كانت رسالة تلغرافية فعلاً

«وفاة الروائي إبراهيم أصلان»

أحمد زغلول الشيطي

محاولاتي الهروبية قبل مواجهة لحظة الكتابة تفاقمت بشدة وأنا أواجه صفحة "الوورد" البيضاء التى ينبغى ان أملأها بكلمات عن ابراهيم اصلان، من اعداد فنجان قهوة، الى تدخين سيجارة، الى التجول في الشقة دون هدف، الى وضع كلمة "أصلان" على محرك بحث غوغل، واكتشاف ان النتيجة الاولى هي عن اصلان مسخادوف المقاتل الشيشاني، ثم صوره وهو عقيد بالجيش الروسي، وهو جثة هامدة عاريا على الارض بعد اغتياله في قرية تولستوي، ثم التأمل المطول لهروب تولستوي ذاته من زوجته، وموته في محطة سكة حديد روسية وتصورات لا أعرف مصدرها عن كآبة المحطة. ثاني النتائج هي عن اصلان الآخر، أبو خليل، صاحب "بحيرة المساء" التي اصدرها حين كان اصلان مسخادوف في الثامنة عشره من عمره، وكنت انا في الثامنة. لماذا تفاقمت محاولاتى الهروبية .. على غزارة التأثير الشخصي لأصلان علي؟ لماذا اجد صعوبة في الكتابة عنه مباشرة؟ هل لأننى لا اتصوره راحلا، ينبغي الحديث عنه بضمير الغائب، هل لانه سيد البلاغة القائمة على الحذف والتكثيف؟ و «ياناثانيل أوصيك بالدقة لا الوضوح» وقناعتى ان الدقة والوضوح لا يعلمهما الا الله، وان أصلان ذاته تجاوز بضاعة الستينيات ما بعد "بحيرة المساء"، وراح يكتب محبا للكتابة اكثر من الدقة والوضوح، حتى انه وصل بالسرد الى قمم العارفين في "حجرتان وصالة".
كأن ضحكي وبهجتي وعشقي للعب والهروب يتفاقمان وأنا أتابع حكايات العجوز من امبابة والوراق الى المقطم مع زوجة واحدة تظهرها الصور القديمة كشابة ببنطلون جينز وشعر منطلق بما يتناقض مع ما آلت اليه بعد زواج طويل من مناكفات حميمية يومية هى من المستلزمات الملحة لطريقة ما في الحب والعشرة والحياة. أظن ان اصلان صار يكتب كما يتنفس ويضحك ويتكلم ويجلس في الجريون او ميريت عند محمد هاشم مع سيجارة مختلسة رغم النواهي الطبية، وبقفشات منحوتة لغويا بطريقة اصلانية تخلط ما بين الفصيح والعامي بلعب متقن ومرتجل في آن.
تعرفت عليه ربما في اوائل مراهقتي، حين كتبت قصة قصيرة تتحدث عن حياة غامضة، تجري خلف سور مضرب الارز العالي في مدينة دمياط. قرأها صديقي محسن يونس الذى يكبرني وقال لي اننى ينبغي ان اقرأ "بحيرة المساء" لابراهيم اصلان. لم أسمع عنه من قبل. كيف يكون جيدا الى هذه الدرجة ولا اعرفه، كان الكتّاب هم نجيب محفوظ، يوسف ادريس، وقبلهما احسان عبد القدوس .. صارت "بحيرة المساء" الكتاب بالنسبة لي لفترة طويلة، وعرفت انني سأنضم الى فئة من المغمورين الفقراء الذين سيحتاجون الى درجة من التخصص أو التربص لمعرفتهم. وبالفعل كما يمكن التوقع صرنا اصدقاء، وصار مسؤولا عن احدى الحكايات الكبرى في حياتي .. حكيت اكثر من مرة انه استلم مخطوطة روايتي الاولى، وكنت شابا قادما من الاقاليم تفوح من ملابسه رائحة قطار الدرجة الثالثة. اذهلني اصلان، وأضافني بضربة قوية الى فئة لن استطيع الفكاك منها بقية حياتي. لقد صرح في الصحف ان افضل عمل قرأه لهذا العام هو "الحب في زمن الكوليرا" ومخطوطة "ورود سامة لصقر" لشاب اسمه احمد زغلول الشيطي. ليت ماركيز يعلم، كان العمل مجرد مخطوطة لم تنشر، وكان يمكن التجاوز عن ذلك دون لوم.
صباح يوم الجنازة كان يقف الى جواري محمد صلاح العزب امام مسجد بلال بن رباح في المقطم، سألته هل يفعل أي منا ما فعله اصلان معي؟

