عندما طار مالك الحزين

محمد خير

من المعروف بداهة أن أمثال إبراهيم أصلان حينما يموتون فإنهم لا يموتون فعلا، لذا فإن الحزن العادى على الموت قد لا يكون هنا في محله، وإنما هو حزن صمت الموسيقى فى نهاية الحفل، واعتزال اليد عن هوايتها في نحت الكلام، وانتهاء الوعد بتلقّي المزيد من النصوص الأصلانية المتأنية المتباعدة الفريدة، ولأنه ليس موتا حقيقيا فلا عزاء يفلح فيه، سوى أن العم أصلان منذ «بحيرة المساء» إلى «حجرتان وصالة» لم يحفل كثيرا بالزمن، فيسهل أن تقرأ كتاب اليوم كأنه كتاب أمس، وكتاب أمس كأنه كتاب غد، ولم يخيّب أصلان ظنّ البداهة فانتهز الرحلة الأولى بعد خيري شلبي وغادر متأخرا عنه أربعة أشهر، كأنما كان يتأكد خلالها أن رفيقه قد وصل هناك وجلس في انتظاره.

في عام 1971 عندما أصدر مجموعته الأولى «بحيرة المساء» كان في منتصف الثلاثينيات، وهى سن يصلها كتّاب اليوم وفى حوزتهم ثلاثة كتب أو أربعة، لكن أصلان لم يكن يعانى أزمة نشر بل يعتنق تمهلا نادرا في الكتابة، اتضح في انتظاره أحد عشر عاما لينشر «مالك الحزين»، ولا يترك شيئا للظنّ فيكتب في نهايتها أنها كتبت بين ديسمبر 1972 إلى أبريل 1981، هذا التأني لا يعنى سوى أن صاحبه لا يحفل بما يتقاتل عليه الآخرون من «مجد» و«عالمية»، وها هو ذا يغادرنا وليس في جعبته -أو في جعبتنا منه- سوى 9 كتب، وهى كتب تتنوع لا كما يتنوع الآخرون بين رواية وقصة أو بين شعر ومسرح، بل تتنوع بين نصوص يمكن أن نصنّفها ونصوص لم يسمّها سواه، «متتالية منزلية» هو الاسم الذى أطلقه على كتابه الأخير «حجرتان وصالة»، وفى كتابيه «خلوة الغلبان» و«شيئ من هذا القبيل»، ثمة إيحاء مخادع بأننا إزاء مقالات لا نلبث أن نكتشفها كحالات عصيّة على التصنيف، لكنها ليست عصيّة على القلب والمشاعر، وفى إحداها يقول إنه اختار اسم «بحيرة المساء» من نصف شطر بيت لعبد الوهاب البياتي، وبعد سنوات يلتقى الشاعر العراقي فينصحه الأخير بأن «على الواحد أن يعيش ويراقب ما شاء، شرط أن يحرص على بقاء مسافة بينه وبين الواقع، مسافة يأمن معها أن لا ينكسر قلبه»، لكن أصلان يعترف أن القلب انكسر فعلا، ومع ذلك يبدو أن نصيحة الشاعر وجدت موقعا مألوفا في كيانه، فراقب العالم كأن لديه الزمن كله ولهذا ربما لم ينشغل بالمعارك الصغيرة بل بالتفاصيل الصغيرة، ورسمت فرشاته العالم عبر جزئياته الدقيقة ولحظاته الغافلة وكلماته العابرة، ووضع عدسته على الأرض ليرى ملحها ويتتبعه وينقل عنه دهشة لا تنقطع ولا تنتهى، وفى جميع نصوصه تكاد الصفحات تضئ من فرط البياض لقلة الكلمات، ويبدو السرد الفعلي أحيانا ليس في الأحرف والعبارات بل في المساحات الخالية بينها، ويكاد يستحيل اقتباس شيئ من النصوص، فالدهشة ليست في سطر بعينه بل في ما يظهر وما لا يظهر معا، يصعب الاجتزاء والاقتباس ولهذا فعندما اقتبس داوود عبد السيد «مالك الحزين» في فيلمه «الكيت الكات» استقى روح النص وصنع منه لغته السينمائية الخاصة، وهكذا احتل «الكيت كات» مكانه في قائمة أهم الأفلام واحتلت «مالك الحزين» مكانها بين أهم الروايات، ومع ذلك كادا يصبحان شيئين منفصلين، لكن سر الشخوص الساحرة في العملين يبقى طبعا عند الروائي، إذ ربما كان ثمة سبب آخر لقلة أعماله هو أنه لم يكتب سوى عمن يعرف، وعندما عمل في إدارة البريد كان شابا صغيرا وفتحت له الباب مراهقة جميلة تسأله فجأة «إنت بتشتغل كده ليه؟ كنت في الثامنة عشرة من عمرى، وهى لاحظت حرجي وصمتي، وقالت مستنكرة: إنت شكلك حلو (مضى على ذلك مئة عام طبعا) سيب الشغل ده واشتغل شغل تانى. وأخذَت الخطاب وأغلقت الباب». لكنه لا يحكى تلك الحكاية في كتابه «وردية ليل» الذى يدور في عالم موظفي البريد، بل ينتظر أربعين عاما ليحكيها في «خلوة الغلبان»، انتظار هو نوع خاص جدا من تقطير التجربة وتقطير الكلام، ومن يعلم فربما دفعته تلك البنت حقا في ذلك الزمن البعيد كي «يشتغل شغل تاني»، لكن نصيحة كاتب عجوز مغمور لم تكن تقل إدهاشا، عندما نصح الشاب إبراهيم «لازم تكتب، الكتابة هي الشيئ المهم»، ويسكت الشاب متأملا سوء حال الرجل فإذا بالعجوز يصيح فيه غاضبا «أنا مش مقياس. فاهم؟»، (شعرت بالخجل والدهشة ونحن واقفان وسط الزحام). وسواء كان السبب صرخة الرجل أو سؤال البنت أو نداءه الذاتي فقد وجد الشاب نفسه في طريق كتابة لا تتعجل نفسها، وبين مصلحة البريد وحوارى إمبابة وشوارع الكيت كات وجد الناس الذين عبر من خلالهم إلى أسئلة الوجود، وعندما ترك كل ذلك إلى سكنى المقطم البعيدة عن الزحام، كتب الحزن المنزلي في «حجرتان وصالة»، حيث التلصّص على الكفاح الذاهل لكهل ترحل زوجته، وتتركه في متاهة الأدوات المنزلية وعلب الدواء، ثم ينتقل أصلان نفسه في أيامه الأخيرة من بيته إلى بيت آخر، وفى عموده الأخير في «الأهرام» يسأل نفسه «هل يليق أن تكون البلد هكذا، وتروح أنت تحدث القارئ عن الكتب والانتقال من مسكن إلى آخر، هل هذا كلام؟». ثم يجيب «إن تلك الحكايات الصغيرة العابرة التي نتبادلها طيلة الوقت، في كل مكان، هي ما يجمع بيننا، وما يبقينا على قيد الحياة».