خفيفاً جئت .. وخفيفاً رحلت

أسامة كمال

هناك من من يحيا على صفحة الذاكرة كالضوء الدائم، لا يغيب عنها، رغم توالي الأيام والفصول والهموم.. يحضر إلى الذاكرة بكامل هيئته وملامحه، يحضر ورائحته معه، يحضر، وعيناه تسرد عوالمه وحكاياته، ويظل يحكي بعينيه وبقلبه، ويتنقل بين محبيه كالنسيم الرهيف، يدخل، ولا يعرف الخروج. يأتي خفيفاً مثل ومضة عابرة، ويُغادر خفيفاً مثل حلم مفتوح ومتجدد.. ربما تراه يجلس بجانبك في رحلة بالقطار، أو يجاورك في مقهى، وبين عيونكم تمتد خيوط الكلام، أو التقيت به يوماً، وسالت بينكم الأسرار، مثل قطرات مطر متفرقة على الأرض.. إبراهيم أصلان من هؤلاء الأنبياء، فهو الحاضر الأبدي، والغائب اللامع.. التقيت به، مثلما التقى به غيري من ألاف المحبين العابرين. ورأيته من بعيد، يجلس على مقهاه، وتابعته بعيناي، كأسطورة نُسجت تفاصيلها في روحي، وتهيبت الاقتراب من وهجها الآثر والحميم.. التقيت به على صفحات أعماله القليلة، وقرأته كمريد، يقرأ لشيخه البعيد، يقتص أثره، ويسير خلفه إلى غواية الفن.. ومنذ أن أدركتني مسارات الدهشة، وأنا أضع صورته على خزانة كتبي، كحارس عتيد يقف على أسرار صناعة غوايته.. شخصياته لم تكن أسماء تتحرك في عالم من السرد، بل كانت تسير فينا، ونسير فيها، ونتجاذب أطراف الحنين الانساني اليها، هي تضيء بقراءتنا لها، ونحن نغيب في ملامحها، وكأنها ملامحنا التي لم نعرفها من قبل.. و برغم فقرهم وخشونة أيامهم، الا أنهم كانوا مثل كاتبهم، يسيرون في الحياة، برهافة الساخرين منها ومن عبثيتها، يسيرون على حبل الحياة، بمودة عابر جميل.. لم يعشق المكان أحد، مثلما عشقه ذلك السارد النبيل، فسرنا على ضوء عينيه الواهنة الشفيفة البليغة الى امبابة، والكيت كات، وفضل الله عثمان، وصعدت عوالمه الى سدرة وعينا بكل تفاصيلها ومنمنماتها، وخفاياها وأسرارها.. كنا نتابع ما يُحكى عنه من أصدقائه ومريديه والجالسين اليه، حتى نتيقن بأن ذلك الكائن المفارق، ما زال يسير وحده في مساءات القاهرة، كأجمل كائناتها الليلية، وما زال يتحرك بسيارته – الفولكس فاجن – التي تشبهه، وتشبه عوالمه، وتشبه شعره المهوش وشاربه الكث، وجسده القابع على حزنه، مثل مالك الحزين.. حينما شاهدت فيلم – الكيت كات –، كنت من القليلين، الذين انحازوا للفيلم، دوناً عن الرواية، برغم ولعي بها وبكاتبها، لأن سيناريو دواد عبد السيد، أمسك بقلب كل أعمال ابراهيم أصلان في دفقة ابداعية واحدة، وأعاد خلق الشيخ حسني، بعيداً عن مساحة تحركه الضيقة في الرواية. أعاد خلقه متنفساً بهواء أعمال أصلان التسعة، ومعبقاً بكل تفاصيلها وخفاياها، محباً للحياة حد السخرية منها، قابضاً على مصادر الدهشة، كصائغ محترف للحياة، وحاو من حواتها الأصليين، وصورة أخرى من ابراهيم أصلان ذاته، الذي رأى ما لم نراه، وكتب ما لم يمكن لأحد غيره أن يكتبه.