(1)
عرفت إبراهيم أصلان منذ أن نشر قصصه القصيرة الأولى في الصفحة الأدبية بجريدة (المساء)، وكانت صفحة يومية، يشرف عليها عبدالفتاح الجمل بحساسيته الأدبية المرهفة وبقدرته الفائقة على التقاط المواهب البازغة ورعايتها منذ بواكيرها الأولى. بصورة لايمكن معها نكران فضله الكبير على جيل الستينيات في مصر بأكمله: شعرائه وقصاصيه ونقاده ورساميه جميعا. فمع أنها كانت صفحة واحدة إلا أنك كنت تجد فيها القصة والقصيدة والمقال النقدي، وحتى المقال المترجم، ومعها رسوم هذا الجيل أيضا من نبيل تاج إلى الدسوقي فهمى ومكرم حنين وعلي دسوقي وعدلي رزق الله ومصطفى الحلاج وغيرهم. وكنت تأخذ نصك إلى عبدالفتاح الجمل في مكتبه القابع في زاوية صالة التحرير الكبيرة الواسعة بالدور العلوي بمبنى جريدة (الجمهورية) القديم فتلتقي هناك بعدد من أبناء جيلك من الشعراء والقصاصين والنقاد جميعا. هناك التقيت بأصلان ومحمد البساطي ومحمد حافظ رجب ويحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر وخليل كلفت وكثيرين آخرين.
ولم يكن مكتب عبدالفتاح الجمل هو المكان الوحيد الذي تلتقي فيه بكتاب جيلك من الشباب ومثقفيه. فقد كانت القاهرة في مطالع الستينيات، وبرغم ضربة يناير 1959 المصمية، لاتزال تعج بالمنتديات والمقاهي والأنشطة الثقافية، رغم المخاوف المنتشرة مع الهواء في كل موقع. كان للقاهرة في تلك الأيام تقويم أسبوعي يتيح لمن يريد أن يتردد كل يوم من أيام الأسبوع على مكان تعقد فيه ندوة أدبية أن يفعل: من رابطة الأدب الحديث وراعيها مصطفى السحرتي، إلى الجمعية الأدبية المصرية ونجمها صلاح عبدالصبور، إلى رابطة الأمناء وشيخها أمين الخولي، إلى نادي القصة الذي كان يديره يوسف السباعي ومحمد عبدالحليم عبدالله إلى ندوة نجيب محفوظ بكازينو الأوبرا وصالون العقاد وندوة حسين القباني بكازينو الجزيرة على النيل وغيرها. ناهيك عن المقاهي من إيزافيتش وريش إلى أنديانا والحرية وسوق الحميدية. وكانت هذه الندوات والتجمعات تتيح للمثقفين من مختلف الأجيال معرفة بعضهم البعض بشكل وثيق.
(2)
في مقهى ريش التقيت بإبراهيم أصلان للمرة الأولى على ما أذكر، عرفنا عليه أحد ألمع النقاد الذين اختفوا بعد أن كسر كأخيل حربته/ قلمه وهو في عز العطاء، وهو الناقد السوداني المرموق محيي الدين محمد الذي كان يعمل معه في «ماركوني للتليغرافات» والذي أصبح فيما بعد جزءا من مصلحة التليفونات، فلم يكن إبراهيم أصلان يتردد وقتها بشكل منتظم على مقاهي القاهرة الأدبية وندواتها. فقد كانت حياته الصعبة في ورديات الليل بعمله، تحرمه من ذلك الترف برغم أنه «يموت في الصحبة» كما يقول. لكن ما أذكره جيدا هو مواجهتي الأولى، ولا أقول خلافي الأول معه، بعد أن نشر قصته الأولى «البحث عن عنوان» في مجلة (حوار) عدد 21 مارس – أبريل 1966. كانت «البحث عن عنوان» قصة بديعة حقا، من نوع القصص التي لا يحدث فيها شيء، والتي أسست منهج أصلان في السرد والرؤية على السواء. شخصان يلتقيان في الطريق، لا يميز بينهما إلا الشكل، أحدهما نحيل تبدأ به القصة، وهو يمشى وبيده جريدة مطوية على رصيف شارع قاهري مزدحم، «الشارع الطويل الذي يقسم المدينة إلى قسمين» فالقصة نفسها من النوع الذي يقسم البشر إلى قسمين، برغم انتمائهما إلى طبقة واحدة، فأحدهما كما سنعرف يسكن في العجوزة والآخر في الحلمية الجديدة. يمر بسلة مهملات، وبشحاذ كسيح على الرصيف، قبل أن يلتقي بشخص بدين يحمل لفافات مشترياته الكثيرة، يحدق فيه ويقول له أنه يعرفه منذ كانا تلميذين في المدرسة، وأنه كان يجلس وراءه في الفصل، فيرد النحيل بأن الوجه ليس غريبا عنه. ويذكره البدين باسمه، ويحاول أن يتذكر اسم النحيل حتى يذكره له بنفسه فيقول أنه كان على لسانه. وبالرغم من أن كلا منهما يذكر اسمه للآخر، فإن القصة تواصل الإشارة إليهما بالنحيل والبدين، وليس بالأسماء التي ذكرها كل منهما لنفسه. ثم يذكره البدين في دفق من الذكريات بوقائع كثيرة لا يتذكر منها النحيل شيئا، وإن كان لا يعارض البدين إلا في القليل من التفاصيل، ولا يبدى غير الاستغراب دون أي استنكار إزاء بعض ما يذكّره به. ويتراجع النحيل إزاء هجوم البدين عليه بتلك الذكريات التي لا يتذكر منها شيئا، حتى يلتصق بسلة المهملات. فلكل تفصيلة، مهما كانت عرضيتها، وظيفة في قصص أصلان. ونعرف أن البدين قد تزوج وأنجب ولدين وبنت «سميرة وعبده ومرسي» والرابع في الطريق، ويدعو زميله القديم لزيارته في بيته كي يرى الأولاد. وما أن يسأله «تزوجت طبعا» ويعرف أنه لم يتزوج، حتى يندهش ويسأل عن السبب فيقول إنها مشاغل، ويتصور البدين أنها مادية، فينفي النحيل بأنها ليست مادية، ولكنها من نوع آخر، وأن ثمة ظروفا امتدت لسنوات حالت دونه والزواج، حتى يعلق البدين «لابد أنها من نوع آخر جدا». ويواصل البدين الهجوم على النحيل بذكرياته حتى يفرمل بالقرب منهما أتوبيس حجزته الإشارة، فيقفز فيه البدين سعيدا بأن الإشارة حجزته، بينما النحيل يهمس وهو يمد يده وراءه وقد غيبه الزحام داخل الأتوبيس الذي يمضى: «العنوان .. لم تعطني العنوان!».
(3)
هذه باختصار مخل هي القصة التي أعدت قراءتها مؤخرا، فوجدت أن من الممكن أن تكتب عنها صفحات وصفحات. فأنت لا تعرف حقا بعد الفراغ من قراءتها إن كان النحيل والبدين زميلين أم لا، وإن كانت كل هذه الذكريات حقيقة أم مختلقة! فالنحيل لا يتذكر أبدا أيا من الوقائع التي تتدفق بها ذاكرة البدين الخصبة. بل وإذا تذكر شيئا فإنه يريق به الشك على ما يذكره البدين، بالرغم من أن النحيل يطلب العنوان الذي لا يحصل عليه في نهاية القصة. لكنك تعرف، خاصة لو كنت من قراء السيتنيات التي كان ينتشر فيها الخوف مع الهواء في كل موقع، وطور كتابها أليات تشفير نصية خاصة، كما تمرس قراؤها بحساسية فك شفرات النص الستيني، سر تغير موقف البدين منه، وقفزه المفاجئ في الاتوبيس الذي توقف في الإشارة دون أن يعطيه العنوان، بعدما حدس، أو على الأقل تخوف من، أن المشاغل التي حالت لسنين دون زواج زميله لابد أنها من «نوع آخر جدا» غاب بسببه وراء الشمس كما كانوا يقولون وقتها.
