شهادة على هامش رحيل الأديب الكبير إبراهيم أصلان

عبده وازن

ساعي بريد الرواية العربية
لطالما خيّل إليّ أنّ إبراهيم أصلان هو بذاته شخصية روائية تحتاج إلى من يجعلها «بطلاً» في رواية تلائم طرائفه الشخصية ومزاجه وإيقاع حياته. فهذا الروائي الذي بدأ حياته «بوسطجياً» حمل معه، إلى عالم الرواية، اللحظات الفريدة التي عاشها متنقلاً على دراجته، في الأحياء وبين البيوت والحارات، راصداً بعينيه النبيهتين حياة الناس العاديين، في الضواحي والمدينة، ومراقباً عن كثب تفاصيل المشهد اليومي الذي لا تختلف واقعيته عن نزعته الفانتازية، الشديدة الطرافة.
جاء إبراهيم أصلان إلى عالم الرواية من الحياة نفسها، في كل ما تعني الحياة من شجون وهموم وأفراح عابرة، وليس من الدراسة والكتب. وثقافته التي ظلّت «هامشية» نظراً إلى موهبته الكبيرة، تأتت له لاحقاً، عندما راح يقرأ بنهم كبار الأدباء العرب والأجانب الذين ترجموا إلى العربية. ولم تمض أعوام على انخراطه في صفوف الكتّاب الشباب آنذاك، بعدما ساعده نجيب محفوظ على التخلّص من مهنة «ساعي البريد»، حتى راح يلمع اسمه ويبرز موقعه الذي اشتقّه بنفسه، والذي بدا منذ معالمه الأولى غاية في التفرد والبداهة. لم يبال أصلان كثيراً بما يسمى «ثقافة» ولم يشأ يومًا أن يسلك درب الكتاب الملتزمين والمناضلين والمسيّسين والأيديولوجيين.
عاش أصلان التحولات التي طرأت على الواقع المصري والعربي من بعيد ولكن كأنما هو في قلبها، تبعاً لانحيازه الدائم إلى عالم المهمشين والفقراء والمسحوقين الذين عاش بينهم وخبرهم عن قرب. وقد حمل هذا العالم إلى قصصه ورواياته، بنضارته وعفويته وبساطته، وبسحره اللامع وطرافته. وهذا ما أصرّ على تسميته «نثار الحياة»، هذا النثار الذي يختصر جوهر الحياة ووجهها الآخر، ببراءة تامة. وكم أفاد أصلان من عيشه في ضاحية «أمبابة» الشعبية، المتاخمة للقاهرة والحافلة بما لا يحصى من الحكايات والقصص والأحداث والشخصيات الجاهزة لأن تدخل عالم الرواية من بابها العريض. وظل أصلان أسير هذا العالم الهامشي بطرائفه ووقائعه حتى بعدما غادره إلى «المقطم» ضاحية الطبقة الوسطى. ويكفي استعراض شخصيات روايتيه «المالك الحزين» و»عصافير النيل» وسواهما حتى يتبدّى بوضوح هذا العالم المهمش الذي لم يغادر ذاكرة أصلان يوماً ولا مخيلته.
وفي الآونة الأخيرة كان أصلان مبهوراً بـ «الثورة» التي اندلعت وهزت الواقع المصري، على رغم تخوّفه من بضعة آثار سلبية قد تنجم عنها، وعمد إلى تدوين يوميات من هذه الثورة كما عاشها في ميدان التحرير. لكنه قال أكثر من مرة إنّ الكتابة عنها لم تحن وينبغي الانتظار قليلاً.
لم أصدّق أنّ إبراهيم أصلان كان في السابعة والسبعين عندما وافته المنية. كنت أظنّه أصغر عمراً، بل كأنني شئت أن أبقيه في الستين. فهذا الكاتب الذي يصخب طرافة وسخرية ما كان ليوحي أنّ العمر قادر على الغدر به، وما كان هو ليصدّق أنّ الشيخوخة ستطرق بابه، على رغم مرضه. كاتب ساخر في الحياة كما في الكتابة، ساخر من الحياة كما من العالم، من الأفكار الكبيرة والصغيرة...ساخر حتى الألم، حتى الأسى الذي يقلب الهزء مأساة. ساخر من شدّة ما عانى وقاسى ومن شدة ما تناسى وتجاهل وتغافل عن الإحساس المأسوي بالحياة.
أذكره جيداً بسيارته «الفولز» الخضراء القديمة، تعانده مرات وتتعطل، فيضحك ولا يشتم، بل يسخر منها مشبهاً إياها بـ «الدابة» الحرون. أذكره في إقباله الدائم على التدخين والشراب وكيف كان يتحايل على زوجته المحافظة، فيخبئ «مؤونته» في مكتبته. ومرة، عندما شاع أمر «شرش الزلوع» اللبناني الذي سبق «الفياغرا» أوصاني بأن أجيئه بما أمكنني منه، ولبّيت، لكنّ «الشرش» هذا لم يكن عند حسن ظنّه.
كان إبراهيم أصلان مقبلاً على الحياة بنهم، يألف العيش كما يطيب له أن يعيشه، ببساطة وألفة ودهشة. وكان له إيقاع خاص به، إيقاع لا هو بطيء ولا هو بالسريع أو المتسارع. كان يشعر دوماً أنّ الوقت ما زال أمامه، وأنّ هذا الوقت الصديق، لن يغدر به...