إبراهيم أصلان ‏..‏ نقاء القلب واللغة

بهاء طاهر

أفهم الآن تماما حال أمير الشعراء أحمد شوقي حين استهل قصيدته في رثاء حافظ ابراهيم بعبارة قد كنت أوثر أن تقول رثائي‏.‏ كانا صاحبين مترابطين وحين فقد شوقي صاحبه عبر عن شعوره بالوحدة في العالم‏،‏ بل ببتر جزء من نفسه بذلك النداء الموجع‏: ‏لم سبقتني؟

وأنا لست أميرا للشعراء، ولم تربطني بابراهيم أصلان علاقة التلازم في الحياة، نادرا ماكنا نلتقي في السنوات الأخيرة، اقتصرت علاقتنا علي مكالمات تليفونية متفرقة، لم تعد سني ولاصحتي تسمح لي بالحركة النشيطة والتنقل، لكن خبر رحيله المفاجئ انقض علي وبترني علي الفور: لم سبقتني؟ مابيننا كان أعمق بكثير من اللقاءات والمكالمات، كلانا من سن واحدة بالضبط، بدأنا الكتابة في وقت واحد في الستينيات عندما التقينا وأحببته الحب كله منذ عرفته وحتي نهاية العمر.

أحببت الانسان الصافي النفس والكاتب صاحب اللغة الفريدة الصافية، وكنت أقول له صادقا انه شاعر القصة القصيرة مع بعد لغته التام عن الشاعرية والبلاغة، لكن قصص ابراهيم أصلان يجب قراءتها كما تقرأ القصائد الجميلة، مرة ومرات دون أن ينفد سحرها، لأن استمتاعك بنثرها يزيد مع كل قراءة، وتذوقك لجمالياتها يزيد مع كل قراءة جديدة مثل الشعر الحقيقي حتي تود لو تحفظها حفظا، وأن تترنم بها مادمت تحب الأدب وتتذوق اللغة. وكان ذلك حالي بالفعل عندما قرأت قصص مجموعته الأولي (بحيرة المساء) التي كان ينشرها متفرقة في الصحف مثلما كنا نفعل جميعا في الستينيات. اعتدنا أيامها أن نلتقي بانتظام في مقهي ريش مع مجموعتنا من الكتاب الناشئين أيامها ـ محمد البساطي وكان أقربهم الي قلب ابراهيم، وجميل عطية ابراهيم وغالب هلسا وابراهيم منصور ويحيي الطاهر عبد الله وعبد الحكيم قاسم وخيري شلبي، عدا الشعراء والنقاد وبقية أصحاب المرحلة، ولم أر أصلان أيامها يشترك في المشاجرات العنيفة التي كانت تنشب أحيانا بين الأدباء في ريش، لا في أيام الشباب الصاخبة ولا بعدها، كأنما كان هناك نوع من الاتفاق الضمني بين الجميع علي أن يظل أصلان خارج نطاق، أو فوق نطاق هذه المشاحنات الشبابية، هو يبذل الود للجميع، وهم يبادلونه ودا بود، وأحيانا كنت ألتقي باصلان في خلوة هادئة بعيدة عن صخب ريش في أحد مقاهي شارع عماد الدين القديمة الجميلة التي اندثرت الآن مع الأسف. وكنت أجده هناك في صحبة كاتب عزيز علي كلينا هو الراحل المبدع عبد الفتاح الجمل صاحب الفضل علي جيلنا كله، أثناء رئاسته للملحق الأدبي لصحيفة (المساء)، ورأيت أصلان مرات أخري وهو يتمشي مع أستاذنا الحبيب يحيي حقي في شوارع وسط البلد، وكان أصلان هو ابنه الأثير من بين كتاب الستينات. جمع بينهما في رأيي نقاء القلب وصفاء اللغة، ولن أبالغ إن قلت ان كل من اقترب من أصلان قد أحبه، بل حتي من عرفوه عن بعد، أو من خلال كتابته وحدها، وقد ظل مثلا أعلي لأجيال متعاقبة من الشباب في مصر وفي الوطن العربي فتنتهم لغته وأسلوبه.

