

يا صديقي

أعرف أنك لن تجعل الموت سداً بينك وبينه، عد إلى سيرته العطرة، واعلم أنه أورثك وأخاك، أجمل ما يورث الآباء لأبنائهم، سيرة مرفوعة الرأس، من العزة والكبرياء والرفض الأبي، وعدم الإنحناء رغم سنوات الجفاف والقهر التي مرت بمصر، وكسرت الكثير من المثقفين أمام السلطة، وأمام الإغراءات، فلم يتلكأ والدك في رفض لقاء رأس النظام، حينما كانت ترجف منه ومن جبروته الكثير من القامات، وحملة الأوسمة والجوائز والشهادات العليا والأسماء الكبرى، لكن أباك رفض ببساطة، لقاء الشيطان، وظل رافضا لكل سياسة لا تمنح الفقراء حريتهم، وحقوقهم، ولا تحرر الإنسان المصري من طغيان وفساد لا مثيل لهما.

       ليس هذا فقط ما يجعلك متماسكا وفخورا...

  أعد سيرته، وانظر الى كتاباته، لن تجد ما يحزنك، بل ستجد في كل سطر، كاتبا نبيلا شهما، عاشقا لإنسانيته، وبلده، مكثفا سرده وقصصه وحواراته، جريئا صريحا، يحفر رويدا ببساطة غير معهودة، ونظرة عميقة الغور.

ليس هذا فقط، بل كان وفيا، يديم علاقاته، حتى مع الشخصيات التي كتب عنها، ولا يقطع حبل الود معها، تخيل ما صنع بالشيخ حسني بعيدا عن النص الروائي، ألم يتابعه ويذهب له ويمشي معه، ويكتم اسمه، وكذا فعل مع الكثير من الشخصيات التي كتبها.

يا صديقي ..

كان أبوك فريدا من نوعه، ليس مثل بقية الروائيين الذين يتخلصون من شخصياتهم، كما يتخلص المريض من علبة الدواء، او الجريح من ضماده، بل يحمل مصير شخوصه ويتحمله، ولا يتخلى حتى عن تلك الشخصيات البسيطة والفقيرة، ولا حتى عن الشريرة، أمثال (الهرم)، والتي زودته بمادة للكتابة والتأمل.

لم يكن كاتبا عاديا، فلا تجعل حزنك عليه عاديا، بل تعال لنصافحه في شرفة الخلود التي وهبت نفسها له دون أن يقصد، أو يتعمد ذلك، فقد كرس اسمه دون أن يسعى، وصاغ أدبه بلا تكلف ولا تصنع، بل دفعته الطيبة المشرشة في أعماقه، لكي يكون حالة كتابية فريدة، لا في مصر وحدها في العالم العربي كله.

والآن يا صديقي

لن نكون تقليديين في استذكاره، ولا مجاملين في حبنا لكاتب استثنائي كبير، وراحل لم يقطع علاقته بنا، وقد ترك لنا إرثا حقيقيا، وملأ أرواحنا بكتابات ليست نمطية أو مألوفة. تعال دائما نعود إليه، فلا نشعر بفقده، ولا نحتاج ساعتها لعبارات مواساة تقليدية.

musa.hawamdeh@gmail.com