لا يفرق كثيراً بين أن تسمع إبراهيم أصلان أو أن تقرأه

حسن داوود

فقط منذ سنة أو سنتين أمكن للمرض أن يضمّ ابراهيم أصلان إلى العمر الذي كان بلغه. قبل ذلك، لم يكن ليصدّق أحد أنّ ابراهيم بات في سبعيناته، بل إنّه قد بلغ منتصفها. ربما يرجع ذلك إلى طريقة ما يلبس، تلك السترة الرياضيّة والبنطلون الضيّق، وأيضا ذلك الجسم الصغير لكن المحتفظ بمظهر الشباب، وسيّارة الفولكس فاغن التي لا أدري إن كان قد ظلّ محتفظا بها في تلك السنوات الأخيرة، منكّتا عليها كيف أنّه، مثلا، لا يخرج منها إلى وهو حامل رافعة الزجاج الصغيرة بيده، تلك التي، كما قال لي، غالبا ما يخلط بينها وبين غليونه، في وقت ما كان يدخّن الغليون. فقط في رحلتي الأخيرة إلى القاهرة بدت تلك الفتوّة المقاوِمة وقد أذعنت للتعب، لتعب المرض وليس تعب العمر. كان جسمه قد هزل، وذلك الجلد الذي بين ذقنه ورقبته تراخى وتهدّل. لم يكن مرضه سرّا على أحد في القاهرة، ولم تكن خافية عاقبته عليه هو نفسه. قال لي شيئا من ذلك في السهرة ببيت الصديق خالد زيادة، ذاكرا كيف أنّه يتعامل مع جسمه مطيعا الطبيب طاعة تامّة. قبل ذلك، في الإحتفال بالثقافة العربيّة في معرض فرانكفورت للكتاب، قلت له أن يردع خيري شلبي عن الإكثار من الطعام، إذ كان يذهب مرة بعد مرة حاملا صحنه إلى البوفيه ليعود به ملآنا. كنت أظنّ أنّ فارق العمر بينهما، وفارق الصحّة، هو الذي يدفع بابراهيم إلى ملازمة خيري، منتبها له من العثرات. تلك العثرات التي طارت شهرة إحداها حين، كما يُروى، كاد خيري يسقط على الأرض فيما هو يصعد إلى المنصّة ليتسلّم الجائزة التقديرية من يد رئيس الجمهوريّة أنور السادات. لكن ثمّة من قال لي منذ فترة أنّهما في العمر ذاته، بل ربّما كان ابراهيم أكبر عمرا. على أيّ حال لم يتأخّر الأوّل عن اللحاق بالثاني إلا شهرين أو ثلاثة.
ولا ريب أنّ أدب ابراهيم أصلان سبقه إلى الظهور إذ رحنا نتداول إسم "بحيرة المساء"، و"مالك الحزين" من ثمّ، ونبدي إعجابنا بهما من قبل أن تكون لدينا أيّة فكرة عن شخص ابراهيم أصلان. بل ربّما تعدّى ذلك الغياب الشخصي إلى كتابيه الثالث "يوسف والرداء" والرابع "ورديّة ليل". "هذا هو ابراهيم أصلان" قال لي عباس بيضون بعد زيارته القاهرة، مشيرا إلى رجل له سمة الشباب جالسا في وسط الصورة بين كثيرين. كان عبّاس يعرف مدى إعجابي، بل مدى حبّي، لكلّ ما يكتبه أصلان. "مالك الحزين"، الرواية التي صدرت في 1983( وهذه سنة متميّزة بما صدر فيها من روايات مهمّة اذكر منها "المهدي" و"الأخت لأب" لعبد الحكيم قاسم) كانت إبداعا خالصا إذ لم يسبق للرواية العربيّة أن قدّمت شخصية على هذا القدر من الإلفة والغرابة معا. الشيخ حسني ذاك كان خليطا محكما من متناقضات بينها العمى والمكر، الفساد والطرافة، الحياة القليلة البائسة وجموح المزاج إلى حدّ إطاعة الشخصيّة الروائية لما يخطر في خيال كاتبها، وهذا من دون أن يبدو ذلك شيئا يُضاف إلى شيء، أو شيئا يسعى للإلتصاق بسواه من دون أن يكون من أصله وطبيعته. منذ الصفحة الأولى من "مالك الحزين" أسرَنا الشيخ حسني، بما لم أعد أذكر تفاصيله من لعبه بالبرتقالة وتحايله على الإحتفاظ بها. هذا وقد بقيت أروي لمن تضمّني السهرات معهم عن هوى الشيخ حسني، وهو الضرير الأعمى، في أن يتولّى أخذ العميان إلى النزهات، ليصف لهم ما لن يمكن لهم أن يشاهدوه بأعينهم، ومن ذلك أيضا اصطحابه لهم إلى السينما لكي يصف، أو يؤلّف، لهم ما يطابق الكلام الذي يسمعونه من الممثّلات والممثّلين.
