حكايات من فضل الله عثمان

أو البحث عن ألفة الروح والجسد

عبدالرحيم مؤدن

فاتحة
في قصص "إبراهيم أصلان"- ورواياته أيضا-  هاجس ا لبحث عن الإئتلاف الروحي الروحي والجسدي، بين الكائن الإنساني، وبين ما يحيط به من مكونات هذا الفضاء، سواء كان إنسانا، أو شيئا من الأشياء (جدار/ كنبة/ شجرة/صورة فوتوعرافية/ ضفة النهر ..الخ) أو استرجاعا للحظة محددة (طفولة/ علاقة إنسانية..) والفضاء، في هذا السياق، قد يكون في حجم حبة عدس، وقد يكون، في حجم الحلم- وهو بسيط في كل الأحوال- الذي تلتف حوله شخصيات هذه المحكيات، من خلال  الرغبة  الإنسانية في اللقمة النظيفة، وشربة الماء غير الملوثة،والتمتع بتدخين سيجارة عادية دون منغصات مادية،أو نفسية. الفضاء، عند إبراهيم أصلان، يعادل " الشرط الإنساني، سلبا أوإيجابا.

النص
تنطلق هذه النصوص1 من "المنسي" و"المهمش" والذي نمر به مرور الكرام، أو اللئام، و"البسيط" و"العادي" إلى  غير ذلك من مرادفات  تصدق على مقولة "فرانك أوكونور" الشهيرة حول ارتباط (القصة القصيرة) ب "الجماعة المغمورة"، او المعزولة، لسبب أو لآخر، لكنها تمارس، في الوقت ذاته، طقوس الموت والحياة- وهما وجهان لعملة واحدة-بإصرار وعينين مفتوحتين، من جهة،  واستسلام للقدر المرسوم على الجبين الذي لابد أن تراه العين، من جهة ثانية. ولعبة المهمش تبدأ مع العنوان الذي يستند إلى الإيهام  بالتداخل بين:

أ- اسم العلم واسم المكان. فمن المؤكد أن "فضل الله" سابق على المكان والذي حل محل الشخصية بعد ان تحول إلى فضاء للحكاية التي وجدت في الفضاء" طرسا"  موشوما بمحكيات الذين مروا، ويمرون بمختلف زواياه، وجنباته، في لحظات محددة، من الزمان، ومواقع معينة من المكان.

ب- التداخل المقصود في التركيب الإسمي للعنوان الذي يحيل إلى مصدر حكائي يرتبط بالموهبة الفطرية، وهي من فضل الله،لكنه، في الوقت ذاته، يظل ملتصقا بالصوت الجماعي المجسد في حكايات الناس الصادرة عن هذا المكان. إنه تداخل بين الصوت المفرد(فضل الله عثمان) والصوت الجماعي (الحكايات المنقولة)2، والسارد يظهر ويختفي بين الحدين مفسحا المجال لهذه الجماعة التي شكل كل فرد من أفرادها، وضعا إنسانيا، عكس  تفاعلاتها المتعددة بالمكان، ومحمولاته المادية والرمزية  عبر جدلية الحياة والموت. البؤرة الحكائية، إذن، لاتغادر المكان – شارع فضل الله عثمان- الذي يتحول إلى "خشبة مسرح، ضيقة، مكانا، متسعة فضاء،3" تتوالى عروضه اليومية بدون اقطاع،أو توقف. وفي حالة الإ بتعاد عن المكان، لسبب او لآخر،  فإن العودة – تذكرا أو استرجاعا- إليه من قبل السارد تظل هي البداية والنهاية محفوفة بالرغبة الملحة في معرفة مصائر البشر والماء والحجر والشجر.كل  ذرة من مكونات الشارع، تسهم في إنتاج الحكاية التي يصبح  بواسطتها السارد، بدوره،  جزءا من هذه المكونات،وهو يناقل  الخطو، عبر الشارع، معرجا على البيوت والمصاطب وكراسى المقاهي وضفة النهر والأكشاك ومعروضات الأرصفة وذكريات  زمن تبعث، من جديد،  محمولة على جناح روائح حريفة،أو هيجتها  صور لاتبلى لأوضاع إنسانية مختلفة.

