في قلب الليل، رن جرس التليفون، ولما رفعت السماعة وقلت: أيوه جاءني الصوت، عميقا ومبتسما: كيفك:
ــ الحمد لله.
ــ طمني عليك؟
ــ ماشي الحال
ربما تمهلت لحظة قبل أن أصيح:
ــ ياسين؟ الحمد لله علي السلامة.
ــ الله يسلمك.
ــ أنت هنا علشان المؤتمر؟
ــ صحيح.
ــ لازم أشوفك.
طبعا. هادي أول مكالمة أجريها بمصر، وأول صوت أسمعه. تصبح علي خير.
وأغلق السماعة.
ـــ2 ـــ
هذا صديقي ياسين النصير، الناقد العراقي المعروف. كنا التقينا قبل ثمانية وثلاثين عاما عندما دعيت إلي المربد الثاني ببغداد في العام.2791 كانت هي المرة الأولي التي أغادر فيها مصر. ولأن المربد في بداياته كان مهرجانا للشعراء ونقادهم، فقد دعيت ككاتب للقصة من مصر ومن سوريا دعي القاص زكريا تامر والسيدة قمر كيلاني كذلك القاص الراحل سعيد حورانية الذي كان يعيش في موسكو، والباقون حشد من الشعراء والنقاد العرب، والمهرجان الذي انتهي مع السنين إلي دعوة المئات من مصر، قبل ما جري للعراق، حضره في دورته الثانية تلك ستة أذكر منهم المحقق الكبير الشيخ محمود شاكر والدكتور القط ورجاء النقاش وسامي خشبة والشاعر عفيفي مطر، وهؤلاء جميعا رحلوا ولم يبق حيا من الوفد حتي اللحظة إلا الدكتور صبري حافظ وكاتب هذه السطور، أطال الله عمرينا ولو قليلا. كان الجميع شبابا، وهكذا بغداد.
ــ3 ــ
في ذلك اللقاء البعيد نشأت صداقة عميقة ربطتني بعدد كبير من الكتاب العراقيين والعرب. كانت مجموعتي القصصية الأولي بحيرة المساء صدرت قبل عام، وفرحت بأن الناس خارج مصر يعرفونها ويعرفونني، وكان شاب صغير السن يدعي حسين عبداللطيف حضر من البصرة وظل في صحبتي لا يتركني أبدا. وبعد عودتي من بغداد بشهر أو اثنين، جاءني في الكيت كات شاب عراقي يحمل حقيبة مهداة من حسين تضم بيجاما جديدة وقميصين وفوطة ملونة وبعض الكتب وكمية من البلح العراقي وعدة قطع من الصابون ذي الرائحة، كانت هذه أول هدية تصلني من خارج مصر، وعندما كنت أطالع مجلة الأهرام العربي أمس رأيت حوارا مع ياسين النصير بشعره الكثيف الأبيض يتحدث فيه عن أيام السجن والتخفي والهروب إلي عمان والعمل سائقا للتاكسي عدة سنوات قبل هجرته إلي هولندا قبل أن يعود أخيرا إلي بغداد، كما رأيت صورة لصديقنا المبدع العراقي فاضل العزاوي المقيم في ألمانيا، وهو بدا شأن كهل ألماني يرتدي طاقية صوفية مستديرة علي حافة مائلة، والصورة بمناسبة رئاسته للجنة تحكيم البوكر العربية في دورتها الأخيرة، وعلي الفور تذكرته وهو يقترب مني شابا برفقة أحدهم بينما أجلس مساء أحد أيام العام2791 في بهو فندق المليا منصور وأسمعه يخاطب صديقه إذ يقترب ويقول:
ــ نجلس مع ابراهيم أصلان. ولد حباب.
ويجلس.
ـ4 ـ
وفي هذه المناسبة تذكرت كيف جاء ياسين قبل سنوات من هولندا كذلك صديقي القاص عائد حصباك من ألمانيا وجلسنا في المقطم نأكل سمكات البوري المشوي نعصر الليمون ونستعيد ذكري الأيام وبغداد التي كانت.
وعندما انصرفا آخر الليل اقتربت زوجتي من منضدة السفرة ووقفت صامتة وقد أصابها الوجوم. كان ياسين أكل بيديه وترك كومة من الشوك، بينما كان عائد استخدم الشوكة والسكين وترك هيكل سمكته كاملا وسليما تمتد علي بطنها بطول الصحن الذي كان أمامه، دماغها الثقيل يطل من حافة الطبق، بينما سلسلة ظهرها العالية تنتهي بزعنفة الذيل القائمة تطل عند حافة الطبق الأخري، وكانت هذه السلسلة العالية محمولة أعلي أشواك الجانبين المقوسة حول البطن الكبير الخالي، لاتوجد شوكة واحدة في غير موضعها. كأن سمكة خلعت كل ما كساها واستقرت هكذا. وفي مناسبة حضور ياسين إلي القاهرة تلوت علي الأولاد قصة السمكة والسيدة زوجتنا استعادت هذه الذكري المذهلة، ودهشنا.
ـ5 ـ
انتهي مؤتمر الرواية ولم ألتق ياسين، لكن في قلب الليل رن جرس التليفون، ولما رفعت السماعة وقلت: أيوه
جاءني الصوت، عميقا ومبتمسا: كيفك؟
ــ خللي بالك علي نفسك. نشوفك بخير.
وأغلق السماعة.
نشرت في (ألأهرام) في 28 ديسمبر 2010