ثمانية عشر يوما قضتها مصر والعالم كله ينظر إليها من أجل أن يرى ما ستسفر عنه هذه الثورة الرائدة في المنطقة العربية، وعلى الرغم من تطور الأحداث علوا وهبوطا فقد وصلت الثورة الجماهيرية إلى نتيجتها المنطقية برحيل الرئيس حسني مبارك استجابة لرغبة الجماهير، وعلى الرغم من ذلك يبقى سؤال مهم وهو هل رحيل مبارك أو النظام الذي جثم على صدور المصريين منذ ثورة يوليو عام ألف وتسعمئة واثنين وخمسين- وكانت له تداعيات في مختلف أنحاء العالم العربي - كفيل بتحقيق مصر لنظامها الديموقراطي؟ بالطبع ليست هناك إجابة مؤكدة لأن الثورة لم تكن تخضع لقيادة شعبية واضحة ولذلك كانت نتيجتها الحتمية أن السلطة سلمت لمجلس عسكري وعد بأن يسلمها للمدنيين بعد فترة قليلة، وهذا شأن العسكريين في كل زمان ومكان قبل أن يتوسعوا ويشكلوا نظامهم الجديد، ولا نريد بذلك أن ندخل في جدل حول ما إذا كانت الثورة المصرية قد وصلت إلى نتيجتها المحتومة أم لا، ذلك أن الذي نعرفة هو أن الجماهير فعلت أقصى ما تستطيعه وبقي عليها أن تتهيأ لمرحلة جديدة قد لا تكون واضحة المعالم لديها، وهنا يخالجنا سؤال مهم ؟ الإجابة نجدها في دراسة قيمة كتبها البروفسور مايكل ماندلبوم أستاذ السياسات الخارجية في جامعة جونز هوبكنز في واشنطن وهو مؤلف كتاب السمعة الطيبة للديموقراطية 'صعود ومخاطر أنظمة الحكم الشعبية في العالم'.
ذهب مايكل ماندلبوم في دراسته إلى أن سقوط الرئيس حسني مبارك يمثل مرحلة مهمة من أجل تحول مصر إلى نظام آخر من الحكم، ولكن هل يعني ما ذهب إليه الانتقال من النظام الدكتاتوري والاستبدادي إلى نظام ديموقراطي؟ يقول مايكل ماندلبوم إنه غير متأكد من ذلك، مستندا في رأيه إلى حركة النظم الديموقراطية وتطورها في مختلف أنحاء العالم. وهو مع ذلك يركز على المزايا الخاصة التي تتمتع بها مصر، والعقبات التي قد تقف في وجهها من أجل أن تقيم نظاما ديموقراطيا يستجيب لتطلعات شعبها. ونرى مايكل يبدأ بمحاولة للتعريف بالمقصود بالديموقراطية أولا، والتي يرى أنها خليط من نظامين متباينين من التقاليد، أولهما الاعتراف بسلطة وسيادة الشعب التي تظهر بشكل واضح من خلال النظام الانتخابي، والثاني سيادة مفهوم الحرية في داخل النظامين الاجتماعي والسياسي، ويذهب مايكل إلى أن الحرية تأتي على ثلاثة أنواع، أولا هناك الحرية السياسية التي تشتمل على حقوق أفراد المجتمع في التعبير الحر والتجمع من أجل تحقيق أغراضهم الاجتماعية، وثانيا كفالة الحريات الدينية التي تبيح لأفراد الجمهور أن يمارسوا طقوس عقائدهم دون حجر عليهم، وأما المظهر الثالث للديموقراطية فهو سيادة الحرية الاقتصادية في داخل المجتمع، وهي التي تبيح للأفراد الحرية في التملك بحسب امكاناتهم دون أن يخضعوا لمنافسة غير عادلة من أصحاب النفوذ الذين يريدون السيطرة على كل شيء وحرمان الآخرين من امتلاك القليل.
ويرى مايكل ماندلبوم أن الانتخابات التي تجرى في معظم دول العالم لا تمثل وجها صادقا للديموقراطية، ويعتقد أن الديموقراطية في مصر تواجه تحديا حقيقيا من الجهات التي أحكمت تنظيم نفسها في جو غير ديموقراطي، ويذهب مايكل ماندلبوم إلى أن التنظيمات الدينية هي التحدي الحقيقي الذي تواجهه مصر، وتلك وجهة نظر سائدة عند كثير من الدول الغربية التي لا تطمح فقط إلى دعم التوجهات السياسية في بلد كمصر بل تمتلك أيضا أجندة سياسية خاصة بها في المنطقة. ويرى ماندلبوم أن قدرة التنظيمات الدينية على الحركة في بلد كمصر هي التي قد تفرض على البلاد نظما سلطوية، وكان ذلك هو شأن روسيا بعد ثورة البلاشفة في عام 1917 وهي التي أخضعت البلاد لحكم تسلطي دكتاتوري استمر حتى سقوط دولة الاتحاد السوفييتي التي استمرت نحو خمسة وسبعين عاما. ولكنه مع ذلك يقول حتى لو استطاعت مصر أن تتجنب حكما تسلطيا من مجموعات دينية فإنها ستواجه تحديات كبيرة في إقامة نظام ديموقراطي، لأنها لو نجحت في إجراء انتخابات حرة عامة فقد تجد من الصعوبة إقامة نظام يكفل الحريات كما هو الشأن في النظم الديموقراطية الراسخة، وذلك بسبب صعوبة إقامة نظام قضائي حر ومستقل لا يأتمر بأوامر السلطة.
