من حوار أخير مع إبراهيم أصلان

الأوجاع الحقيقية عصيّة على الكتابة

منصورة عزالدين

في طفولته وقع إبراهيم أصلان في غرام القلم الحبر!
رآه في جيب زوج عمته - حين جاء لزيارة بيت الأسرة في إمبابة - فلم يقدر على ابعاد عينيه عنه. استيقظ بعد أن نام الجميع، وتسلل إلى حيث ملابس زوج العمة وأخرج القلم وجلس وحده يتفرج عليه بافتتان. أخبرني أنه يرتجف في كل مرة يستدعي فيها تلك الذكرى: ماذا لو أفاق الرجل من نومه ورآه يفتش في ثيابه؟!
في المدرسة كان على موعد مع قلم حبر آخر، يملكه زميل له. أخذ يتابع زميله وهو يملأ أنبوب القلم من المحبرة، ثم وهو يكتب به. رأى في القلم معجزة ما، إغواءً ليس بمقدوره مقاومته. لاحظ المدرس والطلبة انبهاره هذا، لذا ما إن ضاع القلم من صاحبه، حتى سارع المدرس إلى إتهام كاتبنا بسرقته. شعر بإهانة بالغة، بكى وركض خارجاً من الصف. لم يعد إلى هذه المدرسة بعدها.
ربما يكون هذا الولع هو الإشارة الأولى لعلاقة أصلان المستقبلية بالكتابة. كتب عن القلم الضائع نصاً لا يُنسى في كتابه "شيء من هذا القبيل"، ودائماً ما كان يتذكره حين يحكي عن المدارس الست التي تنقل بينها قبل أن يهجر التعليم النظامي نهائياً ويكتفي بتثقيف نفسه بنفسه.
الطفل المُحِب للّهو وصيد الأسماك من النيل، عشق القراءة بالقدر نفسه. وجد في بيتهم نسخة أصلية من "ألف ليلة وليلة"، خبأها والده فوق الدولاب، بعيداً عن متناول أطفاله. اعتاد أصلان أن يُنزلها كي يقرأ منها خلسة ثم يعيدها إلى مخبئها.
في "سوق إمبابة" انفتح أمامه عالم سحري جديد عليه. وصفه بالسوق الرهيب الذي يحوي كل شيء تقريباً. الأحذية والملابس والمأكولات والطيور، لكن الأهم بالنسبة له: باعة الكتب القديمة. كان يستعير منهم روايات آرسين لوبين والمنفلوطي مقابل قروش قليلة. "معظم الكتب الجيدة التي قرأتها اكتشفتها بنفسي، وكذلك كل المفردات اللغوية، اكتسبتها من خلال تأملي للسياقات. كنت أقرأ كتباً لا أفهم منها أي شيء على الإطلاق فألجأ لتخيل المعنى وفقاً للسياق. وحتى هذه اللحظة، المفردة الجديدة التي تدخل كتابتي أحس بها فوراً. أشعر بها ككشف جديد في محله. وأحتفي بها جداً. ربما لأنني كافحت لتكوين لغتي واكتساب مفرداتي الخاصة. وتعبت منذ صغري في انتزاع المعانى من السياقات المختلفة. من هواياتي المحببة القراءة في "لسان العرب"، لأن المفردة فيه تحضر في سياقاتها المتعددة"، يقول أصلان.
وُلِد إبراهيم أصلان في طنطا عام 1935، على مقربة من مسقط رأس موهوب كبير آخر من جيل الستينيات، هو عبد الحكيم قاسم. انتقل مع أسرته إلى القاهرة في سن لا يتذكرها. والده كان موظفاً أنجب 12 ولداً وبنتاً، مات منهم 5 قبل وفاته. أسرة بسيطة لكنها معتزة بكبريائها لأقصى درجة لأن أصولها تعود لعائلة من كبار المُلاّك. الأم كانت ربة منزل ذكية وقارئة للجرائد بشكل يومي. في طفولته كان منبهراً بها. كثيراً ما آمن أنها تتمتع بدرجة "فوق بشرية" من الحساسية والذكاء. يصفها قائلاً: "كل الأمهات عظيمات، لكن أمي كانت استثنائية بالفعل. كان لديها حدس عجيب وقدرة هائلة على الاستنتاج. كنت أظن أحياناً أنها تستطيع رؤية الأشياء حتى لو لم تنظر لها. إذا نظرت نحوي وأنا حزين تعرف سبب حزني فوراً. كانت أكثر ذكاءً ولماحية من أبي الذي كان رجلاً هادئاً وطيباً ووسيماً ومحباً للحياة مقبلاً عليها".
ورث أصلان عن أبيه هدوءه وصمته وحبه للحياة، وعن أمه حساسيتها وقدرتها على الاستنتاج وحدسها ووسوستها البالغة. وسواسه الخاص يتبدى، وفقاً له، في أمرين أساسيين: كل ما يخص ابنيه، هشام وشادي. والكتابة: "علاقتي بالكتابة يحكمها التشكك والقلق والوسواس المرهق، مع إن ولا حد دريان بحاجة (يضحك)".