وأذكر بهذه المناسبة أني قلت له ذات مرة أني أغار منه، لم أكن أغار منه ككاتب، فلا هو ولا أنا كنا نقلد غيرنا، أو نعاني من أي شعور بالنقص، واستطاع كل منا أن يحقق ذاته بصوته الخاص، لكن كلما أتت صحيفة أو مترجمة أو أديبة أجنبية لتجري معي حوارا كانت تسألني في النهاية، وهي تسبل عينيها، ان كنت أعرف تليفون ابراهيم أصلان! قلت ان الغيرة تنهش قلبي بسبب اقبال الحسناوات عليه، وسألته هل للشارب الكث علاقة؟ وهل يمكن أن أنجح مثله لو ربيت شاربي؟ فقال بايجازه المعهود وهو يضحك جرب، لكني كنت أعقل من أن أجرب واكتفيت بأن أحسده وأحبه.
ذكرت أن علاقتي به تأثرت مثلما تأثرت بكل أصحاب الشباب بسبب غيبتي الطويلة المفروضة خارج مصر، لكني ظللت أتابع كل عمل ينشره، سواء وأنا خارج مصر أو داخلها. ولم يفتر اعجابي بنثره البديع عندما قرأت (مالك الحزين) التي حولها داود عبد السيد الي فيلم (الكيت كات) و (يوسف والرداء) و(وردية ليل) و(عصافير النيل) الي (حكايات فضل الله عثمان) و(خلوة الغلبان)، وفي كل مرة أقرأ له كانت تعاودني حالة النشوة والانبهار التي عشتها مع أول قصة قرأتها له في مجلة( جاليري68). قصة «في جوار رجل ضرير» التي اعتدت أن أضرب بها المثل كلما سألني أحد عن إنجاز جيل الستينيات في اللغة. فها هو سرد قصصي يخلو من كل زخرفة لغوية، الجمل كلها تقريرية، تكاد تكون مقصورة علي فعل وفاعل ومفعول به، ولكن هذه اللغة تستطيع أن تأسرة من أول جملة بشحنه عاطفية باطنية، تظل تتصاعد معك حتي نهاية القصة، وانظر الي مطلع هذه القصة الغريب التي تبدأ بمقاطع كما يلي:
(1)
لم يحدث شيء.
(2)
حدثت بعض الأشياء القليلة جدا، بعد تفكير طويل آثرت أن انتهي الي الاعتقاد بأنها قد لاتكون ملائمة بالقدر الكافي.
وتتتابع مقاطع القصة علي هذا النحو يرويها بطلها الأعزب الذي يسكن غرفة صغيرة فوق سطح أحد المنازل، لايظهر من الشخصيات الأخرى الا صاحب البيت الضرير، وجار أو شبح جار في غرفة أخري فوق السطح، لكن ابراهيم أصلان يستطيع أن ينطق الصمت في هذه القصة، وأن يجعل للصمت حضورا كثيفا أقوي من الكلام والصخب.
لاأحد يستطيع ذلك سوي أصلان، وجرب أن تقرأها بنفسك.

رحل الناقد الصديق عبد الرحمن أبو عوف قبيل رحيل أصلان، ولم أستطع حتي حضور جنازته أو عزائه، ولكني تذكرت أنه قد كتب قبل سنوات نقدا وتحليلا لهذه القصة وصف فيه لغته بأنها لغة احتمالية (غير يقينية) تتكون من عبارات ممطوطة متآكلة النهايات وألفاظ لها ايقاع موسيقي، وتوحي بأكثر من معني. وأظن أن هذه القدرة علي الايحاء هي الانجاز اللغوي الأكبر لإبراهيم أصلان، الذي سيبقي مابقي الأدب العربي، سيبقي عصيا علي التقليد، وعصيا علي النسيان. وهناك كثير من الدراسات النقدية التي تحلل قصص أصلان من منظورات اجتماعية ونفسية بل وسياسية، كلها مهمة وجديرة بالقراءة غير أن الخطأ الوحيد فيها هو محاولة سجن أعماله الابداعية في أقفاص هذه التحليلات الحديدية وحدها، وهي أعمال تريد أن تحلق وأن تتجاوز قيود الزمن والتصنيف.

كان آخر لقاء لي مع ابراهيم أصلان في ندوة في صحيفة (الأهرام) مع اتحاد الأدباء الفلسطينيين، ضم الي جانب رئيسه الكاتب يحيي يخلف عددا من الكتاب الفلسطينيين كانوا مفتونين كالعادة بإبراهيم أصلان، وقد قال في تلك الندوة أن ايمانه بقضية فلسطين وكراهيته للصهيونية تكاد تكون من مكونات جيناته وبعد الندوة أعطانا رئيس تحرير (الأهرام) سيارته الخاصة لتوصيل الكاتبين العجوزين، وكان منزلي هو الأقرب فنزلت ولوحت لإبراهيم مودعا وتواعدنا علي اللقاء.. وسنلتقي.