إبراهيم أصلان .. وداع صانع التحف

عباس بيضون

منذ وقت لم يطل. كان آخر حديث تليفوني لخيري شلبي مع إبراهيم أصلان. بعد هذا الحديث وصل إلى إبراهيم أصلان خبر خيري فذهب وأغرق جسد خيري بدموعه. ليت الدموع تسعفنا بعد أن وصل إلينا خبر إبراهيم. ليت الدموع تتحنن علينا. إذا كان للوداعة واللطف والأريحية اسم آخر سيكون إبراهيم أصلان، كلما ذكرنا مصر ذكرناه معها. كان مهدداً منذ وقت لكننا حسبنا أن الموت نسيه وأن غفلته عنه ربما تطول. لم يكترث الموت للعبتنا وغفلتنا وجاء قبل أوانه. قبل أوانه بالتأكيد فإبراهيم أصلان كان بكلمة واحدة حيا حتى آخر نفس فيه، صوته وسيجارته وحركات يديه زاخرة بالحياة، لم يكتب كثيراً إبراهيم أصلان، أمضى حياته كما قال وهو مرعوب من الكتابة. لكنه كان مثل قصة دائمة. لكم أشبه أدبه، الدقة والطرافة والشاعرية والصدق كانت تجمعه به. كان يعرف الأدب لدرجة ان يندمج فيه، كان يعرفه إلى حد أن يكونه. تسمعه يتكلم فتظن انك أمام قطعة من كتابته. لم يكتب كثيراً مع ذلك، لقد كتب بأنفاسه ونبضه وفنائه في الكتابة ومن هو كذلك لا يهتم بالكمية بل لا يعيرها التفاتاً، لم يكتب كثيراً مع ذلك فإن كثيرين، كثيرين جداً يرونه أكبر كتاب جيله، كثيرين مثله لم يعطوا اعتباراً للكمية، من كتب «مالك الحزين» و«عصافير النيل» و«وردية ليل» لا يحتاج إلى أكثر. كان إبراهيم أصلان، ربما، الكاتب المحبوب أكثر في الوسط الأدبي كله، المحبوب أكثر بالتأكيد، يعود ذلك إلى احترام عميق لتجربته قلما حظي بها كاتب، كما يعود أيضاً إلى أخلاقه، إلى ترفعه وأنفته وبعده عن المشاحنات الأدبية، بعده عن المنافسات العقيمة واحترامه الكبير لكلمته وأريحيته وقلبه الكبير العامر بالحب، كان محبوباً أكثر لقدرته الهائلة على ان يحب. يصعب ان نجد في الوسط الأدبي شخصاً بهذا الخلق. شخصاً احترم الأدب والكلمة لدرجة أن لا يبتذلهما، ان لا يتناتشهما، ان لا ينازع عليهما، كان مع ذلك ذا أصابع ذهبية. يكتب خبراً فتراه يتألق في مكانه. يكتب يوميات فتشع، يكتب أي شيء فتعرف انك أمام تحفة صغيرة. مع خيري شلبي وإبراهيم أصلان اللذين لحقا بعضهما إلى الغياب يتزعزع جيل الستينيات، نشعر أن تجربة كبيرة بدأت تطوى.
هكذا نجد أنفسنا أمام التاريخ الأدبي، أمام صفحة رائعة بدأت تدخل في التاريخ. ربما يحرّض هذا مؤرخي الأدب والنقاد على أن يبذلوا جهداً أكبر، على أن يجدوا أنفسهم أمام مهمة ملحة. مع ذلك فإننا نخسر إبراهيم لا كاتباً فحسب ولكن إنسانا وصديقاً. بل نخسره مثالاً، أخلاقياً وإنسانياً، ليت الدموع تسعفنا، ليتها تتحنن علينا، ستكون القاهرة العظيمة التي سر إبراهيم أن العمر سمح له بأن يلحق ثورتها، ستكون القاهرة بدون إبراهيم أصلان شاحبة شيئاً ما، ستكون «أمبابه» مكسوفة في قراراتنا وذاكرتنا. عم إبراهيم لن يلعلع بصوته ولن تفرقع ضحكته بعد. عم إبراهيم لن يكتب قصة اخرى.