التقينا لأول مرة فى بداية الستينيات، نزلنا سويا فى مقر مجلة «المجلة» التى يرأس تحريرها يحيى حقى، سرنا فى شارع عبدالخالق ثروت نحو ميدان التحرير. شىء ما فى شخصيته جعلته قريبا منى كما هو قريب من الآخرين. إنه يبعث على الطمأنينة. مألوف وفريد فى آن.. فى عينيه تتجلى تلك النظرة الهادئة، الوادعة، وخلف شاربه الذى يغطى نصف قمة تلمح شبح ابتسامة لا تفارقه، ليست بسبب رضاه عن الواقع، ولكن ترجع إلى تفهمه لهذا الواقع.. ومع الأيام، تدرك، أنه يملك ما هو أهم من نظرية ما، أو معتقد معين.. يملك «بوصلة» مرهفة، تجعله دائما فى الاتجاه الصحيح، إلى جانب بسطاء الناس، ومع العدل، مؤمنا بالمستقبل.. كنا فى الظهيرة، وأدهشنى حين عرفت أنه لم ينم طوال الليل، وأنه لا يعانى من الأرق. كل ما فى الأمر أنه لا يقسم اليوم إلى ليل ونهار، ولكن يرى فيه أربعا وعشرين ساعة، تستحق أن تعاش.
مرقت السنوات، وتوالت قصص إبراهيم أصلان. ومنذ البداية، تميزت بخصوصيتها المتفردة، تحكى عن وقائع صغيرة، تبدو للقارئ، بأسلوبها العذب، المختزل، المكثف، كما لو أنه يراها لأول مرة. إنها لوحات، يعرف مبدعها كيف يبتعد عن صخب الألوان، ومتى يرفع ريشته، وبالتالى تأتى لوحاته متمتعة بأعماق تمور بالأمواج تحت سطحها الهادئ.
تنوعت مصادر ثقافة أصلان، لكن أهم ينابيعها جاءت من اندماجه ورصده للحياة، وبالتحديد من خلال مهنته فى مصلحة البريد، حين كان موظفا يتسلم، من وراء شباك، وسائل التلغراف، يكتبها أناس يعرفون تماما أن كل كلمة تكتب سيدفعون ثمنها مالا، ولأن المال عزيز فى مصر، فيصبح لزاما على الراسل مراعاة الاختصار، فالتزيّد يعنى هدرا للنقود.. حكى لى مرة ــ بل عدة مرات ــ عن فتاة غلبانة، نحيلة مع والدتها ذات الوجه المستسلم، المترع بالأسى، ومعهما عجوز من بلاد النفط، فى عجلة من أمره، وأخذت الفتاة تكتب تلغرافا، ثم تمزقه لتكتب آخر، إلى أن استقرت على ثلاث كلمات «لا تحضر.. تزوجت».. وخرجت الفتاة مع زوجها العجوز ووالدتها.. لا أعرف إذا كان أصلان كتب هذه القصة أم لا، لكنه، بتواضعه، وصدقه، أكد أنه، بهذه البرقية وغيرها، تعلَّم فن الحذف والاختصار، وتعرف على أحوال الناس.
الحكاء الأثير، إبراهيم أصلان، هو أحد ملوك الإصغاء، يرى بأذنيه ظلال ما يسمعه.. حكيت له مرة ــ بل عدة مرات ــ عن فيلم هندى «قصير جدا جدا»، لا يتجاوز عدة دقائق، وفيما يبدو أن الفيلم المكثف، لامس أوتار قلب أصلان وشرفنى بكتابته عن الفيلم فى «خلوة الغلبان»، وأسعدنى أن تكون سطوره المفعمة بالعواطف، وراء مظهرها المحايد، أجمل من الفيلم ذاته.
إبراهيم أصلان، الوحيد فى حياتنا الأدبية ربما، الذى لم يعادِ أحدا، فاختلافاته مع الآخرين، لا يسمح لها أن تتحول إلى خصومات.. لذا، فإنه أصبح، بالنسبة لكل من اقترب منه، إنسانيا أو أدبيا، طاقة من النور والدفء، يبدد مساحة لا يستهان بها من الظلام، ويجعل من برد الأيام، زمنا محتملا.