هل تستحقّ تفاصيل الحياة اليوميّة، البسيطة والرتيبة، أن نكتب عنها رواية؟ لا شكّ في أنّ ابراهيم أصلان مقتنع بأنّ تلك التفاصيل العادية والسخيفة هي ما يستحقّ أن يكتب في رواية، حيث لا أبطال بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، ولا شهداء ولا خطابات سياسيّة ووطنيّة، ولا قصص حبّ وعشق وهيام، ولا صداقات ولا غدر، بل مجرّد أيّام تمضي، يولد فيها الناس ويتزوّجون ويموتون، تاركين المكان لآخرين، يستعيدون القصّة بكلّ تفاصيلها وجزئيّاتها، وكأنّ الراوي يقول: وهل في حياتنا غير ذلك؟
من يبحث في رواية ابراهيم أصلان "عصافير النيل" عن أمور غير عاديّة سيفاجأ حتمًا حين تنساب الأحداث أمامه في بساطة وتلقائيّة وعفويّة، إذ تبدأ الرواية مع الجدّة هانم، وتنتهي معها. تبدا بسؤالها عن ابنها الذي مات، من غير أن تعرف أنّه ميت، وتنتهي بسؤال تطرحه الجدّة عمّن يأخذها إلى البلد، القرية التي غادرتها منذ ثلاثين عامًا: "مش رايح البلد يا بني؟"
الجدّة خرفة، لا تعرف موقعها المكانيّ والزمانيّ، وبين السؤال الأوّل والسؤال الأخير، تاريخ عائلة قد يظنّ كثر أنّه لا يستحقّ التأريخ.
في الرواية، إذًا، كثير من التفاصيل في لغة مباشرة، لا صور فيها ولا شعر ولا تصنّع في إيراد كلمة، بل تتجاور الفصحى واللهجة المصريّة التي ينقل الراوي بواسطتها الطرائف والنكات. وتتوالى الشخصيّات عبر تلك اللغة التي تدور حول نفسها، بدءًا من الجدّة عزيزة إلى ابنتها هانم ثمّ إلى ولدي هانم، نرجس وعبد الرحيم، وصولاً إلى أولاد نرجس وأولاد عبد الرحيم. وإذا كانت تلك العائلة موجودة فعلاً فسيستغرب أفرادها كيف أنّ حياتهم تحوّلت رواية تقرأ وتحلّل وينظر إليها على أنّها وثيقة تسجّل مرحلة من تاريخ مصر.
هانم وولداها هم أبطال الرواية. نرجس شاهدة محايدة، تنظر إلى ما يجري نظرة المراقب الصامت المعترف بعجزه إلاّ عن تسجيل الأحداث: مجيء أخيها من البلد، حياته المضطربة، وفاة زوجها...حتّى أنّنا لا نقع في الرواية على شيء مهمّ يعرّفنا إلى أولاد نرجس، كأنّ حياتها كانت مشدودة أوّلاً بين قطبين: هما زوجها وأخوها، ومن ثمّ بين قطبين آخرين، ولديها عبد الله وسلامة. لكنّنا نفاجأ في مشهد موتها بعدد من الأولاد والأحفاد لم يكن لهم دور إلاّ مواصلة الحياة. فحفيدة نرجس تدعى نرجس أيضًا، نرجس الصغيرة، وابن عبد الرحيم اسمه عبدالله على اسم ابن نرجس، في عمليّة استنساخ لا تنتهي.
عبد الرحيم كذلك ليس فاعلاً، وليس كأخته شاهدًا، بل هو إذا جاز التعبير "مفعولا به"، "شاهد ما شافش حاجة". هو المرآة التي تنعكس فيها ظروف الحياة ومتاعبها، ورغبات الجسد وأهواء النفس، والأوضاع الاقتصاديّة ونتائج النزوح من الريف إلى المدينة، بيد أن عبد الرحيم لا يعي شيئًا من كلّ ذلك. أليس هو من ذهب إلى النيل ليصطاد السمك فعاد بعصفورة عالقة في طعم الصنّارة التي رماها في الهواء فاصطادت الععصفورة الزرقاء قبل أن تنزل إلى الماء؟
وعندما عثروا على عبد الرحيم بعد رحلة صيده الأولى تلك، "كان منهكًا في جلبابه المبلول، وقدميه الحافيتين. كان وجهه مجروحًا وشعره منكوشًا بعد أن ضاعت طاقيّته الجديدة حتّى أنكرته نرجس واقتربت منه لتعرفه، عادوا به إلى فضل الله عثمان (اسم المحلّة حيث يقيمون) وأغلقوا الباب على أنفسهم" (ص 65)، وبعدما هدأ عبد الرحيم انخرط في البكاء.