لكن القصة لا تشير من قريب أو بعيد إلى السياسة، برغم أنها مترعة بالسياسة المضمرة والتي تقسم البشر إلى قسمين، كما يقسم الشارع الطويل المدينة. القسم الذي ظل في «الحلمية الجديدة» حيث يسكن البدين، والآخر الذي انتقل للعجوزة وهي من المناطق الجديدة وقتها والتي لابد أن مشاغله التي عاقته عن الزواج ألقت به إليها. ولكنك لا تستطيع أن تنزه السياسة والمناخ المترع بالمخاوف والقهر عن كيف تحول إقبال البدين وسعادته البادية بلقاء زميله القديم، وهجومه عليه بالذكريات، إلى تراجع ورغبه سريعة في الفرار ما أن حدس، دون أن ينبس ببنت شفة، سبب عدم زواج زميله القديم. فكل ما يدور، بل والبشر أنفسهم مآلهم، كجريدة النحيل التى كان يحملها في بداية القصة إلى سلة المهملات. فنحن هنا بإزاء قصة يلعب فيها الحذف دورا لا يقل عن دور الإثبات. لأن المحذوف من القصة والمضمر في المسكوت عنه فيها لا يقل أهمية، بل هو بالقطع أكثر أهمية مما يدور على سطحها من تفاصيل وثرثرة تبدو للوهلة الأولى وكأنها بالغة البساطة والعادية ولا معنى لها.
ولكنك ما أن تعيد تأملها حتى تجد أنك بإزاء دراسة خصبة لكيفية عمل الذاكرة المراوغ من ناحية، ولكيفية عمل آليات الاسترابات والمخاوف الغامضة التي اتسم بها مناخ الستينيات من ناحية اخرى، وقد دفعت النحيل صوب، أو بالأحرى ألقت به في سلة المهملات، ما أن حدس زميله القديم شيئا مما جرى له. لم يرد حتى أن يسأله لأن مجرد السؤال توريط لايرغب أن يزج بنفسه فيه. فالبدين الذي سمى ابنه مرسي على اسم مدرس الحساب بقي في عالمه القديم، وقنع به. أما النحيل فإن محاولته فيما يبدو للخروج من العالم القديم حطمته، كما تقول لنا الإشارات العديدة المبثوثة على طول القصة في التفاصيل الصغيرة. وهي في الوقت نفسه قصة بؤس بطلها الحزين الذي كان شيطانا «أشقى تلميذ رأته عيناي» كما يقول البدين، مترعا بالحياة أيام الدراسة، وتحول الآن إلى شخص آخر، يستغرب صديقه هدوءه وما جرى له، وهذا التحول هو ما يؤكد له حدوسه في الوقت نفسه. حتى أثناء ضحكته التي يصفها أصلان بتركيز وبراعة.
ناهيك عن همسة النهاية «العنوان .. لم تعطني العنوان»، والتي لا يتطوع أصلان بوصفها بأي صفة، فلو قلنا الملتاعة لخرجنا بها عن صلابة الحياد الأصلانية وأغرقناها في عاطفية هيهات أن تجد لها أثرا في كتابته أو عالمه. لكن أهميتها تأتي من تركها هكذا دون أي وصف، كي تردك إلى عنوان القصة من جديد، وعتبتها الأولى، وكي تفرض عليك إعادة التفكير فيما بدا أنها لامبالاة النحيل بما يحكيه زميله طوال القصة، وقد تركت بطلها العاري من كل بطولة كسيحا، بالمعنى الاستعاري، بجوار سلة المهملات. أم تراها قذفت به فيها. كما ألقى هو فيها قبل لحظات من نهاية القصة بالجريدة، الشيء الوحيد الذي كان يحمله.
إن ذكريات البراءة والتواصل الوحيدة في هذه القصة البديعة هي ذكريات الطفولة المترعة بالشقاوة والتحقق، أما الحاضر فلا تواصل فيه ولا تحقق، لأنه لمن يقرأ هذه القصة بعناية مليء بالعوائق المرئية منها وغير المرئية! إنني أهدى هذه القصة، بعد 45 عاما من نشرها، إلى دراويش الناصرية الذين يحنون إلى أيامها الزاهرة وانجازاتها الكبيرة بلاشك، ولكنهم ينسون دوما إنسانها الرث الخائف المسحوق الذي ترك كسيحا بجوار سلة المهملات! فربما تشفيهم إضاءاتها من نوستالجيا الحنين المرضية. ويدركون أن الإنسان هو القيمة الأولى، وأن تحققه وسعادته هي ما يجب أن يحتل المكانة الأولى في أي أيديولوجية سياسية أو مشروع وطني. فالبحث عن عنوان في هذه القصة هو رديف البحث عن بوصلة حقيقية لرؤية العالم المترع بهذا القهر الخانق الدفين.
(4)
كل هذا وأكثر منه تجده الآن في قصة أصلان التي لم تفقد شيئا من تأثيرها وثرائها بعد ما يقرب من نصف قرن على كتابتها. لأن الواقع العربي الذي صدرت عنه لم يتغير إلا قليلا، ولأن إضاءاتها قادرة على الفاعلية في سياقات متغيرة، وأزمنة مختلفة، بل أغامر بالقول وفي ثقافات متباينة أيضا. فسر كتابة أصلان هو في تناقضيتها المراوغة التي تجعلها أقرب إلى التجريد، بالرغم من تجسيدها الشديد. إنها كتابة الجدل المستمر بين التجسيد الدقيق الباهر والتجريد المطلق. لأن كتابة إبراهيم أصلان كما قلت هي كتابة الإيحاء والحذف، كتابة الحفر في أركيولوجيا اللحظة والموقف والتخلص من كل تزيد، ومن كل النهنهات العاطفية والاستيهامات الاستقصائية التي كانت تثقل كاهل الكتابة في الخمسينيات خاصة. هي كتابة الخط المباشر بين العين والموضوع وبين الموضوع والقارئ. وهذا النوع الفريد من الكتابة والذي تعلمه أصلان من عمله الطويل في مكتب التلغرافات، حيث يدفع المرسل فيه ثمن كل كلمة، ويضطر للحذف والتركيز ما أن يفاجأ بتكاليف الرسالة، وبالتالي يتعلم أن يكون لكل كلمة دور ومعنى ووظيفة.
هذا المنهج الذي يدعوه إرنست همنجواي بكتابة جبل الجليد العائم، تعلمه همنجواي أيضا من إرسال قصصه من باريس إلى مجلة (النيو يوركر) بالتليكس والدفع عن كل كلمة. يقول عنه «كان على أن أفكر قبل أخذ القصة لمكتب التليغرافات: هل تستحق هذه الكلمة أن أدفع عليها، هل يمكن حذفها وتوفير ثمنها». فقد كان همنجواي شابا فقيرا يعيش في باريس على الدولارات القليلة التي تأتيه من المجلة، ويحتاج إلى كل قرش توفره له كتابته. لذلك طور هذا المنهج السردي الذي يقول إن الإنسان وموضوع أي قص هو مثل جبل الجليد العائم الذي لا يظهر منه على السطح إلا الثمن، وعلى الملاح الماهر أن يعرف من هذا الثمن الظاهر شكل هذا الجبل وجرمه الهائل المطمور تحت الماء، شكله وطبيعته وكل نتوءاته كي يناور بسفينته حوله. وهذا الملاح الماهر عند همنجواي هو الكاتب الذي عليه وهو يتعامل مع الثمن الظاهر من الشخصية والموضوع أن يمكن قارئه من معرفة السبعة أثمان المطمورة والمخفية فيهما معا.