يصعب على من يقرأ كتابا لابراهيم أصلان أن يفوّت كتبه الأخرى. وهذه، القراءة أقصد، ليست مهمّة شاقة على أيّ حال، فهو مقلّ إلى درجة أنّه، في عمر الشباب الكتابي، تأخّر نحو 12 عاما ليصدر الكتاب الثاني بعد "بحيرة المساء"، وهي المجموعة القصصيّة التي صدرت في 1971. ثمّ إنّ ما تحتويه الكتب قليل إذ قلّما تزيد عدد صفحات الكتاب عن مئة وأربعين صفحة. لكن ما نقرأه، سواء كان في سياق روائي أو في سياق نصوص متفرّقة كما في "ورديّة ليل"، أو كان في جمع السياقين معا كما في عمله الأخير "حجرتان وصالة"، لا يعفينا من التركيز المستمرّ ولا يتيح لنا أن نقلّب الصفحات تقليبا سريعا (كما هو حالنا في متابعة قراءة الروايات بد أن نكون قد قطعنا الشوط الأوّل، التأسيسي، منها). كأن كلّ جملة من جمله يجب أن تُقرأ منفردة أوّلا، لنروح بعد ذلك نضعها في مجرى القراءة المتتابع. فهناك القوّة الخاصة بذاك التفصيل الذي احتوته الجملة التي، في أحيان كثيرة، يخطر لنا أن نعيد قراءتها، لنقف مرّة ثانية على المتعة المتحصّلة منها. شيء يشبه ما قاله رولاند بارت مرّة عن القراءة التي تبطئها المتعة أو توقفها في أحيان.
مع كتب ابراهيم أصلان لا ننتظر ما ستودي إليه الأحداث. فما يحدث يكون يحدث في كلّ مشهد من مشاهد عيش الأستاذ خليل مثلا، وهو المتقاعد الذي قسّمت رواية "حجرتان وصالة" أيامه الأخيرة إلى فصول عيش عادي، كأن يزور جاره في أحد هذه الفصول، وأن توبّخه زوجته لأنّه ترك باب البرّاد مفتوحا في فصل آخر، وأن يربكه انتباهه حال وقوفه محادثا إبنه المتزوّج، في فصل ثالث، فيروح يسأل زوجته الحاجة عن ذلك
"هو الولد سليمان طُوِل؟".
"سليمان مين؟".
" سليمان إبنك".
"ماله؟"
"هو طوِل؟".
"طول إزاي يعني؟".
"يعني بقا أطول من الأوّل؟".
"الأوّل إمتى؟ وهو صغير؟".
"لأ. طِول عن الشهر اللي فات مثلا".
"ليه. هو فيه حدّ بيطول وهو عنده تلاتين سنة"
أبو سليمان تدبّر الكلام وسألها:
"أمال أنا اللي قصرت والا إيه؟"
لن تكون نهاية الكتاب إلا فصلا إضافيّا من فصوله التي لا يحدث فيها أمر حاسم أخير، ذاك أنّ مصير الأستاذ خليل متمدّد حاصل كلّ يوم، وأحد مجرياته مثلا موت الحاجة زوجته الذي لا يزيد خبره قوّة عن خبر آخر سواه.
المتعة نجدها في كلّ كلمة كان وضعها ابراهيم أصلان على الورقة، وأبقاها على الورقة. بعض نقّاده كتبوا أنّه يكثر من المحو، وهذا ما لا توحي به الكلمات المكتوبة نظيفة لم تمح إحداها لتوضع في مكانها كلمة أخرى. أحسب أن أصلان يكتب ما يكتبه مرّة واحدة، لكن عليه من أجل ذلك أن ينتظر الوقت الذي يصير فيه الكلام سلسا وحيّا ومحتويا على ما يصعب تأويله بفكرة واحدة، وإلاّ كيف يتسنّى له أن يمتعنا إن لم يكن يستمتع هو نفسه بكتابته.
قارئ أصلان يحبّ أن ينقل ما قرأه إلى الآخرين، كما هو بنصّه، ما دام أنّ الكلام الذي يصفه يظلّ ناقصا، إذ يصعب على النقد أن يبلغ مقاصده كلّها من نصوص "ورديّة ليل" الصغيرة مثلا، لكن المجفلة النهايات على نحو صادم. أو كما في هذا الحوار الجاري في "عصافير النيل":
"يا ريتك يا أبوعبده لمّا أموت، توصل لي سلك بلمبة في التربة."
"إزّاي الكلام ده؟"
"تعرف، ولو أسبوع واحد."
البهي عثمان كان أوّل مرّة يسمع فيها كلاما بهذا الشكل. وقال:
"دي تضرب يا وليّه."
نرجس قالت:
"أبداً. والنبي ما يجري لها حاجة."
البهي عثمان سكت وتهيّأ له أنّ اللمبة لن تضرب. وفكّر بينه وبين نفسه: "صحيح إيه اللي يخلّيها تضرب؟" لكن عقله راح ناحية الملكين وهل يصحّ أن يكون الحساب في نور لمبة الكهرباء أو لا يصحّ. واستغفر ربّه وهرش رجله اليسرى.