قد يبدو الموت قدرا مثل الحياة، وقد يكون موقفا فلسفيا من الوجود يبرر نزعة تشاؤمية، او هروبا او انتحارا، مثلما يبدو هذا الموت احيانا احساسا باكتمال دورة الحياة، واقفال لعبة الزمن، وان ما يضاف اليها من سنوات مهرولة سيكون محض فرجة انطولوجية على النهاية التي اكتملت.
لكن الموت قد ينحني من زاوية اخرى على ان يكون موقفا متعاليا، فيه الكثير من القوة التعبيرية التي تستكنه الرفض والاحتجاج والاحساس بأن العالم الذي يصنعه السرديون لا يتحمل اية لعبة في القباحة او القهر الذي تصنع نقائضه بالمقابل الاستبدادات او الحروب او القسوة التي تشوه جوانيات الانسان...
ابراهيم اصلان الذي مات وهو مسكون بالحزن والاحتجاج الخبىء، وربما باحلام لم يفصح عنها، ورغم كل السخرية التي كانت تسكنه، الاّ ان حزنه العميق كان يتمدد كثيرا في عروقه، يضعه عند حافات حادة، حافات لا يمكن ادلجتها، ولا يمكن لمجهولها او رعبها ان يقترح اي اوهام تؤنسن وجوده او حتى افقه الغائم، او لتبرير استمراره المضني في لعبة التماهي مع القبح الذي يصنعه الاخرون بوصفهم الجحيم-على طريقة سارتر.
موت ابراهيم اصلان موت لذاكرة شهدت على زمن ثقافي وسياسي مرعب، وانطوت على احساس فجائعي اثقله كثيرا بالخيبة، وربما اورثه احساسا بأن الاطمئنان لم يعد بالجوار، او لم يعد قابلا للسكنى المفتوحة عند المقهى او عند رصيف الشارع او عند شلة الاصدقاء المهلوسين الذي يثرثرون كثيرا عن السياسة والشعر والجنس والزعماء الذين لا يشيخون.. واحسب ان ابراهيم اصلان قد ادرك هذه القسوة الموحشة والفاضحة التي بدأت تهبط على الناس وعلى الكلام، فطائره الحزين كان رمزا لكائنه الاعمى-الشيخ حسني- المضاد للقسوة، والذي كان يتفرج بعمق على العالم ويرى سرائره، اذ يجسد من خلاله سخريته للكائن المتكامل الذي يرى الاشياء دون الموقف من السلطة او رموزها. صورة بطله هي رؤيا مضادة لكل افكار المواجهة السطحية، من خلال اصطناع ضدية، صورة اخرى مشحونة بالحياة الضاجة بمستويات نفسية صاخبة، فضلا عما يرسم لها من تفاصيل تحتشد بالاناسة اليومية، حيث الخوف واللذة والاحباط والحلم والضحك والغناء، وربما هو اراد ان يقدم لنا نموذجه العميق للكائن المصري الذي يصنع مزاج وجوده من خلال لذاته المشتبكة بالاخرين، تلك اللذات التي لا تبدو بوصفها مراثي لعالم يعيشه بتلقائية بسيطة، بقدر ماهو استعادة لقوة الرؤيا التي تقوم على الاصغاء والتلمس لاصوات وسطوح يعيشها بعمق رغم ما فيها من النعومة المضللة، والكلام الذي يغترب عن صاحبه..
في هذه الرواية يصنع اصلان شهادة على واقع مصري/ حياتي/ شعبي مفعم بالمرائر، والمصائر المتقاطعة، لكنه مفعم بالحياة ايضا، حيث الجسد يضج بالرغبة، وحيث الرؤية تبحث عن عالم اقل غموضا، وحيث الفقر يأكل الامكنة والساعات ويترك الاخرين يبحثون عن(جحيمات)اقل وحشة، حيث جحيم الخوف، وجحيم التكرار، وحجيم النسيان، وحجيم اللذة المحبطة والجسد الباحث عن اشباعاته العميقة، وحيث الغناء/ الصوت الذي يتحول الى قوة غامرة تحتشد بالغناء المصري الشعبي الدافق بالحياة والاحتجاج..
قد يقول البعض ان موت اصلان جاء سريعا بعد موت صديقه الروائي خيري شلبي وهما من جيل ما سمي بـ(جيل الغضب) الذي عاش صعود ازمة(الثورة) و(خواء اليسار المصري) و(هزيمة حزيران) و(صعود زمن القطط السمان). وقد يقول بعض ان موته السريع جاء مسكونا ايضا بصمت غريب بعد فصول الثورة المصرية التي كان يحلم بها كثيرا، اذ هو الرافض الصاخب لنظام حسني مبارك، والذي رفض مقابلته، وحمل معه الكثير من الاحتجاجات ضد كل مايمثله هذا النظام من سطوح هشة تمتص وعي الناس، وتتركهم مكشوفين لعذابات غريبة، ولعشوائيات مرعبة وعوالم جوانية مسكونة بالرثاء كتلك التي كان حريصا على ابراز تفاصيلها ودقائقها الانسانية والنفسية والحسية في رواياته المعروفة- في حي امبابة، ومالك الحزين وغيرها-
صمت اصلان قد يجد في ان القوى التي صنعت ازمته النفسية عام 2000 بعد صدور رواية حيدر حيدر(وليمة لاعشاب البحر) هي ذات القوى التي بدأت ترسم افق المشهد المصري الجديد، فقسوة القراءات الشائهة التي وضعته في زاوية مرعبة، زاوية الموافقة على التجديف، والتي دفعته الى الاستقالة من مسؤولية ادارة (سلسلة افاق عربية) بكل ما تعنيه هذه الاستقالة من مرارة ورعب واحساس بالخواء واللا جدوى، قد تكرر نفسها ثانية، وقد تقتل ايضا مالكه الحزين وتحاصر لذاته الشخصية التي كانت تعويضا واحتجاجا ضد عالمه المغلق.