كان بالقرب منا سعيد الكفراوي صديق اصلان القديم وجاره في السكن، كان يرتدي معطفا شتويا ثقيلا قاتما يشع منه الحزن، وكان منحنيا قليلا ولا يمل من حكاية الحكاية مرة اخرى عن اللحظات الاخيرة، وعن الكرسى الهزاز الذى طالما كتب عنه ومات عليه في النهاية، ومشكلة نقل كتبه من امبابة الى المقطم، وكيف انه نصحه ان يجلس امام الكتب ويقول الكتاب ده كويس احتفظ به وده كتاب وحش يلقيه جانباً، ثم ينتحب: هيعوز ايه ابراهيم .. كتب ايه اللي هيعوزها. لم افهم ان كان كلام سعيد رثاء للعمر الذي ولى، وعدم الحاجة لأي كتب اخرى، ام لانه حاز المعارف الضرورية اللازمة لاجتياز ما بقي من العمر. حين عرّفني محسن على أصلان قال لي انه صاحب لغة تلغرافية وانه يشبّه بهمنغواي في مصر، وان اصلان نفسه كان موظف تلغراف .. قيل هذا فيما بعد كثيرا، واظن ان اصلان خالف كل تنظيرة قالها، لان نظريته كانت اسلوبا شخصيا، وسمعت منه تعبيرا اظنه من اختراعه عن احد اصدقائنا الماركسيين، كان ينتقد فجاجة بعض مواقفه تجاه بعض الكتابات الجديدة، قال ابراهيم: معلهش اصله قامط على النظريه حبتين، انفجار في الضحك، دون أي ضغينة تجاه اي احد.
كان من المعتاد ان يلكز خير شلبي من آن لآخر بجمل تلغرافية لا يدرك ما فيها من تهكم سوى خيري ذاته، فكان يثور، حتى تظن انه سيفتك بابراهيم عندما يراه ثم تفاجأ انهما كالسمن على العسل. كان خيري يتفاخر وسط غضبه انه كتب عشرات الكتب وآلاف الصفحات في حين ان هذا الكاتب المسمى اصلان" كتبله في حياته خمسين صفحة". بعد ان شيعنا ابراهيم الى مثواه بمقابر باب النصر، قال محمود الوردانى ان ابراهيم اصر ان يلحق بخيرى شلبى في الآخرة حتى يكملا الخناقة فوق، المسافة بين رحيليهما تقل عن اربعة اشهر، وكان اصلان آخر انسان يكلمه شلبي قبل رحيله، لقد تكلم معه شلبي على التليفون الى قرب الفجر سأله شلبي عن الجزء الاخير في ثلاثية دانتي. قال له ابراهيم اظنه: الجحيم، وطبعا هذا غير صحيح فالجزء الاخير هو الفردوس. اغلق عم خيرى السماعة وتوكأ عصاه ورحل. بإيجاز وتكثيف تلغرافي على عكس كتاباته السيالة، رحل وهو يظن ان الجزء الاخير هو الجحيم، في حين ان ابراهيم أفلت من وعكته الاخيرة، وجلس يقهقه مع الاصدقاء في القصر العينى، لدرجة جعلت احد الاطباء يتدخل ويطلب خفض الصوت لوجود مرضى في العنبر المجاور .. هذا هو الحد الأقصى لما يمكن ان اقوله، ثرثرة ما حول حدث جلل.
الساعه الرابعة بعد عصر يوم السبت 7 يناير جاءتنى رسالة تلغرافية فعلا على شاشة الموبايل "وفاة الروائي ابراهيم أصلان". كنت في ميدان عابدين ضمن فاعليات ائتلاف الثقافة المستقلة لغرض توقيع كتاب مائة روائي في مئوية نجيب محفوظ. شعرت ان ساقيّ غير قادرتين على حملي، قلت لمنظم الحفل انني لن استطيع البقاء، وذهبت للبحث عن تاكسي يقلني الى المقطم حيث منزل ابراهيم. وصلت في نحو السادسة كان هناك اصدقاء سبقوني، رأيت شعبان يوسف يبكي وسعيد الكفراوي ومحمد هاشم، وابنه هشام أصلان. كان عدد من المقاعد قد رص عند مدخل العمارة. جلست عند المدخل أنتظر، ثم عرض شعبان علينا الدخول لتقديم العزاء لزوجة ابراهيم قلت: انني اريد ان ارى ابراهيم، كان يتقدمني في الردهة اشرف عامر ثم انا ومن خلفي يوسف القعيد. دخلنا الى الحجرة. كشف اشرف عامر الغطاء، ظهر ابراهيم ممدداً على سريره كأنه نائم، وكان شعره الابيض الغزير مرتجل التصفيف بأناقة كعادته، شعرت أنه سيستيقظ اذا ما لمست يدٌ كتفه، انحنيت وطبعت قبلة على جبينه.