تحية طيبة وبعد
مر علينا حين من الدهر كنا نلتقي فيه كثيرا في ستينيات القرن الماضي، حينما كنا في شرخ الشباب. وكنت أنت مشغولا وقتها بكتابك العلامة (الحركة السياسية في مصر)، ولا أذكر الآن كيف ألقت بك السبل في طريقنا، وكنا مجموعة من الشباب المهتم بالشأن الثقافي والسياسي العام، نحاول الكتابة في مجالات متعددة، ونلتقي بشكل دوري في الجمعية المصرية للأخصائيين الاجتماعيين. ولكني أذكر أنني كنت معجبا بجديتك ورصانتك ومنهجيتك، وأهم من هذا كله بنزاهتك الفكرية والأخلاقية، أو ما يسمونه بالانجليزية integrity وهي أشمل من هذه الصفات جميعا، لأن فيها أيضا الشهامة والترفع عن الصغار والصدق مع النفس وغير ذلك كثير. فقد كانت مثاليتي، والتي لازلت احتفظ بقدر منها حتى اليوم، تجذبني إلى من يتسق فكرة مع سلوكه وعمله. وكنت وقتها أشاركك الكثير من رؤاك وأفكارك. ولكن مرت مياه كثيرة تحت الجسر، وتفرقت بنا السبل والأفكار منذ ذلك الزمن البعيد، الذي أذكرك به، لا لأذكرك بنفسي، ضعف الطالب والمطلوب، ولكن لأذكرك بهذا الشاب الذي كنته، أو كناه معا، الشاب المترع بحب مصر والراغب في أن يبذل الغالي والرخيص من أجلها. ولأناشدك أن تبتعث أطياف هذا الشاب فيك من جديد، وأنت تمارس المهمة التي ألقيت على عاتقك. بمناسبة ثورة الشباب الرائعة التي ذكرني كثير من شبابها الذين استمعت لهم بطارق البشري الشاب الذي عرفته.
فقد أهدت لك هذه الثورة مهمة تاريخية كبيرة وجليلة، وأنت من أقدر من عرفتهم وعيا بتاريخ مصر، وبأهمية ذاكرتها التاريخية معا. وأرجو أن تضع هذا الشاب الذي عرفته قبل ما يقرب من نصف قرن، وأن تضع معه نصب عينيك وأن تقوم بتلك المهمة شباب مصر المعاصر الذي دفع، بمسلميه وأقباطه، ضريبة دم فادحة في هذه الثورة الرائعة من أجل أن يرد لمصر روحها وألقها وكرامتها. إن ما قامت به هذه الثورة العظيمة يملأ كل مصري بالفخر والاعتزاز. فقد قرأت في أكثر من مصدر غربي إشادات كبيرة بعظمتها وتميزها، بل وتفوقها في التحضر والرقي على كثير من الثورات التي تحولت إلى أيقونات في العقل الغربي من الثورة الفرنسية وحتى الثورة الروسية. فهي ثورة لم يشهد التاريخ مثلها من حيث اتساعها وعدد المشاركين فيها. وقد أجمع أكثر من مراقب على أن من شارك في يوم واحد من أيام ثورة 25 يناير، يعادل من حيث العدد مجموع من شاركوا في كل الثورات الملونة التي شهدتها أوروبا منذ سقوط حائط برلين وحتى «ثورات» جورجيا وأكرانيا. كما أنها تتميز عن كل تلك الثورات الملونة ليس فقط بأن الغرب لم يحركها ولم يؤيدها ولم يدفع لها، بل أيضا باستقلالها الفكري والوطني معا، وفي أنها انبثقت وتصاعدت ونمت بالرغم من الغرب، ومن كل أعداء مصر التاريخيين والمحدثين معا.
واتساع المشاركة في هذه الثورة وتحضرها، ومنطقها الرائع في وضع العقل الجمعي على الخريطة بدلا من العقل الفردي والحكم الفردي، هو الذي يدفعني ويدفع الكثيرين إلى اليقين بأن ثورة 25 يناير قد أسست لشرعية جديدة، أنهت بها الشرعية التي قام عليها هذا الدستور المهلهل الغريب الذي أناطوا بك مهمة تعديله. ناهيك عن ان التعديلات التي اجريت عليه تباعا جعلته مليئا بالرقع الشائهة، واحالته في نظر الكثيرين إلى فضيحة دستورية مخزية. وهي تعديلات أرجو أن تنطلق من تلك الروح الجمعية وتستهتدي بها. فقد لاحظ كل ذي عقل ثاقب أن هذه الثورة التي قامت ضد الحكم الفردي المستبد ليست لها قيادة فردية، بل تطرح الجماعة كلها في مواجهة الفرد، والعقل الجمعي الحريص على المجتمع، في مواجهة العقل الفردي الغارق في مصالح ذاته الضيقة. والواقع أن إمكانية أن تتولى اللجنة التي ترأسها تعديل ما تراه فيه من مواد، فضلا عن المواد سيئة السمعة التي ذكرت بالتحديد مثل المواد: 76، 77، 88، 93، 179، 189 وغيرها، يتيح لك فرصة تاريخية في تلبية بعض مطالب تلك الشرعية الجديدة، وتلك الرؤية الجمعية الملهمة، حتى يحين أوان كتابة دستور جديد لها يحقق كل طموحاتها، ويرسم صورة مصر التي تصبو إليها تلك الثورة الرائعة، ونصبو إليها جميعا.
