كتب كالأسطى وبقي هاوياً إلى النهاية

له مخطوطان يصدران قريباً في القاهرة

محمد شعير

إبراهيم أصلان (1935ـ2012) لم يطل عذابه مع المرض. لم يمدّ يده إلى سلطة أو اتحاد كتّاب هزلي طلباً للعلاج. لم تلوّثه السياسة بألاعيبها. شهد الثورة التي حلم بها طويلاً. كان الفنّ الخالص لعبته، وملعبه، وعشقه. صاحب المشروع الروائي الذي ألهم أجيالاً، أسلم الروح أوّل من أمس وهو جالس على كرسيّه الهزاز بعد رحلة قصيرة مع المرض.

رحلة إبراهيم أصلان مع الفنّ والحياة لا يمكن تلخيصها بسهولة.

سنجد أنفسنا أمام صيّادٍ ماهر للحظات المستعصية على الكتابة. في مقتبل حياته، عمل في هيئة البريد لفترة طويلة، ومن هناك تعلّم الاختصار. الصيد والإيجاز أبرز سمتين في عوالمه الإبداعية. بدأ صاحب «مالك الحزين» (1983) الكتابة كسائر الكتاب، بالخواطر، ثم نشر مسرحية قصيرة في مجلة «الثقافة». وتجمّعت لديه عشر قصص قصيرة نشرها في الصحف، من بينها «عصفور على أسلاك الترولي»، وهي القصة التي تحوّلت إلى مدخل لرواية «عصافير النيل» (1999) لاحقاً. لكنّه كان يشعر أنّ هذه القصص تشبه قصص «الآخرين»، ولا تشبهه. لهذا، قرّر أن يمزّقها وعاد إلى القراءة، وتحديداً إلى كتّاب ثلاثة، هم هنري جايمس، وإرنست همنغواي، ومارك تواين. كتب عن هؤلاء في مجلة «الثقافة الجديدة»، ومطلع عام 1965، بدأ كتابة قصص «بحيرة المساء» التي أصدرها عام 1971 بعدما شعر أنّه وجد صوته. قبل أن يصدر أعماله، حدَّد أصلان موقفه من الكتابة: هناك كتابة «طليعية»، وأخرى «رديئة». برأيه ليس هناك حلول وسط، فإما أن يكون هناك فنّ أو لا يكون. وبالتالي، تصير أعمال أبناء جيله يحيى الطاهر عبد الله، ومحمد البساطي، وحافظ رجب، وصنع الله إبراهيم، كتابات طليعية... أما كتابات عبد الحليم عبد الله، ويوسف السباعي، والآخرين، فرديئة.

منذ الطفولة، كان الصيد هواية أصلان. تعلّم منه الصبر والقدرة على «معرفة الغمزة الملائمة لجذب السنارة»، وهي أمور تحتاج إليها الكتابة أيضاً. أما عمله في مصلحة البريد، فعلّمه أنّ كل حرف ينبغي أن يكون له مقابل مادي، ليخلص إلى كتابة كل ما هو مفيد وضروري فقط. كان يهرب من الكتابة بتمزيق ما يكتب. وعندما تعلم استخدام الكمبيوتر، اكتشف ما يتيحه من قدرة في «الحذف»، فسهّل مهمة المسح والإلغاء، لكن ليس مهمة الكتابة. هذا الأمر ميّز نصّه منذ البداية. كان يؤمن بأن كل ما يمكن استبعاده يجب أن يستبعد. فأهمية المكتوب تكمن في قدرته على التعبير عن كل الأوجاع غير المكتوبة، لأنّ ما هو حقيقي يكون عصيّاً على الكتابة في الغالب.

قلة الإنتاج هي «التهمة» التي كان النقاّد يواجهون بها أصلان. يكاد يكون أقل كتّاب الستينيات إنتاجاً. أصدر ثلاث روايات هي «مالك الحزين» التي تحولت إلى فيلم داود عبد السيد الشهير «الكيت كات»، وأدّى بطولته محمود عبد العزيز وشريف منير، و«وردية ليل» (1991)، و«عصافير النيل» (1999) التي تحولت أيضاً إلى فيلم للمخرج مجدي أحمد علي بالعنوان نفسه (2009). هذا إضافة إلى ثلاث مجموعات قصصية هي «بحيرة المساء» (1971)، و«يوسف والرداء» (1983) و«حكايات من فضل الله عثمان» (2003)... فضلاً عن كتابين نثريين هما: «خلوة الغلبان» (2003) و«شيء من هذا القبيل» (2007). أما آخر أعماله المنشورة، فـ«حجرتان وصالة» (2009) الذي سمّاه «متتالية منزلية». ومعظم أعماله صادرة عن «الهيئة المصريّة العامة للكتاب» و«دار الشروق» في القاهرة، و«دار الآداب» في بيروت، كذلك ترجمت إلى لغات عدّة منها الإسبانيّة والفرنسيّة والألمانيّة والصربيّة والإنكليزيّة. كان يقول دوماً: «أعتبر نفسي عاشقاً للكتابة وهاوياً لها. ولست كاتباً محترفاً مفروضاً عليه أن يكتب. ولديّ يقين بأنّه إذا لم يكن ما أكتبه يلبّي احتياجاً داخلياً لا يمكن تفاديه، فإنه من الصعب أن يلبّي احتياجاً لدى القارئ». كان أصلان يكتب إذاً كأسطى، يعشق عمله الذي يكتبه، وهو ما يتطلب منه «حالة مزاجية» عالية. لذا يريحه دوماً وصف الأديب الراحل يحيى حقي لهذا النوع من الكتّاب بـ«المنتسبون إلى الكتابة لا محترفوها». في أيامه الأخيرة، كان مبتهجاً بالثورة، يتابع تفاصيلها وتأثيرها. قال: «مهما كانت نتائج ما يحدث حالياً، فأنا ممتلئ فرحاً لأنني لم أرحل قبل أن أشهد أبناء مصر وهم يقدّمون للعالم بطاقة تعريف جديدة لهذا الوطن». رحل تاركاً لنا إرثاً متميّزاً وكتابين تحت الطبع سينشران قريباً.

جوائز

نال إبراهيم أصلان جوائز أدبيّة عديدة، منها «جائزة طه حسين» من جامعة المنيا عن رواية «مالك الحزين» عام 1989. كذلك حاز «جائزة الدولة التقديرية في الآداب» عن دورة عام 2003، و«جائزة كفافيس الدولية» (2005)، و«جائزة مؤسسة ساويرس للأدب المصري» (2006) عن «حكايات من فضل الله عثمان».