هذا النوع الجديد من الكتابة القصصية التي برع فيها اصلان، ولم يكن قد جربها قبله إلا سليمان فياض في (عطشان ياصبايا) ولكن بطريقة مغايرة لطريقة أصلان التي تتسم بالذهاب بالحذف والحفر إلى أقصاهما، هي التي دفعتني للكتابة عنه حتى قبل أن يصدر مجموعته القصصية الأولى، وأفردت لحفنة القصص التي كان نشرها حتى ذلك الوقت قسما خاصا في دراسة ضافية عن «مستقبل الأقصوصة المصرية» نشرت على ثلاث حلقات في مجلة (المجلة) بعد شهور من نشر «البحث عن عنوان». فقد كانت قصصه على قلتها بالغة الخصوصية والثراء. كتابة لا تشبه أي كتابة أخرى، ولكنها تشبه صاحبها الذي (وعلى العكس من كثيرين منا الذين تجرأنا على النشر مع مطالع العشرين، أو حتى قبل أن يكمل بعضنا العشرين) لم ينشر شيئا إلا بعد أن بلغ الثلاثين من عمره. لذلك شفت كتابته من البداية عن هذا النضج الفريد، وعن عمق نابع من المراقبة الطويلة للبشر والأشياء، والتأمل المشغول بتصاريف الحياة، وأهم من هذا كله عما يمكن دعوته بشظف الكتابة. فقد كان أصلان، وبسبب معاناته الطويلة من شظف العيش، وفي أحد أكثر أحياء القاهرة الكبرى اكتظاظا بالبشر وفقرا، وهو حي «امبابة»، قد أدرك كم باستطاعة الإنسان أن يخلق لنفسه بأقل الإمكانيات حياة بالغة الخصوبة والتعقيد. لذلك كان شديد الاهتمام بما يمكن تسميته بشظف الكتابة وشعرية الكثافة والتركيز. أي الكتابة التي لا تزيّد فيها ولا ترهل ولا إطناب. هي كتابة كما قال في تصدير دال لـ«لمالك الحزين» في عبارة من بول فاليري، تهتم بالدقة لا بالوضوح. لأن الوضوح سهل وفج، أما الدقة فهي التي تأخذك إلى أعماق الموقف والإنسان معا، لذا بقيت أعماله القليلة منارات مضيئة في سماء الإبداع العربي، تحمل بصمته الخاصة، وتثري معرفتنا بالواقع والإنسان معا.
(5)
ينبع تفرد كتابة إبراهيم أصلان وتألقها من أنها كتابة تشبه صاحبها، وتنتح من تجربته الثرية في الحياة. فقد حرص إبراهيم برغم شظف الحياة التي عاشها، على الكشف عن خصوبة هذه الحياة التي تتسم بضيق الرقعة وثرائها، وازدحامها بالتجارب والحياة معا، كما هو الحال في الحي الذي عاش فيه وخلده؛ حي امبابة ومنطقة فضل الله عثمان بها خاصة. حرص على تعويض ضيق رقعة العالم الجغرافي، بالحفر فيه إلى أعماق غير مسبوقة. فهو ابن أسرة ريفية هاجرت من ريف الغربية إلى أطراف المدينة (كانت امبابة خارج القاهرة وقتها، قبل أن تصبح على مر نصف القرن الذي عاشه فيها في قلبها). واضطر الأبناء للعمل مبكرا بعدما تيسر لهم من تعليم. لكن إبراهيم عوض تقتير الحياة عليه، واستئدائها لثمن باهظ لكل ما وفرته له، بالشغف بالقراءة. كوّن مكتبته بحرص يوسف النجار على تكوين مكتبته والحفاظ على خصوصية فضائه الصغير في الحجرة الفقيرة في (مالك الحزين). وحاول أن يدير حياته بين العمل والتجارب الحسية بشبق بطل (عصافير النيل) وحبه للحياة. وخرج من فضاء الحارة إلى شاطئ النيل أولا ثم إلى وسط المدينة الغاص بالضجيج والرؤى مستكشفا عوالم جديدة مثلهما. وكانت زمالته لمحيي الدين محمد في العمل بماركوني دافعا لأن يكون الخروج إلى وسط البلد خروجا فعالا فيه. حيث فتحت له تلك الزمالة/ الصداقة آفاقا واسعة وجديدة في القراءة، وفي معرفة ما يدور في حاضر الثقافة المصرية والعربية التي كان محيي الدين محمد من ألمع نجومها وقتها.
لكن ما ميز وفود أصلان إلى ساحة الكتابة الستينية عن غيره من كتاب هذا الجيل اللامعين أنه لم يبدأ بتجارب قريبة إلى عوالم السيرة الذاتية كما فعل عبدالحكيم قاسم في (ايام الإنسان السبعة) أو يحيى الطاهر عبدالله في (ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا) و(الدف والصندوق)؛ وإنما بدأ بقصص قصيرة لامعة من نوع «البحث عن عنوان» تقتنص جوهر الحالة العامة في اللحظة الحضارية التي تصدر عنها وتجسدها بدقة وتألق. فقد كان إبراهيم أصلان أكثر كتاب جيلنا تأملية. يتأمل ما يدور أمامه في الحياة، يطرح عليه في صمت أسئلته، ويسعى لاستخلاص جوهره. لذلك كانت مجموعته الأولى (بحيرة المساء) 1971 مجموعة لافتة، لم تعادلها في الأهمية وقتها، وفي القدرة على اقتناص جوهر اللحظة، إلا مجموعة بهاء طاهر (الخطوبة) التي صدرت بعدها بشهور قليلة. ففي هذه المجموعة استطاع إبراهيم أصلان تقطير جوهر حالة البؤس الداخلي الذي يعيشه إنسان مرحلة الانكسار المستشرفة لهزيمة 1967 والتالية لها، والراصدة لأوجاعها. فمع أن كل قصة من قصص هذه المجموعة، كما بينت عندما فصلت الحديث عن إحداها، تقدم عالمها الخاص، وحفرها الفريد في لحظتها الإنسانية المتفردة، وقدرتها على اقتناص الإنساني العام Universal وراء العرضي والخاص، فأن المجموعة ككل، وهذا سر تميزها وتأثيرها الباقي، استطاعت أن تقتنص بين دفتيها ثقل الحياة التي لاتحتمل في واقع الستينيات المصري والعربي من ورائه، وهذا هو سر تأثيرها الواسع، وفعاليتها الباقية.
(6)
هذا الولع باقتناص ما هو جوهري خلف ما هو عرضي، والبحث عن أكثر الجزئيات تجسيدا له، هو ما يميز مشروع أصلان السردي كله عندي. فالكتابة عنده، كالحياة نفسها، ليست سهلة وإن كانت عذبة وممتعة في الوقت نفسه. فقد كانت حياته في امبابة، وعمله في ورديات الليل الطويلة تلخيصا لهذا التناقض بين حياة لايحدث فيها شيء، ولكنها قد تتكشف فجأة عن منجم من الثراء الإنساني. كما يحدث مع ليلة طويلة مملة لا يحدث فيها شيء في مكتب التلغرافات، ثم فجأة تجيء فتاة شابة نضرة ولكن يبدو عليها الفقر، مع كهل عربي، يقفان أمام الشباك تريد أن ترسل برقية وتكتب وتشطب، وتكتب، ثم تستقر على كلمات لاتقل تلخيصا وثراءً عن كلمات أصلان نفسه «لا تحضر! تزوجت أمس! سنسافر اليوم». يقول أصلان وهو يحكي لي ما جرى في تلك الليلة المملة التي تكشف فجرها عن تلك الدرة اليتيمة، «شوف ياراجل اللي كتبته البت! أجدع من أي كاتب قصة!». هل يستطيع أحد أن يكثف زواج هذه الخوخة النضرة المتألقة رغم فقرها، بذلك العجوز الجلف الذي يبدو عليه الثراء، بمثل تلك العظمة. فأنت لاتعرف لمن ترسل هذا التلغراف؟ هل ترسله لأبيها أو عمها أو خالها أو أخيها، أو حتى حبيبها المغدور؟ ولكنك لابد وأن تدرك أن ثمة شيئا خطأ في هذا الزواج، دون أن تقول البنت ذلك على الإطلاق. أي قهر هذا!