 كل شئ في "شارع فضل الله":

يرد اسم الشارع، أعلاه، مرات عديدة (الصفحات التالية:10/55/60/61/69/79/115/139/..). وهذا التردد للشارع، عبر صفحات النص، يجعل منه  مرجعا في عملية القراءة والتأويل. فى النص، يظل شارع فضل الله ثابتا في الإسم، متغيرا في الدلالة التي أخذت التنويعات التالية:

أ-  صلة الوصل بين الداخل والخارج،  الضرو ة والحتمية، الوحشة والألفة، الفرد والجماعة / الحياة والموت. في " مشوار"(ص10.) يصبح الخروج إلى الشارع، من قبل المرأة، الحاملة للصبي، بحثا عن" شقة من الفول"، ضرورة لا مفر منها حتى تستمر الحياة.

ب- وسيلة لتذكر ما ضاع من الشخصية في زحمة الحياة. هكذا  يسترجع السارد صورة " عبد الخالق" الحانوتي، وهو على فراش الموت، في لحظة معبرة تجمع بين مهنة الحانوتي- دفن الأموات- وبين ما رآه السارد أثناء متابعته ل'عبد الخالق'(وهو يخرج لسانه ويلحس عصير الليمون عن شاربه).ص.60. مفارقة مضحكة مبكية بين امتهان ا لموت والحياة أيضا.الأمر  سيان .

ج- دلالة على استمرار الحياة، بعد  غياب أحد ساكني شارع " فضل الله عثمان". للموت حرمته، لكن للحياة مطالبها القاهرة مما دفع بالأم إلى دفع  ابنها " رزق"- لاحظ  دلالة الإسم- لأخذ المحفظة من جيب صديري  جثمان أبيه الذي لم يبرد بعد، مستعملا  المقص لقطع الخيط الذي  يمتد من العروة نحو المحفظة، دون أن يفقد احترامه نحو الأب.( يمد يده نحو فتحة الجلباب إلى جيب  الصديري. يهمس: "لامؤاخذة يابابا").ص.68.

د- وهو وسيلة من وسائل القضاء على الرتابة ، أو الملل، ولو من خلال إطلالة سريعة عبر (النا فذة المفتوحة إلى فضل الله عثمان  الذي غابت شمسه) ص.7

ه- وهو امتداد لما يجول بوجدان الرسام الذي ( مع بداية العام الجديد، رسم شجرة كبيرة خضراء، على جدار البلكونة المدهونة بالجير الأبيض، ولما جفت، جلس تحتها بتقرج على فضل الله عثمان.) ص.133. وعند سقوط فنجان الشاي الساخن من حافة" البلكونة الضيقة"، يمر زمن قصير ليحضر فنجان شاي جديد بواسطة صبي المقهى. كان فنجانا (يضوي، وفيه أثر، ربما من تفل الشاي). هذا هو شارع" فضل الله". الناس فيه تسمع الهمسة والنأمة، ولاشيئ فيه يموت، بل يعاد بعثه، من جديد، بوسائل جديدة تحافظ على ا لاستمرار وطيب المعشر.

و-وهو الذكرى العطرة لفورة الجسد، والروح، تجاه جمال جسد مستحمة  باذخ، انحفر في الجدران بعد أن غاب عنه الإنسان. ( انقضى ما انقضى، وظل باقيا في البال، حجرة خالية إلا من عري جميل، ومرآة منطفئة، ومسحة  من ثدي، وبخار.)ص.141.

نماذج " إبراهيم أصلان" خاضعة ل" شرط  إنساني" مختل، لا يكشف منه السارد إلا جزئية دالة على طبيعة الخلل( لحظة زمنية/ حالة/ حدث/ صورة فوتوغرافية/علامة في الجسد/ ملمح نفسي/ مزقة من ثوب/ نظرة محددة/الخ). وهذا الجزء يخضع، بدوره،  للتشذيب، في مرحلة أولى، ثم ينتقل به السارد إلى مستوى آخر،  يسمح بإدماجه في المحكي العام. فالسارد، في هذا السياق، أشبه بالحرفي الذي يحرص على وضع كل جزء من المنتوج في مكانه الملائم. وفي حالة تعذر وجود الجزء الملائم، ينطلق في صياغة ما يحافظ على الصنعة، من صلب المواد المستعملة، من جهة،  ومن الرؤية الثابتة- من جهة ثانية- المتحكمة. في طبيعة المنتوج ووظيفته.  إنه( الحولي المحكك) على حد وصف القدامي لتيار معين من الشعرية العربية القديمة.