فوق النيل الأزرق تمرّ عصفورة زرقاء وتعلق في صنّارة لصيد السمك. في أيّ عالم غريب وجد عبد الرحيم نفسه، وماذا سيكتشف بعد رحلة الصيد الأولى؟ عمل في مصلحة البوستة العموميّة (البريد – لا ننسى أنّ ابراهيم أصلان بدأ حياته العمليّة ساعي بريد)، وذات يوم فاجأه "دوس باشا بقامته القصيرة الممتلئة. يده اليسرى في جيب سترته الزرقاء، واليمنى مرتفعة بالسيجار الغليظ" (ص 78)، وكان عبد الرحيم نائمًا. خلع ثيابه التحتيّة كلّها، وإلى جانبه امرأة مصبوغة الوجه، تنظر مذعورة إلى الذين يراقبونهما، وفوق شعرها المنكوش "كاب" عسكريّ عليه تاج صاحبة الجلالة الملكة. إلى جانب دوس باشا وقف جنرال إنكليزيّ مع عدد ىخر من الضبّاط في ثيابهم العسكريّة، وقد ارتفعت في المكان "تلال من الأكياس والطرود المختومة والرسائل الواردة باسم الحلفاء"
عبد الرحيم ليس مقاومًا، ولا يعمل لتحرير بلاده من الانتداب الإنكليزيّ، بل ينام ويسكر ويعاشر النساء تحت نظر الجنرال الإنكليزيّ. ولكن لماذا أخذ "الكاب" الإنكليزيّ؟ ولماذا وضعه على كتفي المرأة، وتسبّب لنفسه بالطرد؟ واللون الأزرق؟ أهو العفن المتراكم في سترة دوس باشا أم الأمل المصطاد خطأ في صنّارة عبد الرحيم؟
قد يكون الجواب لدى الأستاذ عبد الله، ابن نرجس، وله رأي آخر آخر وموقف أكثر وضوحًا. إنّه يعرف ما يجري ولا يراقب فقط كوالدته، ولا هو كخاله ضحيّة لا تعرف قاتلها، بل يدخل السجن وتراقبه الحكومة وتحقّق مع أصحابه، فيقول: "إنّ أخطر شيء هو ما يحدث الآن" (ص 118)، ويطلب من أخيه سلامة، حين عرف أنّ الحكومة سألت عن صديقه حمامه، أن يسكت في حال سئل عن أمر يخصّه، و"لفت نظره إلى أنّ الحكومة لو عرفت أن حمامة وزوجته يعرفونني، في الوقت الذي أنت فيه اخي فإنّ الكلّ ح يروح في داهية" (ص 118). ثمّ قبض على حمامة، وبعد ذلك قبضوا على عبد الله (ص 124).
في الرواية مشاهد تعبيريّة أخرى، قد تحتمل أن تعطى مدلولات أكثر بعدًا وشمولاً لولا أنّ الروايه توحي بالمرور إلى جانب التاريخ، محاذرة الوقوع في الخطاب السياسيّ، محايدة، مغمضة العينين – أو هكذا تحاول أن تبدو – ولولا بعض الإشارات السريعة لما عرفنا زمن حدوثها، ولا الأوضاع السياسيّة التي رافقتها. ومن تلك المشاهد: مشهد المرشّح الانتخابيّ الذي يغفو خلال مهرجان التسويق له، ومشهد الحفاظ على الأرض في البلد والتي لا يعلم أصحابها موقعها وحدودها وكيفيّة استرجاعها.
لكنّ شخصيّة نرجس قد تختصر المشاهد كلّها، "أشياء كثيرة ضاعت وهي قاعدة مكانها في ملتقى الكنبتين" (ص160). لنرجس إذًا مكان ثابت من منزلها، ملتقى الكنبتين، وهي تخاف العتمة، فتطلب من زوجها أن يمدّ شريطًا كهربائيًّا ولمبة إلى مدفنها كي لا تبقى في الظلمة. الكهرباء مقطوعة عن الأحياء بصورة شبه دائمة، ونرجس تريد ضوءًا ينير عتمة قبرها.
الأيّام ستجري وهي جالسة عند مفترق الطرق، تراقب ابنها عبد الله يحمل إليها عصفورًا يعرج، ادّعى أنّه اصطاده محاولاً أن يوحي لأمّه قدرته على الصيد أسوة بأترابه. ولكنّ العصفور تعلّم الطيران ونهض محلّقًا واندفع عبر الأسوار والأشجار (ص 134). وتراقب كذلك أخاها يصطاد العصافير من النهر، ويسعى وراء نساء لا يستطيع الاحتفاظ بهنّ.
رواية التفاصيل الحياتيّة تسجّل يوميّات الناس في الأزقّة والحارات، تحكي عن هواجسهم ومخاوفهم ورغباتهم، تصف موت البهي عثمان، زوج نرجس، وموت نرجس، وموت عبد الرحيم، وطريقة غسل الميت (ص184)، والدفن، وتروي غراميّات عبد الرحيم الفاشلة، وتصف العمليّات الجراحيّة في المستشفى، لكنّها لا تذكر الولادات قطّ، بل يظهر الأولاد فجأة كأنّهم كانوا موجودين دائمًا ولم ينتبه إليهم أحد، فلا تأتي الرواية على ذكر ولادة أفرحت العائلة والجيران الذين لا يظهرون إلاّ في الأحزان والمآتم للندب والعويل.