كانت هذه اللحظات/ الدروس ربما هي ما تجعله يصبر على تحمل العمل في ورديات الليل، برغم مشقته. فلا أذكر أنني سمعت إبراهيم يشكو من هذا العمل أبدا، كان يتحدث عنه طوال الوقت، وخاصة في شبابه وشبابنا الأول، بحيادية مثل حيادية كتابته. وكنا جميعا نشكو من الأعمال التي نقوم بها، ونتمنى أن ننتقل لعمل ثقافي أسهل وأقرب لاهتماماتنا. لكن إبراهيم لم يكن يشكو مثلنا، فقد كان فيه قدر أكبر من الكبرياء. ولكن الكثيرين خاصة بعدما طال صمته بعد مجموعته الباهرة الأولى، أحسوا بضرورة أن يتفرغ للكتابة، فرشحه الكثيرون لمنحة تفرغ لمدة عام، ولم يكن ثمة تفرغ لكتابة القصة القصيرة، وإنما كان لابد أن يكون المشروع هو كتابة رواية! وكان كثيرون من كتاب هذا الجيل قد بدأوا يجربون أقلامهم في كتابة الرواية، بعضهم على خجل مثل محمد البساطي الذي بدأ بروايتين قصيرتين (المقهى الزجاجي والأيام الصعبة) وبعضهم بقوة مثل عبدالحكيم قاسم في (أيام الإنسان السبعة). بينما استطاع البعض الآخر مثل يحيى الطاهر عبدالله أن يحيل قصصه القصيرة إلى متتاليات تتخلق منها رواية.
هكذا ورغما عنه كان عليه أن يكتب رواية، بالرغم من أنه لم يقدر أبدا أن عليه أن يكتب إلا بضع صفحات. فالكتابة عنده عمل صعب للغاية، لكن السنة طويلة .. هكذا قلت لإبراهيم حينما أسر لي ببعض مخاوفه من كتابة الرواية، وخاصة بعدما حصل بالفعل على منحة التفرغ، وتمكن من الحصول على موافقة العمل على منحة أجازة بدون مرتب لمدة عام. وبالرغم من الصعوبات التي عاناها إبراهيم في كتابة هذه الرواية، وولادتها العسيرة، إلا أنها جاءت، حينما كتبت، واحدة من أبرز روايات جيله. وكأن صعوبة الكتابة هي التي تمنحها عمقها وتألقها. أذكر هنا موقفا مشابها، حدث بعد سنوات من نشر روايته الأولى تلك (مالك الحزين) حينما دعيت معه ومع عبدة جبير للمشاركة في ندوة أسئلة الرواية بالرباط في أواخر الثمانينيات أو مطالع التسعينيات على ما أظن. كانت هذه أيضا هي زيارته الأولى للمغرب، وقد أدهشه تقدير المغاربة لأعماله وافتتانهم بروايته. وكان إبراهيم مبرمجا في برنامج الندوة لإلقاء شهادة عن تجربته الروائية، كما كان الحال مع عبده جبير. وأخبرنا عبده أنه كتب شهادة طويلة، وأن عليه أن يختصرها. أما إبراهيم فقد قال أنه لم يكتب شيئا! كيف يا إبراهيم؟ جاء رده: أنا لم أصعد على منصة في حياتي، ولا أستطيع أن أتكلم أمام الجمهور. وأخذنا نهون عليه الأمر، عبده وأنا، وأن عليه أن يتكلم كما يتكلم معنا، فهو لا يكف عن الحديث! ولكنه قال أن هذا مستحيل. وأنه لا يستطيع أن يتكلم على منصة حتى لو قتلوه. وقلنا له أن الحل هو أن يكتب شهادته أولا، ثم يحلها حلال! ولكنه لم يقتنع بهذا الحلال، حتى وفرته له، وأكدت له أن كل ما عليه هو أن يكتب شهادته، وسوف أقرأها نيابة عنه أمام الجمهور.
أدركت أن الكتابة هي الحل! فقد كانت لي تجربة مماثلة مع صديق جميل آخر، أطال الله عمره، هو محمد البساطي. كانت هذه التجربة في بدايات السبعينيات، وقبيل سفري لبريطانيا للدراسة عام 1973، وكان ثمة في التليفزيون المصري برنامج ثقافي مرموق يدعى (امسية ثقافية) يعده ويقدمه الشاعر والإذاعي اللامع فاروق شوشة. واتصل بي فاروق وأخبرني أنه يريد أن يقدم كتاب جيل الستينيات للجمهور الواسع، وأنه اختار كاتبين: محمد البساطي وجمال الغيطاني، وأنا كناقد لتقديمهما للجمهور. وذهبنا في الموعد وبدأت الندوة، وقدمت في بدايتها تجربة هذا الجيل وما يميزه عمن سبقوه من الكتاب، وحان دور الكاتبين، فكان الغيطاني ثرثارا كعادته، أما البساطي فلم يستطيع أن ينبس ببنت شفة كما يقولون. كلما وجه له فاروق شوشة سؤالا مباشرا، تلعثم ثم صمت! ووجدت أن عليّ أن أتدخل لإنقاذ الموقف، خاصة وأنني أعرف أن البساطي هو أفضل الكاتبين، ولا أريد أن يخرج المستمع بسبب ذرابة لسان الغيطاني وتكراره للبديهيات السهلة، بالتصور المغلوط بأنه هو الكاتب الأفضل، فتدخلت للحديث نيابة عن البساطي كلما وجه له فاروق شوشة سؤال وتلعثم في الجواب عليه أو صمت. وهناك اصطلاح معروف في اللغة الانجليزية Microphone Fright يسمى برهاب الميكروفون، أو الخوف منه حد الخرس. وهذا هو ما أصاب البساطي.
كانت هذه التجربة في ذاكرتي وأنا أعايش رهاب أصلان وخوفه من أن يقف أما جمهور يحبه، ويقدر عمله، ويخشى أن يخيّب أملهم فيه. وكان يريد أن يتخفف من المهمة، ولكن إصراري أنا وعبدة جبير على ضرورة أن ينهض بها، وأن من العيب أن يدعى للندوة، ويجيء، ثم لا يقول شيئا! كنت أصر دائما «عيب يا إبراهيم!» وأنا أعرف أنه لا يحب أن يكون موضع العيب أو مقترفه. ومضى اليومين الأولين من لقاء الأصدقاء والتعرف على المدينة، وإجراءات يوم الافتتاح، وكان إبراهيم مبرمجا للإدلاء بشهادته في اليوم التالي وكنت أنا مبرمجا لرئاسة تلك الجلسة. فسألته كتبت الشهادة يا إبراهيم؟ لا! ولا حاجة خالص! ولا حاجة خالص! وفي المساء كان ثمة دعوة لنا في الخارج، فقلت لإبراهيم لابد من أن تبقى في الغرفة محبوسا حتى تنتهي من كتابة الشهادة. ووافق بعد ضغط شديد، ووعي بأننا نحرمه من أكثر ما يحبه، وهي الصحبة الطيبة! وحينما عدنا في المساء بعد السهرة خارج الفندق عرجت على غرفته! كتبت الشهادة يا إبراهيم؟ فتطلع إلى بعينيه الواسعتين الدهشتين، وشبح ابتسامة خفيفة تحت شاربه الكث، وهو يقول:
- ولو قلت لك لأ حا تعمل إيه؟
- حا اموتك!
- طب خليها لبكرة!
- وليه مش النهاردة
- لأني لسة حا اشتغل كمان عليها!
وأراني صفحتين كتبهما بخط يده، فأطمأن قلبي! وأردت أن آخذهما، ولكنه أصر على أنها سيعمل قليلا عليها ويبيضها! وبين الخوف من أن يحذف إبراهيم ما كتب، والرغبة في أن أترك لك أكبر فسحة ممكنة من الوقت للمراجعة والتبديل، ترددت كثيرا ولكن وعي بوسواس الكتابة عنده والرغبة المستمرة في التبديل والتركيز، جعلني أترك النص معه للصباح التالي. وعلى الإفطار قدم لي الورقتين. ورقتان لاغير، مكتبوتان بخط يد كبير ومنمق، وكانت شهادته مبرمجة لعشرين دقيقة، فقلت:
- دول ما يعملوش خمس دقايق!
- أقراهم على مهلك!
وفعلت وكان وقع الشهادة على القاعة مدهشا! فقد دوي بعدها تصفيق القاعة لأطول فترة طوال تلك الندوة! كان إبراهيم جالسا على يساري، وأنا أقرأ كلماته بتؤدة، بعد أن قدمت لها بكلمات قليلة عن أن هذه هي المرة الأولى التي يجلس فيها على المنصة، ولديه ما يعرف بالانجليزية برهاب الميكروفون، ولذلك فقد كتب شهادته وسأقرأها نيابة عنه. ويبدو أن المعاناة في صعوبة الكتابة تتناسب طرديا مع جودتها عنده. فلم يكن يريد أن يكتب شهادة، ولكنه حينما وجد أن عليه أن يفعل ذلك، أقبل على المهمة بكل صعوبتها، واستقطر كل ما فيها.