كان الأب ينزعج دوماً من إهمال طفله لكتبه المدرسية وانكبابه على قراءة القصص والروايات، لذا لم يتوقع له النجاح في حياته، أما الأم فكانت متيقنة من أن ابنها سيكون ذا شأن عظيم يوماً ما. ظلت، حتى آخر يوم في عمرها، مؤمنة به لدرجة تثير اندهاشه. "أُذِيعت قصة لي، مسجلة بصوتي، في محطة "البرنامج الثاني" قبل أن أنشر أياً من قصصي.. جلست الأسرة حول الراديو تنصت باهتمام، قبل النهاية بقليل غادرت أمي الحجرة، خرجت خلفها فوجدتها تبكي تأثراً وفرحاً. مرة أخرى أيقظتني من نومي متهللة، لأنها بينما تقرأ جريدة الجمهورية وجدت قصة لي نشرها بدر الديب على الصفحة الأخيرة بكاملها. كانت تعتبر كل خطوة أخطوها ككاتب دليلاً على صدق نبوءتها بنجاحي. في هذه الفترة كانت جريدة المساء تدفع للكاتب ثلاثة جنيهات مقابل نشر قصة له، فيما تدفع مجلة "المجلة" خمسة جنيهات، غير أن رئيس التحرير يحيى حقي كان يمنحني سبعة جنيهات تقديراً منه لكتابتي".
كُتِب الكثير عن أن ميل أصلان إلى التقشف اللغوي له علاقة بعمله في التليغراف. تكرر هذا الرأي حتى تحول إلى كليشيه مضجر. يرى هو الأمر من زاوية مختلفة: "يقولون إن لغتي تأثرت بعملي في التليغراف حيث الكلمات قليلة، قد يكون في هذا شيء من الصحة، لكن شيئاً لن يؤثر فيكِ إلاّ إذا كان يتماس مع احتياج داخلي لديكِ. أنا بطبيعتي صموت، وقد تمر عليّ ساعات من دون أن أنطق بكلمة واحدة، فوجدت مكانا الكلام فيه له ثمن مرتفع. أعجبني جداً العمل فيه، لكن هذا لا يعني أن هذا هو سبب التقشف اللغوي عندي، لأنه لو لم تتواصل الأشياء مع احتياجاتك الداخلية لن تؤثر فيكِ أبداً ولن تستوقفكِ".
هذا التفسير يصلح أيضاً مدخلاً لمقاربة ما يُقال عن تأثر أصلان بهيمنغواي، هذا التأثر الذي تمسك به كثيرون رغم تجاوز أصلان له بعد أعماله الأولى. "تجاوزنا، أبناء جيلي وأنا، التأثر بهيمنغواي أو غيره. كان مرحلة، ولعب دوراً بالنسبة لمعظم أبناء الجيل، ثم إنَّ هذه سمات لم تقتصر على هيمنغواي وحده. كانت موجودة في كتابة جويس، وحتى في أشعار إليوت. هي طريقة في استخدام الأدوات، في التعامل مع مشهد، في مراعاة العلاقات بين الأشياء". يقول أصلان، يصمت لبرهة قبل أن يتذكر شيئاً آخر فيواصل: "هناك أفكار نمطية تتردد كثيراً عن هيمنغواي لا علاقة لها بكتابته. كان من الشائع مثلاً أن جملته قصيرة وهي ليست كذلك. الجملة كانت تفصيلاً في مشهد، وينبغي أن تكون على هذا الطول لأنها ترس في منظومة كاملة. سنة 68 أرسل لي صديق يعيش في بريطانيا مجموعة القصص الكاملة لهيمنغواي، وعكفت على قراءتها بالاستعانة بالقاموس، اكتشفت وجود جمل طويلة جداً. لفت نظري في هيمنغواي مسألة جبل الجليد الذي يختفي معظمه تحت الماء، لأنها كانت تتماس مع احتياج شخصي بداخلي، وتتوافق مع ميلي للبعد عن المباشرة، ولحذف كل الزوائد وكل ما هو غير ضروري، مع التركيز على آثار الحدث وما يخلفه في النفس".
حياة أصلان ومعاناته الشخصية، إضافة إلى خجله وحساسيته، عوامل حددت الزاوية التي يدخل منها لإبداعه، وطريقة نظرته للفن وعلاقته بالواقع. عاش حياة غنية جداً وصعبة جداً كان عليه عيشها لأن الحياة لم تترك له خياراً آخر. الكتابة عن معاناته الشخصية كانت ستشعره بدرجة من درجات الصفاقة بحسب وصفه، لأن حوله شعب بكامله، عانى من ظروفه نفسها، ولم يعتبر أي من أفراده أن هذا شيء استثنائي يستحق الكلام أو الكتابة عنه. يسألني العم إبراهيم ضاحكاً: "هأكلم مين عن إيه؟"، ثم يواصل: "أؤمن بأن الأوجاع الحقيقية في حياة الإنسان غير قابلة للكتابة وعصية عليها، لكن ما نعيشه، سواءً أكان حياة طبيعية خالية من الأوجاع أو حافلة به، هو ما نكتب به. هذا هو الزاد الذي نشتغل عليه. بالعودة إلى هيمنغواي، تستطيعين القول إن هذا هو سبعة أثمان جبل الجليد المخفي تحت الماء. تأملت حيوات عدد من الفنانين الكبار وعلاقتها بأعمالهم فتأكد إيماني هذا".
