أوصيك بالدقة لا بالوضوح، تتصدر هذه الجملة النصيحة لبول فاليري "مالك الحزين" الرواية الأولى لكاتبنا الكبير إبراهيم أصلان. وقد تكون أشهر جملة مقتطفة تصدرت رواية عربية. ما إن ترددها حتى تجد كثيرين يتذكرون (مالك الحزين) واصلان. يحدث كثيرا أن تعجب بجملة مأخوذة من أقوال كاتب أو كتاب ما، لكنك تجد أنها تمضي في اتجاه والعمل الذي تتصدره في اتجاه آخر مغاير أو مناقض لها. كأنها تصير حلية يتباهى بها الكاتب دون أن يعيها. لكن جملة فاليري بالإضافة إلى جمالها وعمقها فإنها تكشف طريقة أصلان في الكتابة ومصاغة في كلمات قليلة تذكر بالتكثيف الذي اشتهر به أصلان. تكشف عن ذائقته الجمالية في الرصد وكتابة المشهد التي تدفعك إلى أن ترى ما يحكيه لك واضحا بسبب دقته في اختيار المفردات والتفاصيل الموحية بما لم يذكره أو حذفه من النص. قراء كتابات أصلان يتذكرون جيدا طريقته في كتابة الحوارات في أعماله الإبداعية ومقالاته: كلمات قليلة يتبالها المتحاوران التي تخفي الكثير مما لا يقال ورغم ذلك كاشفة عن حالتيهما وعن المفارقة الساخرة التي برع فيها كاتبنا الكبير. حواراته مع سائقي التاكسي ومع جيرانه في مقالاته الأخيرة التي تفاجؤك موضوعاتها وتجد نفسك تضحك وأنت تقرؤها، ولا تمنعك معرفتك بطريقة أصلان في كتابة هذه الحوارات من أن تستمتع بها وتظل تتذكرها طويلا. فطريقة أصلان المقتصدة في الكلمات، والملتقطة تفاصيل تغني عن المقدمات والشرح والاسترسال، والقادرة على أن تسخر دون أن تختزل غنى المواقف والشخصيات، والقادرة أيضا أن تبدع نصوصا فائقة الجمال مما يبدو عاديا ويحدث كل يوم، والحاضر فيها الصمت كفاعل في تشكيل النص، تلك الطريقة تستطيع أن تتعرف عليها في كل كتابات أصلان وبدت كأنها كلمة السر التي يفتح بها مغارات الحكايات التي لا تنتهي، وقد تغري تلك الطريقة الكثيرين بتقليدها لكنها السهل الممتنع. والتي استطاع بها أصلان أن يضيف إلى الكتابة الإبداعية مالا يمكن نسيانه.