(7)
هذا هو ما حدث أيضا قبلها مع كتابة العلامة (مالك الحزين). لم يكن يريد أن يكتب رواية، ولكن كان من العيب ألا يكتبها وقد أخذ التفرغ من أجلها! كان التفرغ هو أحد منجزات ثروت عكاشة، أهم وزراء الثقافة في مصر في نصف القرن الماضي، عمر هذه الوزارة، وكان يتيح لمن يحصل عليه بعد شهادات بجدارته أن يحصل على أجازة كاملة بدون مرتب من عمله، وأن يحصل من وزارة الثقافة على مرتب شهري طوال هذا العام يفوق مرتبه الذي كان يتقاضاه من عمله كي يتفرغ كلية لإنجاز مشروع ثقافي معين. وكان إبراهيم قد حصل على التفرغ من أجل أن يكتب رواية! وكان عليه أن يكتب تلك الرواية. فمن العيب أن يخل بتعاقده، مع أن الكثيرين قد أخلوا بتعاقداتهم تلك. لكن كبرياء إبراهيم لم تكن تسمح له أبدا أن يضع نفسه في مثل هذا الوضع وأن يصدر عنه ما يعتبر عيبا!
وقد أثمرت بحق معاناته الطويلة في كتابتها! لأنه استطاع فيها أن يقتنص جوهر لحظة التقوض وانتصار الهزيمة التي تخلقت في السنوات العشر التالية لصدور مجموعته الأولى. فقد جاءت هذه الرواية الجميلة بعد هزيمة أخرى بددت منجز الايام الباهرة الأولى في حرب 1973 وانتهت بتمركز قوات العدو الصهيوني على مبعدة 101 كيلومترا من القاهرة، ومرغت صلافة شارون طوال ما سمي بالثغرة، ومفاوضات الكيلو 101، كرامة مصر في التراتب. ولم تكتمل فصول هوانها إلا بانتصار الهزيمة الفعلي، وذهاب السادات صاغرا إلى القدس بعدما جردته مظاهرات 18 و19 يناير 1977 من كل شرعية، يستجدي صلحا انتهى برفع علم العدو الصهيوني في سماء القاهرة، التي كانت تدّعي قبل ذلك أنها قلب العروبة النابض، بينما بقيت الأرض العربية تحت الاحتلال. لكن ما أعقب الهزيمة السياسية وترتب عليها طوال عقد السبعينيات ومع بداية الثمانينيات، الزمن السردي لـ(مالك الحزين) كان أكثر فداحة وأشد وطأة على الإنسان المصري. حيث مرغت تلك المرحلة كرامة الطبقة الوسطى وفقراء مصر كلهم في مباءة تناقضات مرحلة الانفتاح التالية.
فجاءت (مالك الحزين) لتقبض على تفاصيل عالم يتداعى بعد أن لم تعد قدرة الحلم القديم قادرة على منحه أي قدر من التماسك، أو بالأحرى عالم يقوّض عمدا تحت ضربات معاول الهدم المتمثلة في آليات الانفتاح البغيضة. جاءت هذه الرواية الجميلة لتكتب على الورق تفاصيل عملية التداعي، وتشبث ابناء هذا الحي القديم بلحظات قليلة حية وسط غبار عملية التقويض المتطاير من حولهم. فهي في مستوى من مستويات التحليل النقدي رواية عملية التقوض الشاملة لكل ما رسخته الستينيات: تقوض الحلم الستيني بالتحرر والأمل في مستقبل أفضل، وصعود طبقة فظة جديدة لاتدرك مدى ما تحدثه من خراب. ولأن هذا العالم مكانيا كان العالم الذي عاش فيه إبراهيم أصلان في امبابة حياته كلها، جاءت كتابته له كتابة متوهجة صادرة عن خبرة عميقة بموضوعها. كتابة كان أهم ما يميزها أنها طرحت عن نفسها مع البنية الخطية القديمة للرواية، بنية الحبكة المحكمة، أي ميوعة عاطفية. بل حاولت أن تجرد الكتابة من العاطفية كلية، وتجعلها محايدة حيدة السكين المرهفة «الحامية» التي توشك من شدة مضائها أن تقطع دون أن تريق قطرة دم واحدة. تقطع أيضا مع كل تقاليد الكتابة القديمة بحدة ومضاء، وتشيد عالمها المؤتلق الجديد.
(8)
وبعد أن أسس إبراهيم أصلان في عملية الأولين في جنسي الأقصوصة والرواية منهجه السردي المتميز ذاك، بدأ العودة إلى عوالم قريبة من سيرته في (وردية ليل)، و(عصافير النيل) التي يعود فيها لامبابة من جديد، ويخلق فيها عالما روائيا شيقا يضاهي العالم الذي يصدر عنه النص دون أن يحاكيه. والفن الروائي الجميل هو الفن الذي يضاهي العالم، ليرهف وعينا به، دون أن يقع في أسر محاكاته أو في شراك نسخه والالتزام بتفاصيله أو بدورة الزمن فيها. لأن الكاتب الحاذق هو الذي يقوم باستقطار التجربة واستخلاص ما تنطوي عليه من جوهر باقٍ. وقد استطاع إبراهيم أصلان في هذه الرواية البديعة أن يحيل بنية نصه السردية ذاتها إلى معادل للبنية المكانية التي يدور فيها عالمه القصصي كله، وأن يحول إيقاع السرد وتداخل الأزمنة فيه، وعدم الالتزام بأي تسلسل للأحداث إلى المعادل الروائي لإيقاع الحياة ولعمل الذاكرة الشعبية التي لم يشذبها التعليم أو يرهف المنطق قدرتها على التتابع. لأن الحدث، والذي يمكن للقارئ أن يعيد خلقه وترتيبه كلما أوغل في قراءة الرواية، لايقدم إليه إلا من خلال ومضات أو لحظات سردية تتراكم وتتجاور وتتفاعل ليعكس مسارها نفسه، وعالمها المترع بالشخصيات والتفاصيل، بنية حي «امبابة» الشعبي المكتظ بالبشر إلى حد الاختناق والتخمة، المزدحم بالأشياء والنفايات والتواريخ، العاري من أي ترف أو جمال لشدة فقره المادي، وقبوعه بالقرب من القاع الاجتماعي القاهري. ولكن هذا العالم الفقير إلي حد الشظف، والذي يكدح أفراده للحصول بالكاد على لقمة العيش، يتحول تحت وقع معالجة إبراهيم أصلان السردية المرهفة إلى عالم إنساني شفيف مترع بالعواطف البشرية والأحلام والتواريخ والحكايات التي لانهاية لها.
وهي حكايات تضفي عليها خفة دم السرد واهتمامه بالفكاهي وبالمفارقات الاجتماعية المؤسية والمضحكة معا، مجموعة من الأبعاد الإنسانية التي تغني النص وترتفع به فوق ما يرويه، وتتجاوز حدود المروي إلى آفاق الجوهري والإنساني والمطلق. فعالم الرواية عالم يعج بالشخصيات اللصيقة ببعضها إلي حد مزاحمة كل منها للشخصيات الأخرى سرديا، كما تزاحمها مكانيا في هذا الواقع الغاص إلى حد التخمة بالبشر. بشر يبحثون عن لقمة العيش، وينتزعونها بصعوبة ولكن بقدر كبير من الفرح والاستمتاع بالحياة من بين براثن واقع صعب. يمارسون حياتهم اليومية، ويملأونها بالحكايات البسيطة المثيرة للضحك، والتنفيس عن النفس، ويتعرضون لاضطهاد الحكومة، وعسف الشرطة، ومطاردة الأمن السياسي، وصعوبة الواقع الخالي من الحرية والأمان. وهو في الوقت نفسه عالم التحولات التي انتابت الواقع المصري في هذه البقعة الخاصة من أرض مصر على مد العقود الممتدة منذ بدايات القرن، زمن وفود الجدة الكبرى «هانم» من قريتها البعيدة واستقرار أسرتها في حي امبابة، وفي المنطقة المحيطة بشارع فضل الله عثمان بالذات فيه، وحتى الآن. وإن لم يبد علي سطح الرواية أبدا أنها رواية مهتمة بسرد تواريخ هذا الواقع أو متابعة تحولاته.
