إذا أردت أن تفهم ما يجرى فى مصر، فالأدب أقصر طريق لهذا، هو الذى يقدم المفاتيح لأبواب تبدو مغلقة، مثلا نجيب محفوظ وأدبه هو الباب الأصلى للدخول إلى الشخصية المصرية، بكل تناقضاتها، بالخير والشر والطمع والقناعة، والخبث، والطيبة، والشجاعة والجبن. ومثل نجيب محفوظ هناك جيل الستينيات من الروائيين والقصاصين الذين حاولوا فك طلاسم الشخصية، وجيل الستينات كان متنوعا بشكل يقدم بانوراما واسعة لهذه الشخصية، فخيرى شلبى الذى فقدناه قبل شهور كان يجمع بين الريف والمدينة، أخصائيا فى عالم المهمشين والمنسيين، بينما كان عبد الحكيم قاسم قادرا على قراءة الريف أكثر.
أما إبراهيم أصلان المنتمى للريف والعائش فى المدينة فقد احتفظ بالجينات المشتركة، لكنه بدا فى كتابته، مثل جواهرجى، يمتلك عدسات يعرف بها التفاصيل الدقيقة، كان يلتقط تلك التفاصيل ليقدمها بشكل مرعب ببطء ودأب، قصصه القصيرة ورواياته مثل المجوهرات التى تبدو جذابة فى ذاتها لكنها تحمل تفاصيل أخرى مخفية تحتاج إلى عدسة لتجد جماليات فوق جمالياتها، هذا مع أنه كان يكتب عن الطبقة الوسطى والفقراء جدا، الذين يحلمون ويحزنون، وتتحول مطالبهم البسيطة إلى أحلام وأهداف يخوضون من أجلها المعارك اليومية.
مبكرا جدا قرأت «بحيرة المساء» لإبراهيم أصلان، قصص شديدة القصر، تحكى مواقف عابرة عن بشر يلتقون لأول مرة، أو يبيعون أشياء بسيطة، يفكرون داخلهم يبحثون عن أنفسهم، كان ضمن جيل الستينيات الذى عاش الحلم والانكسار.
بعد بحيرة المساء قضى أصلان سنوات قبل أن يصدر «مالك الحزين»، ذلك الطائر الذى يعيش حول مصادر المياه، فإذا جفت أصابه الحزن، كان هو نفسه مالك الحزين الذى يرصد تحولات منطقة الكيت كات، وهو ميدان يلخص مصر فى أجيال فى فترات الانتقال والتحول، تقوم مراحل وتأفل مراحل ويتأثر المصريون من الطبقة الوسطى بالتغيرات والأحداث السياسية والاجتماعية.. بيوت وعمارات ومقاه وبشر يختفون ليظهر غيرهم.. جيل أصلان هو نفسه مالك الحزين الذى عاش الصعود والحلم، ورآه يأفل ويتقلص ويذهب ويجف.
إبراهيم أصلان يلخص فى قصصه القصيرة حياة كاملة، من امرأة تريد إرسال تلغراف، تتعرف على تاريخ أسرة مع الحياة والموت والمرض، ومواقف تحمل السخرية والحزن والعبث، والحوارات عند أصلان نصفها غير مرئى يدور داخل الشخصية، ونصفها خارجه..
ظل يكتب فى مالك الحزين سنوات، وبعدها لا يكتب إلا الضرورى من الجمل شديدة القصر، فى نصوص قصيرة، تختزن التفاصيل الكثيرة، مثل قطرات عطر تعبق المكان كله. بعد مالك الحزين بقى أصلان سنوات شحيح الإنتاج، لكنه خلال السنوات العشرين الأخيرة أصدر «يوسف والرداء»، ثم روايته «عصافير النيل» التى كانت تبدو كأنها استكمال لحزن «مالك الحزين»، ومثلها حكايات فضل الله عثمان.. يقدم بشرا يروحون.. وماضيا يشكل عالمهم الخليط من الصمت والحزن والفرح.. وإبراهيم أصلان دائما هو مالك الحزين حتى الرحيل.