إبــراهيم أصلان بين الصـمت وَالكــــــلام

محمد برادة

العـزيـز أصلان رحـل فجـأة، وهو يتـابع حلمـا مـُـتـمنـعـا ًعـلى كـرســيـّه الهــزّاز، وكأنه راح في زيارة قصيرة إلى العالم الأخـروي ليــمـتـح حكايات غـرائبية يـستـوحيها في مـا سيقـصـّه،بعد عودته، على أصدقائه،ويـدونـه على طـرس الذاكرة، مـُـستـمدا من المـوتى وَ "شـعبـهم اللايـُحصـى "، مـِدادا يجدد لـغة الأحـياء الـغارقين في الـثـرثـرة والكـلام المـكــرور . هل كان،قبل رحيله، يحلم بـ" رسالة الغـفـران " التي كتبها المعري عن ذلك العالم الــضــاج بالأصوات والمنازعات بين الشعـراء والكتاب الذين لا يـفـرطون في زادِهــمْ من الخلافات حتى حين يـغـادرون الحياة الدنـيـا ؟

وأذكـر في هذا الصدد أنني تـبادلتُ رسائـل جد متـباعدة مع العزيز أصلان، لا أحتفظ بها، إحداها سجلت فيها انـطباعي عن رائـعته «مالك الحـزيـن »، وأخـرى تحدثـت فيها عن اندهـاشي من ضوضـاء القاهرة ودفــق كلام الناس، إلى درجة تبعـث فـيَّ أحيانا،الـرعب والذهـول. وهذه الرسالة الأخيرة علق عليها أصلان في مقال بعنوان "مدينة الكلام" (صحيفة الكرامة،27 شتـنـبـر،2005)، مسـتـشهدا بفقـرة منها تـقول : «رجـعـتُ بانطباعات مؤلمة من القاهرة لأنها مدينة جـحيمية لا تسـمح بالتواصل ولا بلحظات حميمـة، وضجيجها فوق مـا يـُـحتـَـمـَل،والمـُكافحة الكلامية للمــشاكـل لم تـعـُـد تـُـجدي، ولا يبدو في الأفق مكان للأمل أو التطلع نحو التــغـيـير . دوّامة عجيبـة من الألفاظ والصحف والبرامج التليفزيونية، والتصريحات والتعليقات، واللغـات، والطبقات تـستـمـدّ وجودها وقدرتها على الاستـمـرار من تـكــاتـُــفـها وتـكاملها بحيث لا يـعـقـل تـصـوّر قيام تلك الآليات القاهريــة في غياب عنـصـر من العناصـر... دائما أمـزح مع صنع الله وأقول له: تـصـوّر لــو أن مصـر أضـربتْ يـوما واحدا عن الكلام، وان الكــلامـنجـية اعتصموا بالصمت، هل يمكن لمجتمعكم أن يســتـمـر؟  لـدي ّ إحساس بأن هذا الكلام لا يــأخـذ حجمــه المناسب في الروايات المصـرية: أي أن يكون (في الرواية) كـلامـا يعكس تـعدد اللغات وتـجــَـابُـهـها، ويـؤشــر على خلفيات الأفعال». انتهى ما أورده أصلان من رسالتي، وقد كتب تعليقا جميلا وموحيا لا أستطيع أن أورده كله هنـا، مكتفـيا بما قاله عن احتمال توقف مصـر عن الكلام يوما واحدا :  "السـؤال هذا جعلني أعيش حــالة لم أعـهدها. رأيـتـني أمشي في أحـد شوارع القاهـرة داخل هذا الضجيج الهائل، مـتأبـطا كتبي لا ألوي على شيء. ثم فجـأة، وكـأن يــدا غيـر منظورة أغلقت مفتاح الصوت في جـهاز البـث الـرهيب، ليحـلّ الصمت كــاملا. هي خطوة أخـرى وتـوقـفت متـلفـتا حولي لأرى حشـود الناس وقد ثــبـتت في أماكنها، بينما اشــرأبـّـتْ وجوهها من هنــا إلى هناك في حال من الـوجـل الهائل .(...) رفعــتُ وجهي إلى جدران البنايـات العالية التي لـفـّـتـها أجواء شــُــحـنـَتْ بـنـُـذرٍ من خـطـْـبٍ عظيم، وبـدتْ كأنها سـوف تـتشـقــق وتنـهار بـهدوء كما يحدث في التصـوير البطيء . فكرتُ مسـرعا في ذلك المكان القـريب، الآمــن الذي يـمكنـنـي أن ألجـــأ إليـه؛ ومـا أن فعلتُ حتى سمعتُ الـنـقرات الـرقيقة من لـوحة الكتابة في جهاز المحمول بينما أكتب عليه،وانــتـبـهتُ وأنا أتطـلع عبر الكومة الكبيـرة من الصحف المستـقلة إلى شاشة التلــيـفـزيون، حيث تـبـثّ الجـزيرة مشاهد من احتجاجات " كفايـة" وَ "أدباء وفـنـانون من أجل التـغـيـيـر "، ونـظـرتُ بـعيـنِ الاعتـبار إلى الـدُّوشـة، وحـمــدتُ الله " .

بـقـية الحديث صـمتٌ، أيها العزيز أصلان . يــعـِــزُّ عـلـيَّ غـدا ألا أجد من أبعث إليه رسالة لأشـركـَه ُ في موضوع غـيـّـبه النسـيان ثم انبـثق فجأة يبحث عن أذن تجيد الإصـغاء.