لأن الرواية تستغرق في قص اللحظة، أو لحظات بعينها، بمنهج أقرب إلي منج اللقطات السينمائية المتتابعة. أو الومضات السردية التي تستقطب لحظات التوهج الجديرة بالاقتناص في حياة هؤلاء البشر الخالية مما يستحق السرد. وهي لحظات تتسم بقدرتها على الإضاءة والكشف، وبدعوتها للقارئ لتجميع أجزاء الصورة من خلال هذه اللقطات أو الومضات المتفرقة. وكأن إبراهيم أصلان يصحب قارئه إلى غرفة مظلمة علقت فيها جدارية ضخمة، ولايمد هذا القارئ إلا بكشاف ضوء صغير ضعيف «بطارية»، لايستطيع أبدا أن يمكنه من رؤية اللوحة الكاملة في أي لحظة، وإنما يضيئ كل مرة بقعة صغيرة منها، وعليه أن يحرك كشاف الضوء باستمرار ليرى كل مرة رقعة صغيرة من اللوحة. وهو فضلا عن ذلك كله لا يمرر هذا الكشاف على سطح اللوحة بانتظام وتتابع، وإنما يحركه بسرعة على امتدادها الواسع، ليسلطه مرة على بقعة هنا، وأخرى على بقعة هناك. وهذا المنهج السردي الذي يركز كل عنايته على إضاءة رقع صغيرة ومتفرقة من التجربة الإنسانية للأفراد، ومن العالم المكتظ بالبشر والأحداث يتطلب من القارئ جهدا كبيرا في تجميع أجزاء اللوحة، وفي مقاومة الاستغراق في ما دفقة الضوء في كل مرة يسلط الكاتب رقعتها على اللوحة. فقد استدعت هذه الرواية إلى ذاكرتي لوحة «حي شعبي» للفنان المرموق عادل السيوي، وهي اللوحة التي تتطلب من مشاهدها أن يركز كل مرة على جزئية من جزئياتها، وأن يكتشف في كل مشاهدة جديدا فيها.
فالرواية كلها مشغولة ـــــ في بعد من أبعادها ـــــ بتتابع الموت والميلاد: موجات وراء موجات، وأجيال وراء أجيال والعالم السردي لا ينمو بشكل مضطرد، وإنما تدور أحداثه بشكل بندولي، تتقدم للأمام مرة، وترتد للوراء مرات، ولكنها تخلق لنا في حركتها البندولية تلك عالما حيا وزاخرا بالشخصيات والحركة. يسجل لنا فيه كيف بدأ زحف الريف على المدينة في عملية ترييف المدينة، وهي واحدة من العمليات التي تكشف لنا هذه الرواية بعض ملامحها. ويستطيع القارئ أيضا أن يتابع دورة الزمن وتجددها المستمر في هذه الأسرة. فليس هدف الرواية سرد التاريخ وإنما تجسيد ترسباته في وعي المكان وذاكرة البشر. حيث لا تسجل الرواية وقع الأيام القاسية على هذه الأسر الصغيرة فحسب، ولكنها تسجل من خلال هذا الوقع تدهور وضع الفقراء في مجتمعنا. فبينما استطاعت الجدة «عزيزة» والأم «هانم» أن تورث البنت «نرجس» الكردان الذهب والخلخال، فإن نرجس اضطرت إلى بيع هذا كله، ولم يبق لديها ما تورثه لأحد، اللهم إلا الفقر والعوز والخوف مما تأتي به الأيام، وليس في اليد ما يستر الفقير بين الناس. فالفقراء في مصر ينحدرون إلى مزيد من الفقر بينها ينهب الأغنياء كل خيرات البلد ويوطئونها للأعداء.
(9)
أعود الآن إلى مواجهتي الأولى مع أصلان، أو خلافي الأول معه، عقب نشره قصة «البحث عن عنوان» في مجلة (حوار). وهي قصة لا تشير من قريب أو بعيد إلى السياسة، برغم أنها مترعة بالسياسة المضمرة كما قلت. وكنت قد كتبت مع صلاح عيسى «بيانا من كاتبين مصريين» ضد هذه المجلة وتوجهاتها وشكوكنا فيها، بعدما تعاملنا معها كلانا، ونشرناه في مجلة (الحرية) ببيروت التي كان يصدرها القوميون العرب وقتها، ونقلته عنها (الآداب). وهو بيان يدعو لمقاطعة المجلة لما حدسناه من توجهاتها المشبوهة. ثم تداولته أكثر من مطبوعة لبنانية فاتحة نقاشا موسعا حولها. وعاتبت إبراهيم أصلان لنشره في (حوار) بعد كل ما دار، وبعد معركتنا ضدها. وكان تعليقه أنه لم يتابع شيئا من هذا العراك، وأن المجلة وفق الأعداد التي قرأها منها مجلة جيدة، تنشر نصوصا راقية. وهذا هو ما دفعه لإرسال نصه لها. لكنه ردد لازمته الشهيرة «لا ياشيخ!» حينما شرحت له أسبابنا، وعقب وكأنه يتشبث بشيء يتعكز عليه «بس محيي بينشر فيها» يقصد محيي الدين محمد، فقلت له كان!
والواقع أنه ما أن مرت عدة شهور بعد ذلك النقاش معه، حتى نشرت الصحف الغربية ما يفيد ضلوع المخابرات المركزية الأمريكية في تمويل المؤسسة «مؤسسة حرية الثقافة بباريس» التي تمول مجلة (حوار) وغيرها من المجلات الأدبية المرموقة وقتها، وبينها مجلة Encounter الانجليزية الشهيرة والتي كان يرأس تحريرها ستيفن سبندر وقتها، واستقال منها بعد افتضاح أمر المؤسسة الراعية لها. عندها كتب لويس عوض مقالا طويلا في (الأهرام) حول الموضوع وفقا للمعلومات التي تكشفت في الصحف الغربية عنها. والتي أكدت لنا أن حدسنا الثقافي الفطري كان أرهف من كل المعلومات، ثم جاءت المعلومات بعد ذلك لتؤكد صدق حدوسنا. بعدها اتصل بي إبراهيم والتقينا في «مقهى ريش» بحجة أنه يريد أن يريني قصة جديدة له، أخذتها منه لنشرها في مجلة (المجلة). لكنني أدركت أن السبب الحقيقي كان أنه يريد أن يناقش معي مرة أخرى مسألة نشره لقصته تلك في (حوار)، فعرج على الموضوع من جديد، ذاكرا أنه قرأ ما كتبه لويس عوض وقال وكأنه يريد أن يغلقه نهائيا: «الواحد لازم يخلي باله من الحاجات دي!». فقلت له «صح!» وقفلت الموضوع لأنني كنت على يقين من نقائه. فقد كان إبراهيم أصلان ومنذ بداياته حريصا على موقفه ككاتب، على استقلال هذا الموقف وتنزيهه عن مواطن الشبهات. وعلى طرح رؤاه النقدية للواقع في أعماله الإبداعية وحدها، والبعد عن أي اشتباك مباشر مع السياسة. وقد ظل يرعى تلك النزاهة برغم صعوبة الزمن وقسوته، وبالرغم من أنه ظل يعمل في ورديات مصلحة التليفونات حتى منتصف الثمانينيات، حينما أخذته أنا والراحل الكبير عبدالحكيم قاسم إلى سمير سرحان، وطلبنا منه أن ينقله لهيئة الكتاب للعمل في (مختارات فصول) ففعل، ثم انتقل بعدها للعمل في مكتب جريدة (الحياة) بالقاهرة.