هكذا يصبح الجزء دلالة على الكل، بالمفهوم " الجشطالتي"، الذي يسمح للبؤرة الصغيرة بالدلالة على المحيط. ومن ثم، فالنقطة البيضاء هي التي كانت وراء "إضاءة "السواد في السبورة السوداء. والجزء الدال على الكل، في (حكايات من فضل الله عثمان) ينتج الملاحظات التالية:

1- لا يقتصر التأزم على الشخصية الإنسانية، بل يمتد ذلك إلى الفضاء برمته من مكان وأشياء وممارسات اجتماعية ولحظات زمنية محددة.

 في قصة( طرف من خبر العائلة)  يقرر الطبيب بتر رجل المريض – أصغر أشقاء الراوي- بالسكر. وتنقل الأحداث، بلمسات من السخرية السوداء، من وضع المريض( الكل) إلى وضع جزئي( الرجل المقطوعة) يضيئ ممارسات عديدة منها رفض الراوي تسلم الرجل المقطوعة ودفنها – غسلا وتكفينا-حسب تعاليم الشريعة الإسلامية. فهي أشبه بالجثة، والإختلاف الوحيد بينهما يتجسد في صلاة الجنازة التي لاتقام على الرجل المبتورة.بالمقابل يتطوع زوج شقيقة الراوي لاستلام الرجل، مبتهجا بهذا العمل، بعد أن حملها في حقيبة بلاستيكية، وكأنك- مخاطبا الشقيق الأكبر-" شايل قزازة زيت، أو جوز فراخ"ص.116.

يتطوع زوج شقيقنه، الذي  لايكف عن الإبتسام، لدفن الرجل المبتورة،  مرددا، باستغراب مفتعل:" تصدق، لما دفناها مع العيال، كانت عاملة زي العيل الصغير بالظبط".ص115.

تنتهي المأساة بدفن الرجل، لتنطلق، من جديد، في صورة " ميلودرامية" جسدها  حوار الشخصيات حول دلالة دفن رجل الكائن في  مقبرة، ودفن جتثه في مقبرة أخرى، بل إن دفن الرجل، في مقبرة مجهولة،لم يكن، بالنسبة لزوج شقيقته، سوى رغبة في التخلص من عبء ثقيل،دون توفر أي حافز أخلاقي أوديني.يسأل الشقيق الأصغر، صاحب الرجل المقطوعة، ببراءة: الله. هو بنفع إن واحد يندفن في حته، وتكون رجله مدفونة  في حتة ثانية؟

قال:" ما ينفعش ليه،هي حتقول لأ؟"ص.116.  

هكذا يفضح الكل الجزء، ويكشف البسيط عن المعقد، والحدث المفرد  عن سلم القيم، والقيم المضادة.

2-توظيف" البورتريه"، في جزئه الدال، في الدلالة على الوضع الإنساني العام الذي لا يتجاوز الرغبة العادية، لكنها تعكس، في الوقت ذاته، ا الهواجس الإنسانية من حرمان وجشع  وأنانية وإيثار وأثرة وفرح ولذة...الخ. حبات الفول والطفل البرئ (مشوار)، الرغبة الملحة في رؤية هدف "المونديال" مسجلا (مونديال)، شريط كتاني لتزيين "جلابة بسيطة، تعويض حبات البرتقال رخيصة (رجل والأشياء) مسحة من ثدي (المستحمة).

3- وأزمة هذه الشخصيات أزمة مضاعفة، أو مركبة. في قصة "الرجل والأشياء"، على سبيل المثال، لا يكتفي البائع ببيع المتلاشيات البسيطة، با يبيع، في الوقت ذاته، تاريخه الشخصي، من خلال الصورة  الفوتوغرافية والذكريات الشخصية المعروضة للبيع.  وفي قصة " طرف من خبر العائلة"، لا تتوقف الأزمة عند حدود بتر الرجل المريضة، بل تمتد إلى الدفن بالتقسيط – وهو موت بالتقسيط- لأجزاء الجسد في مقابر متفرقة عوض المقبرة الواحدة.

4- تعيش معظم شخصيات هذه الحكايات تجربة الفقدان  لسبب،أو لآخر.والفقد قد ينسحب على الكائن الانساني، ( زوج / صديق/ جار/ فرد من العائلة/ رب أسرة/ رجل مبتورة)، أو على الفضاء المادي، - شارع فضل الله عثمان- الذي تتوالى فيه الذكريات والصور المادية والرمزية( سفر. ص.73.)، تحت تأثير ضربات الزمن المتلا حقة، والتي حاول الراوي استحضارها، عن طريق حواسه الخمس، بل الست، التي اخترقت " خرابها الجميل" المنتشر في المكان والزمان والإنسان.