والسؤال المهم في نظره هو كيف يمكن أن تضمن مصر نظاما ديموقراطيا حرا؟ والإجابة عنده هي أن الأمر لا يقتصر فقط على إجراء انتخابات يشارك فيها الجمي، بل يجب أن تتأسس الديموقراطية على نظام اقتصادي حر أيضا، وذلك ما أسست عليه كثير من الدول ديموقراطيتها لأن وجود اقتصاد السوق العادل يضمن مصالح جميع الناس ويجعل سائر أفراد المجتمع يتعاونون من أجل تحقيق مصالحهم المشتركة، ويرى ماندلبوم أن أي تفكير في إقامة نظام ديموقراطي يجب أن يسبقه عمل من أجل إقامة اقتصاد السوق الحر، وذلك ما استوعبته كثير من الدول في أمريكا اللاتينية وآسيا بحسب وجهة نظره. خلال القرن العشرين.
ويرى ماندلبوم أن مصر تواجه تحديا كبيرا من أجل إقامة اقتصاد السوق، ذلك أن النجاحات التي حققها الكثيرون في المجال الاقتصادي لم تتحقق بسبب الممارسة الاقتصادية الحرة بل بسبب استغلال النفوذ وصلات كثير من الاقتصاديين برجال السلطة، كما أن كثيرا من النجاحات التي تحققت لم يستفد منها الشعب لأن كثيرا من الأموال التي كسبها مستغلو النفوذ خرجت من الدورة الاقتصادية بترحيلها إلى المصارف الخارجية حيث دعمت اقتصادات دول أجنبية وحرمت الشعب المصري من الاستفادة منها.
ويرى أن التحول إلى الديموقراطية في مصر يواجه تحديا آخر بكون مصر واحدة من الدول العربية، وهي تختلف بذلك عن دول المعسكر الشرقي السابق، ذلك أنه حين سقطت الدكتاتوريات في أوروبا الشرقية كان هناك في أوربا الغربية ما تنظر إليه، ولكن مصر لا تجد في العالم العربي أنموذجا ديموقراطيا يمكن أن تتطلع إليه. ولكنه مع ذلك يرى أن المجتمع المصري يتمتع بمزايا لا تتمتع بها كثير من البلاد العربية، ذلك أن المجتمع المصري فيه درجة عالية من الانسجام وهو غير مقسم من الناحية العقدية والمذهبية مثل مجتمعات أخرى كالعراق ولبنان وسورية وغيرها، ذلك أن الانقسامات في الدول العربية الأخرى ليس لديها أرضية للتعاون المشترك بينما لا تظهر هذه الانقسامات في مصر التي لا يزيد عدد الأقباط فيها عن عشرة في المئة، و نادرا ما تكون هناك مشاكل دينية في داخل مصر، ويرى مايكل ماندلبوم أن مشاركة الملايين في ثورة سلمية كما حدث في مصر هو في الحقيقة رصيد كبير يؤكد أن مصر قادرة على أن تحقق أشياء كثيرة في مجتمعها إذا ما توافرت لها الظروف المناسبة. وهو يرى أن الديموقراطية ليست فقط مؤسسات بل تحتاج أيضا إلى ديموقراطيين يعملون من أجل تحقيق مبادئها حتى وإن واجهتهم ظروف صعبة تقعد بهم عن تحقيق الغرض المنشود.
ولا شك أن الملايين التي خرجت في ميدان التحرير أكدت أنها تريد نظاما ديموقراطيا، ولكن كما قال مايكل ماندلبوم فإن المطلوب أولا هو تحقيق النظام الاقتصادي الذي يتيح للكثيرين الحركة الحرة، كما يوفر للكثيرين فرصة التحرك اقتصاديا في داخل المجتمع بسلاسة، واستناد جميع هؤلاء على نظام للضمان الاجتماعي يوفر للفقراء الحد الأدنى من العيش الكريم، لكن ذلك لا يجعلنا نتجاهل حقيقة أن الشعب المصري قفز من عشرين مليونا خلال حكم الرئيس عبد الناصر إلى ما فوق الثمانين مليونا في عهد مبارك، وذلك ما يوجد عقبة حقيقية في تأسيس القاعدة الاقتصادية التي يقوم عليها النظام الديموقراطي.
كاتب من السودان