(10)
حينما كتب إبراهيم أصلان قبل عام في مقال بالأهرام بعنوان «تجريد السمكة» (28 ديسمبر 2010) عن زيارته الأولى للعراق، وقال «عندما دعيت إلي المربد الثاني ببغداد في العام.1972 كانت هي المرة الأولي التي أغادر فيها مصر ... ولأن المربد في بداياته كان مهرجانا للشعراء ونقادهم، حضره في دورته الثانية تلك ستة أذكر منهم المحقق الكبير الشيخ محمود شاكر والدكتور القط ورجاء النقاش وسامي خشبة والشاعر عفيفي مطر، وهؤلاء جميعا رحلوا ولم يبق حيا من الوفد حتي اللحظة إلا الدكتور صبري حافظ وكاتب هذه السطور، أطال الله عمرينا ولو قليلا. كان الجميع شبابا، وهكذا بغداد.» وقرأت هذا المقال عن بعد، لمستني جملته الاعتراضية الجميلة ودعاؤه، «أطال الله عمرينا ولو قليلا. كان الجميع شبابا، وهكذا بغداد.» وتوقفت فيها عند «ولو قليلا! كان الجميع شبابا، وهكذا بغداد» التي تكسب الحكي الشيق في المقال بصمة أصلانية خالصة. يكشف فيها تقشف الجملة وتركيزها وبساطتها عن غناها الفادح بالدلالات. ها هو أصلان «جواهرجي الكلمات البسيطة» يهزني من جديد! يكشف دعاؤه البسيط لنا بطول العمر، ولو قليلا، عن وعي مضمر بأنه لم يبق لنا إلا القليل! وعن نداء ملتاع يطرح أسئلته: ماذا جرى لنا؟ وكيف مرت تلك السنين؟ ولماذا انتهكت بغداد وتدهورت ككل شيء في هذا الزمن الردئ؟ كان الجميع شبابا، وهكذا بغداد! كلمات قليلة ولكنها مشحونة بالمعنى، تفتح مخزون الذكريات، وتطرح الأسئلة المدببة على النفس والعالم.
ذكرني إبراهيم بضربة معلم بالزمن الجميل، وببغداد في تألقها الذي استقبلتنا به مفتوحة الذراعين ترينا أفضل ما فيها، وتستوعب أفضل ما فينا. فلما عدت بعدها لمصر اتصلت به والتقيته في «الجريون» وتبادلنا الذكريات الحلوة عن تلك الأيام الرخيّة البعيدة ... كانت تلك الزيارة الأولى لنا كلينا خارج مصر، وكلما ذكرته بشيء منها: فاكر يا إبراهيم! حتى يتدفق بالحكي الجميل. فقد كان، وما أصعب أن أبدأ الحديث عنه بفعل كان! حكاءا لا يشق له غبار. كان مندهشا في تلك الزيارة بوقع ما كتبه، مجموعته الوحيدة (بحيرة المساء) التي صدرت بالكاد قبل شهور من تلك الرحلة، على الناس، يقول لي بعد كل لقاء بمجموعة جديدة من الكتاب العراقيين منهم وغير العراقيين:
- دا قاريين كل حاجة كاتبينها ياجدع!
فلا تعرف كما هي العادة مع كلمات إبراهيم أصلان، إن كانت هذه مجرد جملة تقريرية أم أنها تعبير عن فرح أو عن دهشة؟ هل هي إعجاب بهم؟ أم تعجب من وقع ما كتبه عليهم؟ أم تراه من وقع ما نكتبه في مصر على العرب خارجها. كنا وقتها شبابا وكان مجرد انتمائنا ككتاب شبان لمصر، التي كانت حتى ذلك الوقت، وبرغم ضربة النكسة المصمية، مركز العالم العربي، كفيلا بأن يحتفي بنا كل العرب، وأن تفتح لنا كل الأبواب. كنت قد حققت وجودا ملموسا كناقد شاب في مجلتي (المجلة) القاهرية و(الآداب) البيروتية وغيرها من المنابر العربية، وكان إبراهيم قد نشر بالكاد مجموعته الأولى (بحيرة المساء)، لكن هذه المجموعة الوحيدة، والتي ظلت مجموعته اليتيمة لسنوات، كانت جديرة بكل ما استقبلت به من احتفاء داخل مصر وخارجها.
في هذا اللقاء الأخير به، اخبرني إبراهيم عن كتابه الأخير (حجرتان وصالة)، وعن أنه يريد أن يهديني نسخة منه، كما جرت عادته معي في كل كتبه. وطلب من النادل أن يبعث له بالساعي العامل بالمقهى كي يذهب إلى دار الشروق، ليجلب لي نسخة منه، لكن حضوره تأخر، وما أن جاء وأرسله إبراهيم حتى كانت المكتبة قد أغلقت. وكنت سأغادر القاهرة بعدها بيوم، وليس ثمة فرصة للحصول على الكتاب قبل سفري، فاغتم قليلا. ولما شعرت بذلك أردت الترويح عنه فغيرت الموضوع وقلت له «فاكر يا ابراهيم لما اشتريت العربية الفولكس؟ وأصريت إنك تأخدني فيها لفّة»، كانت هذه الفولكس «البيتلز/ الخنفساء» القديمة هي أول سيارة يقتنيها في حياته، فتدفق الحكي بيننا رخيا من جديد.
كان ذلك قبل عقدين من الزمان تقريبا، ولكن الزمن ارتد بنا إلى تلك اللحظة التي التقينا فيها في مقهى قديم بشارع عماد الدين، اسمه «سفنكس» على ما أظن، كان يجلس فيه عبدالفتاح الجمل، وكنت أتردد عليه من أجله كلما عدت إلى القاهرة. ولا أدري إن كان هذا المقهى موجودا حتى الآن أم اندثر! كان إبراهيم سعيدا في هذا اللقاء باقتناء تلك السيارة الجميلة، يريد أن يشركني في فرحته بسيارته الأولى، وللسيارة الأولى فرحة في زمن عز فيه الفرح. وكان حريصا على أن يحبرني بتاريخها، وتاريخ مالكتها القديمة تلك السيدة العجوز التي كانت تستعملها لماما، واعتنت بها كثيرا، وكانت تحتفظ بها دوما في جراج، وليس في الشارع كما يفعل هو، وكأنه يكتب شفاهة قصة عنها، حتى أوشكت أن أعرفها من خلال حكيه. كان سعيدا كطفل باقتناء أول سيارة في حياته، وبعد كفاح طويل صعب، فقد أصبحت المواصلات «حاجة صعبة قوي!» وقد اسعده الحظ و«وقع في العربية دي» فهي برغم قدمها الشديد متينة وكالجديدة. فقد «شافت أيام عز!» قبل أن تؤول إليه، ويضحك لأنها «حا تتبهدل معايا». وذكر لي تاريخها، وكانت بالفعل قديمة، فقلت له إذا كانت قديمة إلى هذا الحد فستجد أن عليها قناع هتلر من الخلف. فقال «لا ياشيخ! إزاي» فشرحت له قصة «سيارة الشعب» التي وعد بها هتلر شعبه، حال انتصار ألمانيا في حروبها الطويلة، حيث سيملك كل فرد هذه السيارة الشعبية، والتي انتجتها ألمانيا بالفعل، وأصبحت أنجح سيارة انتجت من حيث طول مدة بقائها وما بيع منها، ربما في تاريخ صناعة السيارات كله. وقد صممت السيارة بحيث تبدو من الخلف وكأنها قناع لوجه هتلر بشاربه الصغير الشهير، وقصة شعره. ولما ذهبنا للسيارة بعد انتهاء قعدتنا في المقهى، كان فرحا بتلك المعلومات الجديدة، وهو يشير «آه والله! آدي شنبه، وآدي عينيه!»
(11)
حينما ذهبت للمطار مسافرا، بعد هذه السهرة بيوم واحد، وجدت لحسن الحظ كتاب إبراهيم أصلان الجديد في مكتبة المطار فاشتريته، على أمل أن أقرأه في أقرب فرصة، لكن المشاغل وأحداث الثورة الجارفة شغلتني عنه، ولم تتح لي قراءته إلا بعد رحيله. وزمن القراءة يشارك في عملية التأويل كما نعرف ويلونها بأطيافه. بالصورة التي يبدو لي معها الكتاب الآن وكأنه كتابه الوداعي الأخير، كما كان لقائي معه في «الجريون» لقاءنا الأخير. صحيح أنه يدير فيه حوارا على مستوى البنية النصية مع متغيرات النص السردي العربي، إذ يعنونه (حجرتان وصالة: متتالية منزلية) والعنوان، بتقريريته الحيادية عنوان أصلاني بامتياز. أما العنوان الفرعي الطريف «متتالية منزلية». فلا تعرف إذا ما كان يسخر من شيوع المتتاليات القصصية في هذه الأيام، أم أنه يطرح على قارئه نوعا جديدا من الكتابة السردية. وسيظل هذا العنوان الفرعي يناوش عملية القراءة ويحاورها باعتباره عتبة نصية لابد من أخذها بعين الاعتبار، ولابد من الوصول فيها لرأي أو قرار.
