إذا كان هناك وَصْفٌ يَلِيقُ بالأديب الرَّاحل إبراهيم أصلان (3 آذار/مارس 1935ـ 7 كانون الثاني/ يناير 2012 )، فهو شاعر الغرباء (كما وصفه صديقه عبد الحكيم قاسم) ويمكننا أَنْ نضيف و[ المكان ] كما برز عبر سيرته غير المدونة؛ ليصير شاعِرَ الغرباء والمكان في آنٍ واحد. فبقدر ما ضاق ذَرْعاً بالترحال مع والده من شبشير الحصة بالغربية (تبعد عن طنطا في دلتا مصر بحوالى تسعة كيلو مترات)، حيث مسقط الرأس، إلى القاهرة حي الحسين حيث وجد والده فرصة عمل في البريد، ثم انتقل مع الأسرة إلى حي باب الشعرية، ومنه إلى حي الكيت كات الذي التصق به وجدانياً، فتجلَّى بوصفه مكاناً حيّاً، مازجاً بين البعد الجغرافي والتاريخي والنفسي في بوتقة واحدة، في أعماله كافة، قبل أن يتركه قبل قليل ليقطن في المقطم.
لم تحتفظ ذاكرته بذكريات عن القرية (وفي المقابل لم يتناول في إبداعه عالم القرية قط، مع أن معظم شخصيات روايتيه نازحة من القرية في مفارقة ذات مغزى، بأن المدينة الحديثة في تكوينها امتداد للقرية) بل كان كارهاً لها آنفاً، ومقتصداً في زيارته إلى مسقط رأسه مع أبويه حتى ندرت هذه الزيارات تماماً. الشيء الوحيد الذي سجلته ذاكرته من مرحلة الطفولة، هي تلك الصورة التي ظلت تراوغه حتى في كتاباته، وهي صورة لشخصٍ رآه يجلس في إمبابة على النيل يقرأ، وهو ما دفعه إلى القراءة، وبالفعل باح لأستاذ اللغة الإنجليزية (ويبدو الآن واضحاً وجلياً سرّ شخصية قدري الإنجليزي في رواية 'مالك الحزين' وسرّ إجادة البهي لمشهد من شكسبير باللغة الإنجليزية في 'عصافير النيل' بحكم دراسته في مدرسة أجنبية) الذي ارتبط به بعلاقة متينة، فأعانه على الاشتراك في مكتبة عامة، ومنها بدأ عالمه يتشكَّل، في موازاة العالم الآخر النقيض (عالم البيت) حيث الأب والأم حازمان بحكم ريفيتهما، وهو ما أثَّر على شخصية أصلان ذاتها. فتلك الغربة التي جاءوا بها من قريتهم فرضت عليهم جدار العُزْلَةِ مع الجيران، وكذلك أصلان، لذا اتَّخَذ من اللغة وسيلةً لإظهار غربته التي عاناها، بما تمثُّله هذه اللغة من أداة مهمة وسيطة في نقله ما يريده للقارئ، وهو ما كان يدرك صعوبتها لذا استعاض على حد قوله بـ 'كل حواس القُرَّاء السَّمْعية والبصرية وحتى حاسة الشَّم' كما جاء في مقابلته مع المجلة الألمانية 'دويتشة فيله'، حتى يوصِّلَ 'الصُّوَرة' إلى القارئ بأقرب شَكْلِ ممكن لما يدور في خيال الكاتب. وكذلك شخصياته التي تعيش غريبة عن واقعها (لاحظ يوسف وفاطمة في مالك الحزين، ونرجس والبهي في عصافير النيل)، أو تصطنع لنفسها عالماً من خيالها تقاوم به قسوة الحياة (كما فعل الشيخ حسني في مالك الحزين، وما فعله البهي في عصافير النيل، حيث انشغل بكتابة الشكاوى لكل الكبار بمن فيهم رئيس الجمهورية) وكذلك خلق من أستاذ اللغة الإنجليزية موازياً لصورة الأب التي كانت تميل إلى الحزم والصرامة في البيت، حيث المنزل المتواضع المكون من غرفتين، يعيش فيه الأبوان إلى جانب ست أخوات (لاحظ الاقتصاد في لغته وأعماله، هناك مجموعة بعنوان حجرتان وصالة).
