مات عمر اميرالاي قبل ان تندلع الثورة السورية، وكان قدر المخرج الذي رسم 'الطوفان في بلاد البعث'، ان لا يرى الطوفان الذي صنعته الثورة.
يحق للفنان ان يرى قبل ان يموت. فالموت في منعطف التغيير يصير ضرباً من القتل، مثلما علمّنا المتنبي. والقتل هنا يشبه القتل هناك، لذا حضرت صورة سمير قصير المضرج بدمه السوري - الفلسطيني في بيروت، الى جانب صورة عمر المضرّج بقهره الدمشقي.
فكرت في عمر وفي صداقته لسمير قصير وانا اقرأ خبر موت ابراهيم اصلان. كان هذا الكاتب المصري شفافا كبحيرة المساء، يختزن في داخله مزيج التواضع والضوء. يكتب كمن يرسم المنمنات، يوقظ الكلمات بقلمه، ويغفو على ايقاعها. كسل من يعرف معنى الجهد، وجهد من ينتظر المعاني ولا يمل من الانتظار.
عندما اندلعت الثورة المصرية لم استطع ان لا افكر بيوسف: مالك الحزين. تراءى لي وجه الأعمى وهو يحتل الكيت كات بحسب قراءة المخرج داود عبدالسيد السينمائية لرواية ابراهيم اصلان. وسألت يوسف ماذا يفعل اليوم، هل ذهب الى ميدان التحرير والتقى هناك بروجه، وماذا فعل في الميدان وهو يرى شباب الثورة يُقتلون، وشهد كيف يحاول الجيش الاستيلاء على الثورة عبر تحويلها الى انقلاب؟
لم يعط العمر مدى لكمال عبدالجواد كي يستعيد شقيقه الشهيد في ثورة 1919، كان نجيب محفوظ قد حاكم العرش ومضى، وترك المكان لأبطال آخرين. 'الزيني بركات' ودّعنا مع رحيل ناصر، لكن 'ذات' صنع الله ابراهيم كانت ستكون في الميدان وقد اعياها العمر والشقاء. وسيكون غالب هلسا ايضا هنا، مع بطل 'الخماسين' الذي سيخرج من يأسه كي يعانق الزمن.
رأيتهم كلهم، لكن يوسف الذي اتى راكضا من امبابة، حاملا معه روائح حي 'الكيت كات'، كان الأكثر سعادة وحيرة. بعد عمر العجز واليأس، يستطيع يوسف ان يضع احماله، ويكتشف ان العمر الذي مضى لم يمض عبثا، وان كل الأسى الذي اختزنته روحه، ينفجر ضحكا ودموعا واحتمالات.
لم يعد الرثاء يليق بنا. عندما مات نصر حامد ابو زيد احرق الدمع عيوننا، لا لأننا نخشى الموت او لا نتوقعه، فالموت هو الحق الأخير الذي يأخذنا الى النهايات التي تشبه البداية في كل شيء. احترقت عيوننا لأننا كنا عاجزين عن رؤية الضوء الذي خبأته العتمة، ولم نكن قادرين على احتمال المرحلة التي صارت اسما آخر لليأس.
كان موت ابوزيد في مصر هو ذروة المنفى الذي فرضه ظلام الاستبداد على كاتب النهضة العربية الثالثة. لذا اتخذ موته شكل حزن عشش في قلوبنا، كأنه جاء ليستكمل اسى القمع بقسوة النهاية.
اما اليوم فلم يعد الرثاء ممكناً، صار الموت جزءا من احتمالات الحياة ووعودها. هذا ما صنعه شباب مصر وتونس والبحرين واليمن، وهذا ما يصنعه السوريات والسوريون اليوم ببطولة تشبه الأسطورة، وبارادة تجسّد انفجار الحياة في مواجهة الموت.
لم يعد الرثاء ممكناً، لا لأن الكلام لا يسعف، نرثي كي نرث، ومن يرث اليوم هو أفق مفتوح على الاحتمالات. هناك فجوة بين الرثاء القديم والارث الجديد. من يرث يوسف هو مينا دانيال، ومن يصنع 'احلام المدينة' هو غياث مطر، والمرأة التي تشرق اليوم في القاهرة لا تشبه ذات، الا في كونها انتفضت على ارثها كله، ومالك الحزين يخلع حزنه كي يلبس الموت.
لم يمت ابراهيم اصلان قبل ان يرى. عاش جيله الحياة كلها بحثا عن نقطة ضوء، لذا يستطيع مالك الحزين ان يمضي الى مسائه، من دون ان يندم او يتردد، فكلماته وكلمات رفاقه من كاتبات مصر وكتابها، فرشت ارض ميدان التحرير بالحلم الذي انفجر بعد اربعة عقود طويلة من القهر.
لا اريد ان اوحي بالتفاؤل، فأنا لا احب المتفائلين، الذين يغيرون صورة الواقع عبر تجميله. الواقع اكثر تعقيدا من تبسيطية التحالف/ الصراع بين الجيش والاخوان على من يحكم مصر. وتعقيد السؤال لا ينبع فقط من صعوبة حكم مصر بعد هذا الانهيار المروع الذي اوصله حسني مبارك الى ذروته، بل يأتي من الفجوة الكبرى التي ورثتها مصر، بين السياسة والطبقة السياسية.
هناك سياسة صنعتها ارض الثورة، بكل الأحلام والاحتمالات، وفي المقابل لا توجد بنية سياسية تستطيع ان تقوم بتحويل ارض الميدان الى برنامج حكم. من هنا جاء الفراغ الذي يملأه اليوم الصراع- التحالف بين الجيش والاخوان، وهذا يسبب الارتباك الكبير الذي جعل من مصر في منطقة من اللاتوازن الداخلي والاقليمي.
لكن الثورات لا تنتظر، يوسف عاش عجز الانفصال بين النخبة والشارع، اما اليوم فانه يعيش تحدي تحويل نبض الشارع الى تاريخ جديد، والى سياسة لها بنيتها، وهنا نكتشف مع يوسف حجم الفراغ الكبير، الذي يحتاج الى اعادة تأسيس للذات والسياسة كي يأخذ الثورة الى اهدافها.
اليوم تبدأ الصعوبات في مصر كما في تونس، ومعها يبدأ تاريخ جديد من الوعي الفكري والسياسي، مهمته تأسيس دولة مدنية تكون لكل مواطنيها. وهذا يعني ان الثورة لم تنته مع سقوط مبارك او مع نهاية الانتخابات، الثورة مسار طويل ومعقّد وعمل تأسيسي ينتظر من يتصدى له.
وكما في مصر وتونس، غدا عندما يشرق فجر التغيير على سورية، سوف تبدأ ورشة بناء كبرى، على الجميع الاستعداد لها، كي لا نفاجأ بالانقلابيين او باصحاب الحنين الى التبعية سواء اكانت تبعية للغرب او للنظام النفطي العربي، ينقضون على دماء الشهداء.
اضاء مالك الحزين ليل مصر، وحين التفّ ابراهيم اصلان بالموت، ترك علامته في الميدان، واورثنا عبء الحزن الذي يضيء بالكلمات.