بعد التغييرات الجذرية في كل من تونس ومصر، سارعت الانظمة الرسمية في بعض الدول العربية إلى اتخاذ تدابير في اعتقادها أنها قادرة على منع انتقال (فيروس التغيير) إليها، فيؤكد هذا الرئيس بأنه لا يريد الترشح لولاية أخرى، ولا يريد توريث ابنه، كذلك فإن أحد رؤساء الوزارات العربية أكد بالمطلق أنه لن يترشح لولاية جديدة، وقام بتخفيض راتبه، وربما في المستقبل القريب سنشهد خطوات من هذا النوع في هذه الدولة العربية أو تلك. كما أن الكثير من الدول العربية ومنذ طرح العولمة، بادرت إلى اتخاذ بعض القرارات التي في اعتقادها، هي تعبير جوهري عن التطبيق الديمقراطي فيها مثل: إعطاء حق الانتخاب للمرأة، وانتخاب نصف عدد أعضاء مجلس النواب، وهكذا دواليك.
من ناحية ثانية، فإنه وبعد أحداث مصر وتونس، والتصريحات الأمريكية حول الثورتين بدت الإدارة الأمريكية خاصة، والدول الغربية عامةً، وكأنها معنية بالتطبيق الديمقراطي في الدول العربية، وحريصة على هذا كحرص الشعوب العربية.... لكن من زاوية ثانية: فإن هذه وفور نجاح التغييرات، بادرت إلى دعوة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر (الذي يتسلم مسؤولية الحكم الانتقالي) لاحترام اتفاقية كامب ديفيد، في الوقت الذي تدرك فيه هذه الدول أن من قام بتوقيع هذه الاتفاقية عن الجانب المصري هو أبعد ما يكون عن الديمقراطية، وهو رمز للدكتاتورية، ونقصد الرئيس السادات، ولو كانت هذه الدول حريصة بالفعل على التطبيق الديمقراطي في الوطن العربي، لأخضعت مصير هذه الاتفاقية للشعب المصري، ليقرر فيها ما يشاء، خاصة أن المصريين في غالبيتهم وقفوا ضد توقيع هذه الاتفاقية، بالتالي كيف تستقيم الدعوة إلى نشر الديمقراطية، في الوقت نفسه تقييد وربط النظام المصري القادم، باحترام هذه الاتفاقية؟
ولكن عن أية ديمقراطية تتحدث الولايات المتحدة؟ وهي الدولة التي تحتل بلداً عربياً وتُحالف استراتيجياً، إسرائيل، وتتبنى وجهات نظرها بالكامل؟ عن أية ديمقراطية تتحدث الإدارة الأمريكية وهي تقوم بالتهديد لدول عربية أخرى؟ أية ديمقراطية هذه، التي لا تنسجم مع تاريخ حافل بالوقوف إلى جانب الأنظمة العنصرية والدكتاتوريات، مثل نظام بينوشيت في تشيلي قبل خلعه، وإعطاء المشروعية لقصف يلتسين للبرلمان الروسي، الولايات المتحدة تريد إنتاج ديمقراطية في العالم العربي تخدم مصالحها وعموم المصالح الغربية والإسرائيلية، وهذا لا نقوله نحن فقط، وإنما كثيرون أيضاً من الباحثين، من بينهم ديفيد سموك مدير معهد الولايات المتحدة للسلام، الذي كتب في مقالة له في 'نيوزويك' أيلول/سبتمبر 2004 قائلاً: 'العرب والمسلمون يعتبرون الصراع مع إسرائيل هو حجر الزاوية، وهم يراقبون مواقفنا، ما إذا كنا نقف إلى جانب الليبرالية والعدالة أم لا؟ وهو ما يتوجب علينا فعله حتى يثقوا بحقيقة ما نطرح من أهداف وبما نمارسه من سياسات'. الولايات المتحدة تريد نمطاً من الديمقراطية في العالم العربي يخدم مصالحها وحلفاءها، وهو أيضاً أشبه باسنفجة قابلة لامتصاص النقمة الجماهيرية تجاه سياساتها من جهة، وتجاه الإخفاقات الكبيرة وصولاً إلى حد العجز في السياسات العربية الحاكمة وبرامجها لتطوير البنى الداخلية.
ليس المقصود من كل ما سبق الإيحاء بالوقوف ضد الدعوة إلى تحقيق الديمقراطية في الوطن العربي، ذلك أن اللبس في هذا الموضوع يقع فيه الكثيرون، فديمقراطية الإملاء من الخارج هي غير ديمقراطية الاستجابة للعصر ولحقوق الإنسان، الديمقراطية المطبقة من خلال قوانين تصدرها السلطات الحاكمة من أجل ذر الرماد في العيون باعتبارها (هبة) منها للشعوب، وهي قادرة على تغييرها وممارسة نقيضها عندما تريد، هذه غير الديمقراطية النابعة من صميم الشعوب الملازمة لمكونات الشعب الأساسية، وعياً وسلوكاً فردياً ومجتمعياً، وسمة عامة (ظاهرة) تتبلور منهجاً في البنية المجتمعية الداخلية، وكوسيلة حقيقية تحقق الفصل بين سلطات الدولة الثلاث، وتحدد شكل العلاقة بين السلطة والشعب، باعتباره العامل الثاني، وهو من يفرز المسألة الأولى من بين صفوفه، مع امتلاك القدرة على المحاسبة والتغيير في كل صفوف السلطة، من دون ان يكون أحد فوق الدستور، الذي يصيغ الشعب مواده من ألفه إلى يائه، باعتباره المصدر الحقيقي للسلطات. مثل هذه الديمقراطية تطمح الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج في الوصول إليها.