ولا أظن أنني في حاجة وأنا أخاطب مستشارا له باع طويل في القضاء، إلى الحديث عن طرح القاضي لأفكاره وقناعاته وأهوائه الشخصية جانبا وهو يحكم، فقد كتبت أنت أكثر من مرة عن ضرورة مقاومة القضاء للاحتواء كما يقول عنوان أحد كتبك. كما أنني قرأت تصريحات لك عن أنك حريص على أن تضمن تعديلات الدستور انتخابات حرة ونزيهة. لكنني سبق وسمعتك تتحدث في أكثر من مكان عن أنك انتقلت من صواب إلى صواب آخر، يحتل فيه البعد العقيدي مكانا محوريا. وربما لهذا السبب ذاته أكتب لك. راجيا منك أن تنحي هذا البعد العقيدي جانبا وأنت تقوم بتلك المهمة الجليلة؛ مهمة تعديل الدستور. وأن تقوم بها كقانوني وطني مصري فحسب. بل إن يقينك الفكري نفسه هو الذي يجعلك أقدر من غيرك على الاضطلاع بالمهمة التي أكتب لك من أجلها، دون أن يشك أحد في نواياك. وهي أن تكون أول المواد التي تغيرها هي المادة الثانية من الدستور، والتي تعرف أنت أكثر مما يعرف غيرك، أنها لم تكن موجودة في أيّ من دساتير مصر السابقة: لا في دستور 1923 ولا في دستور 1936 ولا في دستور 1956، وإنما وضعها السادات في دستوره رشوة للوهابية والرجعية العربية التي احتاج إلى معونتها للقضاء على العقل الوطني المصري، وعلى اليسار والناصريين، والتي كان هو نفسه أول ضحاياها.
وليس هذا مطلبا فرديا مني، ولكنه مطلب نابع من معاناة مصر الطويلة من الاحتقان الطائفي في ظل عوار هذه المادة غير الدستورية، وفي ظل النظام الفاسد الذي ضمنها للدستور. كما أن هناك بيانا أطلقته مجموعة من شباب الكتاب ينادي بضرورة تعديل المادة الثانية من الدستور المصري التي تنص على أن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع». ويقترح الموقعون على البيان استلهام الصياغة القديمة لدستور 1923 المصري الذي تنص المادة المماثلة لها فيه على أن «المصريين لدى القانون سواء. وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين»، كما تنص المادة الثانية عشرة فيه على أن «حرية الاعتقاد مطلقة». وقد وقع العشرات بل المئات من الكتاب والمثقفين على هذا البيان حتى الآن. ولا أظن أنك في حاجة إلى مثل هذا البيان أو غيره، فأنت خير من يعرف أنه ليس من وظيفة الدستور أن يميز فئة في الأمة على أخرى حتى ولو كانت لها الغلبة، ولا أن يقدم رشاواه لتيار سياسي دون آخر، ناهيك عن رشوة جهات أجنبية وتياراتها الوهابية. فهذه المادة لا تشكل تحيزا دستوريا ضد الأقباط فحسب، وتمارس بوجودها في الدستور عنفا رمزيا متواصلا ضدهم، ولكن ضد كل المصريين العلمانيين أقباطا كانوا أم مسلمين. بل وضد أمثال طارق البشري الشاب قبل أن يبدل صوابا بصواب.
وإذا كان ثمة إجماع في كل ما قرأته على تحديد الحد الأقصى للرئاسة بمدتين، كما هو الحال في كل بلدان العالم المتحضر، فإنه ليس ثمة إجماع على طول المدة، والتي أرجو ألا تزيد بأي حال من الأحوال على خمس سنوات، ويستحسن أن تكون أربعة كما هو الحال في النظام الأمريكي. أما السنوات الست المصرية فليس هناك من يأخذ بها، وحتى فرنسا التي كانت تأخذ بها في الماضي ألغتها لصالح السنوات الخمس.
ولك خالص تحياتي وتقديري