ويبدو أن علاقته بأبيه غير الظاهرة على المستوى العام وإن كان قد سرَّبها إلى نصوصه (كما في علاقة يوسف بأبيه) وما يسودها من توتر في كثير من الأحيان، قاده إلى الفشل في دراسته، وهو ما كان بمثابة التحدي والتمرد، لآمال الأسرة المنعقدة عليه، فألتحق بالعمل في وظيفة أسهمت بل كانت مكوناً أساسياً ـ إلى جانب انعزاليته ـ في اقتصاد لغته وميله إلى الاختزال والتجريد، ومن جانب ثانٍ رافداً مهماً في إنتاجه الإبداعي، حيث عمل بعد أن ترك التعليم بـــ 'هيئة المواصلات والاتصالات السلكية' ومنها أخذ عالم روايته أو للدقة حلقته القصصية 'وردية ليل'. بل إن الفشل على المستوى الشخصي تحوَّل إلى فشل على المستوى الاستاطيقي / الجمالي، ليظهر قسوة الحياة على هؤلاء المهمشين، الذين يعيشون في الحياة دون أن يعرفوا لماذا يعيشون أصلاً (لاحظ فشل يوسف المتعدِّد في مالك الحزين؛ ففشل في أن يكتب رواية، وفشل في مشاركة أصدقائه المظاهرة، وفشل في علاقاته الجنسية مع فاطمة، وبالمثل شخصية عبد الرحيم في عصافير النيل، تميَّزت بالفشل في كل شيء بما فيه صيد السمك، باستثناء فحولته الجنسية القوية، في مفارقة باذخة لثنائية الحياة / الموت، فالجنس أصل الحياة، ومع ذلك في الحياة هو ميت).
لم تكن الانعزالية، والاقتصاد سمة لإبداعه فقط، بل تعدّته إلى شخصه، فأصلان معروف عنه الميل إلى البساطة، والابتعاد عن معارك المثقفين، يقف في الظل كطائره ' مالك الحزين ' صامتاً متأملاً ينتظر موته (المعروف عن طائر مالك الحزين في الواقع إذا نَقُصُ الماء عنه أَحْجَمَ عن الشُّرْبِ حتى مات من الظمأ)، فجاءت إليه أول طعنة في معركة رواية 'وليمة لأعشاب البحر' لحيدر حيدر عام 2000، رغم أنه لم يكن هو المقصود، وإنما وزير الثقافة السابق 'فاروق حسني' لكنه صادف أنه كان رئيساً للسلسلة 'آفاق عربية' آنذاك، فنجا الوزير من المصيدة، واستقال أصلان بكبرياء. هذا هو الاستثناء الوحيد لدخوله في سِجَالٍ مع غيره، وإن كان في حقيقة الأمر دُفِعَ إليه دَفْعاً، والأعجب ظَلَّ مثل طائره صامتاً عازفاً عن الحديث.
ومثلما تميَّزت حياته بالاقتصاد والعزوف، تميز أيضاً نتاجه الإبداعي بالقِلَّةِ، مقارنة بأصدقاء جيله الذين خرجوا من عباءة غاليري 68، حتى أنهم أطلقوا عليه 'الكاتب بالمحو' أي أنه يكتب ثم يمحو ثم يعيد كتابة عمله الأدبي أكثر من مرة ليقدِّمه لقرائه مكتملاً . فمن أعماله الروائية رواية 'مالك الحزين' 1982 والتي تحولت إلى عمل سينمائي شهير بطولة (محمود عبد العزيز، ونجاح الموجي) من إخراج داوود عبد السيد بعنوان 'الكيت كات' إنتاج عام 1991 ورواية 'عصافير النيل' 1999 التي تحوَّلت إلى فيلم من إخراج مجدي أحمد علي إنتاج عام 2010 وبطولة (فتحي عبد الوهاب وعبير صبري ودلال عبد العزيز)، ومن مجموعاته القصصية 'بحيرة المساء' عام 1971 و'يوسف والرداء'1987 و 'خلوة الغلبان'عام 2003 و'حكايات من فضل الله عثمان' عام 2005 و'حجرتان وصالة' عام 2009 ـ إضافة إلى حلقة القصة القصيرة 'وردية ليل' عام 1985، في آخر سني عمره اهتم بالمقال القصصي، وفي كل هذا الإبداع لم يتخلَ عن تلك الوصيَّة التي صدَّر بها رواية مالك الحزين 'لبول فاليري: ياناثانيل أوصيك بالدقة لا بالوضوح ' كانت عيناه كما يحلو أن يقول بمثابة الكاميرا، التي