يستدعي صاحب "يوسف والرداء" فان غوغ بإعتباره المثال الأبرز في هذا الصدد. حياته كانت مأساوية ومليئة بالآلام والصعوبات، لكن المتأمل في فنه لن يجد لوحة واحدة تتناول هذه المأساة الحياتية بشكل مباشر. "هذه العذابات كلها، تحولت إلى علاقات لونية ونسب وأحجام داخل اللوحة، لأنه اشتغل بحياته ولم يتناولها. هذا شيء مهم جداً. لو استطعنا تحويل القيم الكبرى من موضوع للتناول إلى أداة للتناول، يمكننا عبر هذا تحويل أي شيء إلى فن. هناك مثلاً جملة كتبتها وأرددها كثيراً: لا يجب أن تتحدث عن الحب بل عليك أن تتحدث بحب، فكل النصابين يجيدون أحاديث الهوى... ولا يجب أن تتحدث عن العدل بل يجب عليك أن تتحدث بعدل لأنه لا يجيد الحديث عن العدل مثل الظالمين. القيم إذا تحولت من موضوع للتناول إلى أدوات للتناول، وإذا تمكن الكاتب من استخدام هذه الأدوات سيحول أي شيء، كما سبق وقلت، إلى فن".
لا يتوقف أصلان طويلاً أمام ما إذا كانت المادة التي يتعامل معها الكاتب متخيلة أم قائمة على وقائع، الأهم بالنسبة له هو كيفية التعامل معها، وهل نجح الكاتب في تحويلها إلى عمل فني أم لا؟ لكنه يستثني الأعمال المستندة إلى سير صرفة، لأن من وجهة نظره "السير الصرفة في شكل روايات، الكثير منها لا يُوَفق، وإن كان بعضها يُوَفق، ويظل المحك في هذه الحالة، الكتاب القادم للكاتب، لأن كل إنسان بداخله كتاب جيد يظل يلاحقه طوال حياته. وكل إنسان على درجة من الحساسية قادر على اخراج هذا الكتاب الجيد إلى العالم. الارتقاء بالإحساس الداخلي مهم جداً بالنسبة للكاتب ويحتاج إلى وقت وجهد كبيرين".
بينما نجلس في المقهى القاهري المزدحم، طلب صاحب "خلوة الغلبان" فنجان "كابتشينو" من النادلة الشابة، فسألته باندهاش: كابتشينو؟! رد بإبتسامة: آه.. كابتشينو. ابتعدت من دون أن تتخلى عن نظرتها المندهشة. فالتفت أصلان نحوي قائلاً: "رد فعلها هذا قد يدفعني لكتابة قصة.. استغربتْ شيئاً لا يجب استغرابه على الإطلاق. هي كائن طبيعي جداً، ومؤكد أن دهشتها مرتبطة بتفاصيل كثيرة، في حياتها الخاصة. تفصيلة مثل هذه تلمس وتراً حساساً بداخلي. أحس فيها بما هو إنساني بقوة. التفاصيل التي تبدو مستغربة على الرغم من عاديتها كثيرة جداً، المهم أن نجيد استقبالها وسط هذا الضجيج الذي نعيش فيه".
حين يقول أصلان كلاماً مماثلاً، لا يأخذ أبداً سمت المعلم أو الناصح. على العكس يبدو كأنما يصرح بأفكاره كي يختبرها ويعيد تمحيصها. لطالما تسلح بالدهشة والشك والتساؤل، وتعجب من أشياء لا تثير انتباه الآخرين، ناهيك عن تعجبهم.
تصلح الدهشة مفتاحاً من مفاتيح عالمه وعلاقته بالكتابة، هو نفسه يقول: "أسعى إلى ما يدهشني، إلى ما يُشعرني أنه اكتشاف جديد".
ثمة أشياء كثيرة ننظر إليها من دون أن نراها، ونقترب منها من دون فكرة، وننساها غير نادمين. وفي ظني أن إبراهيم أصلان لم يتعامل يوماً مع شيء، مهما صغر شأنه، على هذا النحو. كان يدقق في كل شيء يراه، وكل حدث يمر به، وكل مفردة يسمعها أو يكتبها أو يقرأها. أفعال أصلان وكلماته وإبداعه حكمها تناغم ملفت. في حالته، الكتابة لم تنفصل عن حياته وشخصيته. عاش بدهشة طفل ذكي متسائل يبحث عن إجابات لجبل من الأسئلة. ورحل خفيفاً كأن رحيله مشهد عذب كتبه بنفسه. كأنه هو شخصياً شخصية فنية أبدعها بقلمه ونقّاها من كل الشوائب والزيادات.

 

حوار غير منشور أُجرِي مع إبراهيم أصلان قبل وفاته بفترة