وكلما تقدمت في القراءة كلما تبينت أن لهذا العنوان الفرعي وظيفة تجنيسية. لأن الكاتب يدرك أن ما يجمع هذه النصوص، والكتاب يتكون من 28 نصا قصيرا، شيء مغاير لما اعتاد عليه في كتبه من قبل. فليس له بنيته العضوية الفنية التي تجعله يصفه بأنه رواية، بالرغم من وحدة الشخصيات التي ترتبط ببعضها برباط سردي وثيق، وبالرغم من أن هناك صيرورة زمنية، هي صيرورة تدهور وليست صيرورة نمو، تبدأ منذ تقاعد البطل «خليل» من وظيفته، وتستمر حتى استحكام وحدته بعد موت زوجته «إحسان»، وتضعضع صحته ثم تدهور عالمه والعالم من حوله. كما أننا لسنا بإزاء مجموعة قصصية، وإن كان من الممكن قراءة بعض هذه النصوص وكأنها قصص قصيرة مستقلة، تربطها ببقية النصوص ما يجعل من الممكن وصفها بأنها متتالية قصصية، أو نص مفتوح من نوع (وردية ليل) التي وعد بأن هناك كتابا ثانيا لها لم يظهر أبدا. لكن أصلان لم يشأ أن يسميها متتالية قصصية، فجاء هذا التجنيس الجديد، «متتالية منزلية». كي يرتد بنا إلى سمة أساسية في عالم أصلان الأدبي، ألا وهي محورية المكان. فالعمل الجديد، مثله في ذلك مثل (مالك الحزين) و(عصافير النيل)، يتمركز حول المكان، ولكن المكان هذه المرة يضيق ويفرض حصاره على الشخصية إذ لا يتجاوز حدود المنزل ومتتالياته، وقد حدد العنوان بدقة طبيعة هذا المنزل، وهو (حجرتان وصالة) أي شقة صغيرة في عمارة ما، وفي حي شعبي لا يختلف كثيرا عن حي امبابه الذي تدور فيه أغلب عالمه. وإن كان ثمة أكثر من إشارة إلى أننا في بيت جديد، وأن ثمة زيارات تتم للبيت القديم في فضل الله عثمان. فلعها شقته الجديدة في المقطم التي انتقل إليها في سنواته الأخيرة كما يقول البعض! ولعلها في أي مكان آخر في قاهرة بداية القرن كما تشي الإشارات المتعددة لما أدعوه بذاكرة النص التاريخية. لكن لابد ألا يشغلنا الموقع، لأن كتابة أصلان عموما برغم أنها تنضح من تجربة حميمة، وخبرة عميقة بما يكتب عنه، تسعى دائما للابتعاد عن أي إحالات سيرذاتية كما نعرف.
المهم أننا هنا بإزاء نص بديع له خصوصيته التجنيسية والسردية معا. إنه نص التقدم في العمر والارتداد إلى براءة أخرى غير براءة الطفولة الصافية؛ لأنها براءة قائمة على المعرفة هذه المرة وعلى الاستخفاف المضمر بكل شيء بعد أن قر في الذهن أن الحياة زائلة ولم يعد ثمة مبرر للتمسك بها. وهو لذلك نص مترع بالتهكم على تصاريف الحياة وقد انكشف فيها القرينان: خليل/ أبو سليمان وإحسان/ أم سليمان بصورة لا تحتمل. صورة جديدة لا لخفة الوجود، وإنما لفداحته غير المحتملة مع التقدم في العمر، والإيغال في الوحدة حيث يشيخ كل إنسان وحده. يتناول علاجه اليومي وحده، وتزداد كل يوم غربته عن شريك حياته، بالصورة التي يصبح فيه «خليل» غريبا كلية عن زوجته، التي يخضها اكتشاف وجوده في الشقة كلما تحرك فيها. والواقع أن شهقات إحسان وتفاجأها بوجود زوجها في الشقة هي بنت إلغائه الكامل لا من حياتها فحسب، وإنما من الوجود نفسه. وهو إلغاء مضمر يعمق وحدتها وإحساسها بالخطر معا. إلى الحد الذي تتهمه فيه «إنت حاتجيبلي سكتة قلبية» (ص41) فيتأثر بذلك الأمر دون أن يستغربه، بل يعمد إلى إحداث صوت مستمر، كي لا تفاجأ به.
ويكتب هذا النص الجميل الذي ينطوي على قدر من التطور الزمني من النصوص الأولى التي تدور عقب خروج «خليل» على المعاش ومواصل بعض روتينه اليومي، ومراقبة العالم الخارجي عن بعد، وحتى النصوص التالية التي يشحب فيها وجود العالم الخارجي تدريجيا حتى يتلاشى، ثم النصوص التي تليها زمنيا والتي يناظر فيها التدهور الشخصي، في الصحة والعلاقات بين الزوجين معا، التدهور الاجتماعي والأخلاقي في الواقع الخارجي، وحتى النصوص المتأخرة التي تعقب وفاة «إحسان» المفاجئة، وبقاء «خليل» وحده وقد تضعضعت صحته، وضعفت ذاكرته، وأخذ ينسى الأشياء على النار حتى تحترق ويتصاعد دخانها إلى الواقع الخارجي، وكأنها تذكير له بوجوده من ناحية، وبأن الحياة تنطوي دوما على قدر من المخاطرة من ناحية أخرى. لكن هذا النص الجميل يحتاج منا المزيد من التريث عنده نتأمل ما فيه. فلم تكتب هشاشة الإنسان حينما يتقدم به العمر من قبل بهذه الرهافة، ولا بهذا العمق في الأدب العربي.
(12)
فقد كان إبراهيم أصلان، وما أفدح الحديث عنه بفعل كان، كاتبا متفردا في لغته ومنطلقاته السردية ورؤيته للعالم منذ بداياته الباكرة في مطلع السيتنيات، لفتت أعماله نظري من البداية، فكتبت عنه حتى قبل أن يصدر مجموعته اللافتة الأولى (بحيرة المساء) عام 1971 والتي استقطبت اهتمام الواقع الأدبي منذ ظهورها، وأكدت مكانته كواحد من أكثر أصوات هذا الجيل تمكنا وأصالة. وعرفته منذ هذا الزمن البعيد وربطت بيننا صداقة حميمة، وصاحبته في رحلتنا الأولى إلى العراق عام 1972، وفي رحلته الأولى إلى المغرب في الثمانينيات ولنا بها قصص تستحق أن تحكى. ثم رافقته أثناء زيارته للندن لإجراء جراحة القلب الأولى. وأهم من هذه المعرفة الإنسانية الحميمة والتي تحتاج إلى وقفة خاصة بها للكشف عن الإنسان وراء الكاتب الذي حرص على استقلاله وكرامته في زمن التردي والتبعية والهوان، وخيانة المثقفين لأنفسهم ولقيم شبابهم الثقافي الأولى. أقول أهم من هذه المعرفة الحميمة والمهمة هي معرفتي به ككاتب وكمشروع سردي متميز، كتبت عن عدد غير قليل من أعماله، وهي في الواقع قليلة. فقد كان أصلان كاتبا مقلا شحيح الإنتاج. إذ لم يكتب في مسيرة طويلة امتدت لنصف قرن من الزمان غير ثلاث مجموعات قصصية (بحيرة المساء) و(يوسف والرداء) و(حكايات من فضل الله عثمان) وثلاث روايات (مالك الحزين) و(وردية ليل) و(عصافير النيل) ومتتالية سردية (حجرتان وصالة). لكن شحة انتاجه تتناسب تناسبا عكسيا مع غنى هذا الانتاج الأدبي، وعمق معرفته بالواقع والإنسان.