تُسَجِّلُ الهامش والنثار الذي يتحوَّل بلغة أصلان إلى مُدْهِشٍ وَعَجِيبٍ، كما يُثْري عمله بالتفاصيل الدقيقة المهمة، التي تجعل منه وثيقة حيَّة على الواقع، ففي مالك الحزين اعنتاء واضح بالمكان وتاريخه، وتطوّره، دون أن يُشْعِرَكَ السَّرْدَ بأنك إزاء عملٍ مُثْقَلٌ بالتاريح والأحداث، بل يجذبك بدقة تصوير شخوصه، وتتبعهم عبر كاميرته السينمائية في أحلامهم وإحباطاتهم، أفراحهم وأتراحهم، وفي إدهاشاتهم، ونزواتهم. عالم ثري، مُشْبَع بالروح الشعبية، التي تؤمن بقدرها ومنساقة إليه، فلا يمكنك أن تجد مشهداً في الرواية العربية قاطبة كهذا الذي فعله حسين عبد الشافي لاعب الكرة وصديق الشيخ حسني عندما مات أبوه 'فلم يكن يملك شيئاً ولا الستر، وأنه احتار ماذا يفعل، لم يكن يريد لأن يفضح نفسه وهو الكابتن المشهور على مستوى العالم، ويستدين من أجل دفن والده، لذلك أخرج غياراً نظيفاً ونزل بوالده البحر، وخلع ثيابه وغطسَّه في الماء الطاهر ثلاثة مراتٍ، تلا الشهادتين، ثم ألبسه الغيار النظيف، وصعد به إلى الشاطئ، وأخذه أمامه على الدراجة، وسنده بين يديه كأنه لم يمت، وذهب به من هناك حتى سيدي عمر ودفنه هناك بمعرفة عبد الخالق الحانوتي' أية بساطة هذه؟ وأية واقعية سوداء هذه؟ في الوقت ذاته، كما يؤلمك في سرده عن المهمشين، وعن أبسط أحلامهم كما حلمت نرجس في 'عصافير النيل'، فمن شدت خوفها من الظلام، تطلب من زوجها في طفولة وصدق ملموس بأن' يستأجر لمبة لينير لها تربتها بعد وفاتها، ولو لأسبوع واحد'، فيجيبها بواقعية بأن هذا 'سيكون مكلفا جدا..' الإجابة هنا تنم عن إيمان حقيقي يملأ قلب هذه الشخصيات التي قهرتها الحياة، ومن شدة القهر استسلمت للمصير. أو التجاوز عن الأخطاء الصغيرة كما حدث مع البهي وعبد الرحيم في المسجد، حيث سقطت قطعة معدنية من أحد المصلين، فإذا بجارهما في الصلاة يأخذها في جيبه، ويضحكان معاً بعفوية، أو السخرية المريرة من واقع فادح قيمُّه تتمزق، فسعى الأشخاص لمقاومته بالفعل المضاد كما فعل الشيخ حسني، فراح ينتصر على لقب الشيخ الذي يكرهه، بالانغماس في الحياة، والسعي للجنس والحشيش والسهر المتواصل، كل هذا بمثابة السخرية والتحدي لهذا الواقع الذي منحه لقباً لا يحبه، أو كإصرار البهي على كتابة الشكاوى لأحقيته في المد لسن الخامسة والستين، بعد أن وصل إلى سن المعاش، فكتابته الشكاوي للكبار بمن فيهم رئيس الجمهورية، نوع من الرفض وعدم الإذعان لمرارة الواقع، مثيله الشيخ حسني الذي قاد الماكينة وهو أعمى . هذا هو عالم أصلان الذي ينسجه، بكل إحباطاته وآماله، سخريته، وآلامه، واقعيته وعجائبيته، جماله وقبحه .....إلخ.
أول أمس غيبه الموت عن عمر يناهز 77 عاماً، حتى لا يرى تلك الخيانات التي يفعلها المثقفون مع دوران الصباحات والمساءات، مات وحيداً منعزلاً عنهم، فامتثل لعقد الشراكة بينه وبين السلطة الذي وضعه معاوية منذ زمن بعيد 'لأبي بكر بن عثمان بن الحارث الذي كان يكثر من الجلوس عنده دون أن يلي عملا أو يطلب نائلا إلى أن ضاق به صدر الخليفة، فقال له أمام بقية مثقفي وكتاب عصره: يا ابن أخي هي الدنيا فإما أن ترضع معنا أو ترتدع عنا' فآثر أن يرتدع لا أن يلتقم، رحمك الله.
ناقد أدبي مصري وباحث جامعي، كلية الإلهيات ـ جامعة ريزه ـ تركيا