[في نص( شغف)، يتخذ الفقدان أعلى مراحل الشعرية- لغة ومحتوى- بعد أن تمازجت فيه الصور بالأحاسيس، والماء والهواء والتراب بالكائن الحي- إنسانا أو حيوانا أو نبتة أليفة- بحثا عن المفقود.(ضممته إلى نفسه وهيأت له المكان

مددت له ساقيه الصغيرتين كغصنين،

وتراءت لي بعض الفجوات وشئ ما ليس موجودا،

وفاحت منه رائحة حارة مثل خبز قديم,

صعدت الشاطئ لاهثا باحثا عن ماضاع مني،

 قبل أن يتزايد المطر ويبدأ هو في معاودة النمو.)ص.128.

وبالرغم- كما سبقت الإشارة- من تأزم هذه الشخصيات، لسبب أو لآخر، فإنها تظل مخلصة لمعدنها  الأصيل، منتصرة للقيم  الإنسانية التي تتجاوز العرض من نزوة ورغبة مقموعة وحسابات بسيطة، نحو التعامل مع الجوهر الإنساني الذي يتوزع فيه الكائن بين الخير والشر دون أن يفقد إنسانيته. فالأم المقهورة تستمد سعادتها من سعادة الطفل، مؤنسها الوحيد في هذا العالم( مشوار)، و" عبد العظيم"، بالرغم من رفضه الذهاب إلى عمل لا يسمن ولا يغني من جوع، لايتردد في تحذير الزوجة من عقب السيجارة المشتعل الذي رمى به، وهو في حالة غضب، بإحدى زوايا البيت.(مشهد جانبي).وعجوز المتلاشيات يتنازل عن شريط ملون للبائعة التي تجاوره، وهذه الأخيرة تمنحه حبات ليمون " وتفرغها في حجره".ص.32. وسكان الشارع_ ومنهم الراوي- يقفون وقفة رجل واحد عند سماعهم بسقوط طفل  صاحب المقهى المدمن على " البانجو"، والمعروف بقلة أدبه.(سبيل الصغار).ص.47. والراوي يرفض حمل رجل شقيقه الأصغر المبتورة، وكأنه سيرتكب جرما يشبه إخفاء جثة مسروقة، علما أننا لاندفن مرتين.(طرف من خبر العائلة).ص.109. و" رزق" يعتذر لوالده الذي لم يبرد جسده بعد، وهو يسحب محفظة النقود من  جيب الصديري المحكم الإغلاق.(خيط.ص.65). و"عبد الخالق" الحانوتي المحتضر، لايتردد – وهو على فراش الموت- فب لحس" عصير الليمون عن شاربه المبتل ويلعب بشدقيه في تلذذ واضح".( قطرات من الليمون ص55)

إنها شخصيات تبحث عن ألفة هاربة، عبر تلافيف الجسد، ومدارج الروح، وهي تصارع " اليومي" في شراسته المدمرة لكل ذرة من الجمال، ولو كانت جدار منسيا، أو محطة مهجورة،أو حجرة رطبة،أو ترعة غاض ماؤها منذ أمد بعيد.تلك هي الأشياء البسيطة التي ما زالت تشد هذا الكائن إلى  عالمه الأليف الذي غابت معالمه المادية، لكنه ظل حاضرا في الذاكرة.( تمر فترة ثم يستلقي على جنبه ويضم لركبتيه إلى صدره ويكون كلام وهسيس بخار وحقول  وتكون غفوة، وتلوح نجمة ثابتة في أفق غائم تومئ وتنطفئ) سفر.75.

 

هوامش:

1. إبراهيم أصلان:حكايات من فضل الله عثمان.دار ميريت.2003 .

2- عنوان النص  يدل على تجنيسه. فالنصوص  تنضوي تحت مفهوم الحكاية، من حيث كونها عماد القول الحكائي، من جهة، ومن حيث تجنيسها" النوعي"، من جهة ثانية.وجوهر الحكاية في هذه النصوص يقوم على التمازج الفاعل بين الشفهي والمكتوب.

3- تفرق الدراسات المتعلقة بالفضاء التصي، بين المكان- بالمفهوم الإقليدي- المحدد الزوايا والخاضع للمقاس الهندسي، وبين الفضاء الذي يخضع للتذويت، أي لتأويل الذات بأبعاد عديدة. فالأمكنة المشتركة لاتنتج، بالضرورة، الكتابة المعيارية،أو النمطية. و"نحن لانسبح في النهر مرتين".