الاقتراب الرسمي العربي من الموضوع الديمقراطي، هو نتيجة للتفاعلات الجماهيرية الكبيرة حول التطبيق الديمقراطي، ومن خلال شعور المواطن العربي بأهمية الديمقراطية كمنهج حياتي يعيد له حقوقه المحروم من غالبيتها تاريخياً، خاصة عندما يقارن بين نماذج مختلفة، يراها من خلال الفضائيات، أو يقرأها في الصحف أو الكتب، وبين واقعه المؤلم في الاستحقاقات الديمقراطية. الثورة المعرفية مضموناً ووسائل، لعبت دورها أيضاً في انتشار ثقافة الديمقراطية في الأوساط الجماهيرية العربية. على الرغم من الأهمية النسبية لضرورة الاقتراب الرسمي العربي من الموضوع الديمقراطي، لكنه اقتراب خجول واستحيائي، وتبلور حتى اللحظة في ممارسات أولية، تتخذ شكل القيام بانتخابات بلدية، وانتخاب نصف مجالس الشورى (باعتبار النصف الآخر يجري تعيينه من قبل الحاكم)، والتفكير في إمكانية إعطاء المرأة حق الانتخاب، والإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين، وربما مظاهر أخرى غيرها. لكنها بقيت في إطار بعيد عن فهم حقيقي لمضمون وجوهر الديمقراطية.
ذلك أنها ما زالت غير مؤهلة بطبيعتها (اعتماداً على عوامل كثيرة) للسير في نهج ديمقراطي حقيقي، أو أنها ليست مؤهلة من الأساس لطرح هذا النهج، الذي يتعارض بالضرورة مع مواقعها وعموم مصالحها. الإخفاق أو التقصيرات في طرح وتبني شعارات النهج الديمقراطي، يطال الجماهير في بعض الدول العربية، بانعدام تشكل حالة وعي بالديمقراطية، تمتد أفقياً بين صفوفها، لإدراك حقوقها الحياتية الأساسية، وذلك من خلال تقصيرات أحزابها وقواها الوطنية بمختلف اتجاهاتها التي تعاني في معظمها من غياب أو تغييب للديمقراطية الحقيقية، كأسلوب تعاط في صفوفها (والقاعدة تقول بأن فاقد الشيء لا يعطيه). ولذلك نجحت الخطط التي استهدفت إغراق المواطن العربي في همومه والعمل طوال ساعات النهار ومعظم الليل، من أجل تدبر قوته وعائلته، على قاعدة فهم استهلاكي، متدرج متطور باستمرار ومخطط له جيداً.. في ظل تغييب قسري لمفاهيم حياتية أساسية: كأهمية تطبيق الديمقراطية كمنهج حياتي كفيل بانتصار هذا المواطن على الجزء الأعظم من مشاكله (وهذا على سبيل المثال لا الحصر بالطبع)، فالعلاقات في الحالة الديمقراطية، متداخلة ومتشابكة، وحل أحد المعضلات الاقتصادية، سينفذ بالضرورة إلى طريق حل الإشكالات الاجتماعية، من ثم السياسية في دائرة العلاقات المجتمعية الديمقراطية بالطبع.
حالة العجز والتردي كسمة عامة في المرحلة العربية الراهنة، هي احد إفرازات غياب الديمقراطية، وتطوير الرؤية في أحد جوانبها تقتضي تغيير الأساليب وآليات الفعل، على قاعدة من الإدراك الحسي والموضوعي، في إطار من الوعي، على طريق تشكيل حالة جماهيرية قوية وضاغطة، لإجبار الآخر على الاستجابة لهذه الحالة، أو ما يمكن تسميته بانتزاع الحقوق انتزاعاً... والوصول إلى ذلك يقتضي جهداً كبيراً من الأحزاب والقوى الوطنية العربية، والمنظمات النقابية الجماهيرية التي تهدف الى جانبين، خلق الثقافة الديمقراطية وعياً ومسلكاً، والنضال في خطة مبرمجة اعتماداً على الجماهير في قوننة هذه الثقافة في البلد المعني، ومن ثم في الحالة العامة العربية، وهذا غالبا ما يقود أيضاً إلى ضرورة الربط ما بين الوطني والقومي، في إطار دقيق من الجمع بين المصالح الوطنية والقومية العامة على قاعدة أجزاء السلسلة وتكاملها.
بالتالي، فإن الذي نراه من هرولة للنظام الرسمي العربي نحو الديمقراطية، هو طريق للهروب إلى الشكل، دون المضمون.
كاتب فلسطيني